يُعد التضليل الإعلامي لخدمة أهداف سياسية أو عسكرية ظاهرة ليست بجديدة، لكنها اكتسبت زخمًا في ظل تطور استراتيجيات التضليل المعرفي الهادف للتأثير في الرأي العام، بعد تنامي أشكالها وصورها في مجتمعاتنا المعاصرة، عقب ثورتي الاتصالات والمعلومات، والتطورات الهائلة في تكنولوجيا معالجة المعلومات.
وعلى الرغم من أن مفهوم التضليل الإعلامي ارتبط في السابق بالنظم الشمولية، لكنه عاد للانتشار بقوة مؤخرًا في مجتمعاتنا المعاصرة كافة، ويعرف بأنه التلاعب بالرأي العام؛ لخدمة أهداف سياسية معينة، وبمعلومات معالجة بطريقة ملتوية. وينتمي هذا النمط من الاتصالات إلى الاتصالات الاستراتيجية المخططة القائمة على مجموعة من العناصر؛ من أهمها تحديد الدوافع، ورصد الأهداف، والمدى الزمني، واستغلال الإمكانات المتاحة من أجل التأثير، فهو نمط من الأداء العقلاني غير العشوائي.
التضليل الإعلامي تكتيك للحرب النفسية
ويزدهر هذا النمط من التضليل في أوقات الحروب، ويستهدف الجوانب النفسية، وتُعد الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حاليًا أحدث النماذج التي يُطبق فيها التضليل الإعلامي، وذلك باستغلال منصات التواصل الاجتماعي التي تتيح رواجًا للتضليل، ووصولًا لقطاعات واسعة من الجمهور، وفيما يلي مجموعة من أبرز النماذج على ذلك التضليل:
تداول صورة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالزيّ العسكريّ ملتقطة العام الماضي 2021، والترويج لها على أنها حديثة أثناء وجوده على الخطوط الأمامية للمواجهة والقتال ضد الجيش الروسي.
كما أعيد نشر مقطع فيديو التقطته وكالة “أسوشيتيد برس” في ليبيا منذ أكثر من عقد، عبر “فيسبوك” و”تويتر”، وروج المستخدمون إلى أنه يظهر طائرة مقاتلة روسية على الأرض بعد أن أسقطتها القوات الأوكرانية.
بالإضافة إلى تداول مستخدمين على مواقع التواصل فيديو قيل إنه لطيار روسي يستعرض قوته في سماء أوكرانيا، إلا أنه ادعاء غير صحيح، فالفيديو لا علاقة له بأوكرانيا، ولكنه يعكس مشاهد من لعبة فيديو، تظهر فيها ومضات دفاعات جويّة تنطلق في سماء مدينة باتجاه طائرة عسكريّة.
وظهر على فيسبوك وتويتر وحتى تليغرام، مقطع فيديو ادّعى ناشروه أنه يُظهر طائرات حربيّة روسيّة تُغير في سماء أوكرانيا، لكن الفيديو، يُظهر في الحقيقة استعراضًا عسكريًّا في فنزويلا.
ويقع هنا على عاتق الإعلام القيام بدوره في كشف الحقائق وفضح عمليات التضليل، وهو ما قامت به صفحة “في ميزان فرانس برس” على موقع التدوينات القصيرة “تويتر”، والتي نشرت تغريدات متتالية ضمّنتها فيديوهات مُضللة لكشف التلاعب الهادف لتضليل الرأي العام بخصوص الحرب على أوكرانيا.
ادعاءات في حرب المعلومات المضللة
ويشير تقرير صادر عن جمعية الخبراء الأوروبية (مجموعة بحثية تركز على الأمن في أوكرانيا)، ومجموعة ريسيت تيك لمراقبة التكنولوجيا إلى وجود ثلاثة ادعاءات رئيسية لا أساس لها من الصحة استخدمت كمبرر لعمل عسكري من قبل روسيا، تمثل أولها في أن أوكرانيا كانت تستعد لهجوم على منطقة دونباس شرق أوكرانيا، إذ تقول ماريا أفديفا، مديرة الأبحاث بالجمعية إن روسيا أرسلت 12 مراسلاً حربيًّا روسيًّا إلى دونباس، بدؤوا في إنشاء مقاطع فيديو وصور مزيفة وأنماط أخرى من رسائل التضليل التي تزعم أن أوكرانيا تهاجم دونباس.
أما الادعاء الثاني – بحسب التقرير- فيتعلق بتخطيط أوكرانيا لمهاجمة الأراضي التي يسيطر عليها الانفصاليون في شرق البلاد باستخدام الأسلحة الكيماوية، إذ قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في خطاب له يوم 21 ديسمبر الماضي إن أوكرانيا لديها أسلحة كيماوية زودتها بها بعض الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة، وإنها تستعد لاستخدام هذه الأسلحة ضد المواطنين في دونباس.
وبعد ذلك ظهرت تلك الرسالة في العديد من القنوات -على تطبيق تليغرام للمراسلة-، والتقطت وسائل الإعلام الحكومية الروسية هذه الادعاءات التي لا أساس لها، وتعمل على تضخيمها مما يمنحها مزيدًا من الوصول.
وفيما يتعلق بالادعاء الثالث، فكشفه إليوت هيغينز، مؤسس موقع “Bellingcat” للصحافة الاستقصائية في هولندا، الذي استخدم أدوات استخبارات مفتوحة المصدر لفضح فيديو تم إصداره في 18 فبراير الجاري على قناة تليغرام التابعة للخدمة الصحفية للقوات الشعبية في جمهورية دونيتسك الشعبية المعترف بها من جانب روسيا فقط.
وأظهرت لقطات فيديو جنودا “يتحدثون البولندية” يحاولون تخريب الدبابات الروسية. ووجد تحقيق أن بعض اللقطات تم تصويرها في أوائل فبراير وتم التقاط الصوت من مقطع فيديو تم تصويره خلال مناورة عسكرية فنلندية في عام 2010. كما تصور العديد من المنشورات المضللة الحكومة الأوكرانية على أنها فاسدة ونازية جديدة ومعادية للروس.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا تعد أول نزاع مسلح كبير في أوروبا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تكون الشاشة الصغيرة للهاتف الذكي هي أداة الاتصال المهيمنة، وهي تحمل في طياتها خطر الانتشار الفوري للمعلومات المضللة الخطيرة والمُميتة.
فحملة التضليل خلال الحروب تكون فعالة للغاية لجملة من العوامل، منها حجمها الهائل ووجود بيئة يسودها القلق والتوتر، وبالتالي يفتقد الجمهور القدرة على المراجعة والتدقيق، إذ إنه عندما يتم طرح الكثير من المعلومات الخاطئة، يصبح من الصعب التدقيق في الحقائق كون تلك العملية تستغرق وقتًا طويلًا.
ولا يقتصر التضليل والحرب النفسية على الصورة أو مقاطع الفيديو وإن كان التطور التقني يعطيهما ميزة نسبية في الانتشار، بل إنه يشمل أيضًا التصريحات الصادرة عن أطراف النزاع مثل الإعلانات المتبادلة بين الجانبين الروسي والأوكراني عن تكبد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لا سيما إسقاط طائرات حربية، فكل ما يرد في تلك البيانات، يعبر عن رواية منحازة للطرف المروج لها ولا يمكن التثبت بدقة من صحتها، وتدخل ضمن هذه العملية أيضًا تصريحات المسؤولين الأمريكيين عن صلابة المقاومة الأوكرانية، وإحباط الروس نتيجة ذلك.
وإجمالًا فإن أهم ما يستهدفه التضليل الإعلامي هو إحداث التأثير النفسي سواء في الأنصار لرفع روحهم المعنوية وتماسكهم أو في الأعداء لإحباطهم.
كما يستخدم أيضًا في محاولة شرعنة الاعتداء وإيجاد المبررات الدافعة له.
3 دقائق