تقارير

معالجة الإعلام الأمريكي والروسي للأزمة الأوكرانية

يُعد الإعلام برافديه التقليدي والجديد أحد أكثر أسلحة العصر الحديث خطورة وفاعلية وتأثيرًا في الصراعات الدولية، فهو أداة لصنع الأحداث والتأثير على مجرياتها واتجاهاتها، بالنظر إلى ما يتوفر له من قدرات هائلة تساعده على نشر المعلومات بسرعة كبيرة، واجتيازه للحدود، وأيضًا لقدرته على التأثير النفسي على الأفراد والسيطرة الفكرية على المجتمعات، وتوجيه السلوكيات، الأمر الذي تزداد أهميته، وتشتد الحاجة إليه خلال الأزمات الدولية الكبرى التي تكون محط أنظار العالم.
وغالبًا ما تعمد أطراف الأزمة إلى استخدام نمط الحملات الإعلامية المكثفة لنقل كميات وجرعات متفاوتة ومتزايدة من الأخبار والمعلومات إلى جمهور الأزمة، ورسمها بشكل معين لتعطي انطباعًا محددًا مستهدفًا لديهم.
وتعد الأزمة الأوكرانية الراهنة نموذجًا واضحًا على هذا النمط من الحملات التي يمكن للمتابع لوسائل الإعلام الأمريكية والروسية رصدها، وهو ما نستعرضه من خلال ثلاثة محاور على النحو التالي:
مصادر التغطية للأزمة الأوكرانية
يغلب على تغطية وسائل الإعلام الأمريكية للأزمة الأوكرانية الاعتماد على مصادر رسمية وغير رسمية، وهو ما يظهر على سبيل المثال في الأخبار والتقارير التي تنشرها صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز ومجلة بوليتيكو، وشبكة “سي.إن.إن” والإذاعة الوطنية العامة، إذ تستند على تصريحات للرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار المسؤولين في إدارته، وفي مقدمتهم وزيرا الدفاع لويد أوستن والخارجية أنتوني بلينكن، أو تلك المنسوبة إلى مصادر استخباراتية مجهولة أو معلومات توفرها شركات خاصة مثل شركة ماكسار تكنولوجيز الأمريكية المتخصصة في التصوير عبر الأقمار الصناعية؛ واللافت أن تلك المصادر على تعددها تطرح نفس الرسالة التحذيرية من غزو روسي وشيك للأراضي الأوكرانية.
في المقابل، تعتمد وسائل الإعلام الروسية – وكالتا نوفوستي وتاس للأنباء وشبكة “آر تي” الإخبارية، كنماذج – بشكل شبه حصري على المسؤولين الروس في المستوى السياسي فقط، فلا يوجد ظهور لمسؤولين عسكريين، والتغطية الميدانية المتعلقة بتطورات الاشتباكات والقصف في إقليم دونباس بشرق أوكرانيا مصدرها الدوائر الأمنية في دونيتسك ولوغانسك والقادة المحليون في المنطقتين.
زوايا التناول للتطورات في شرق أوكرانيا
تُشكّل الأزمة الأوكرانية واحدة من الأزمات المركبة على الساحة الدولية، إذ تتداخل فيها أبعاد سياسية واقتصادية واستراتيجية وتاريخية وإنسانية، لذا فإن كل بعد من هذه الأبعاد جدير بأن ينال نصيبًا ملائمًا في مساحات التغطية الإعلامية، وإن تفاوتت تبعًا لأجندة الوسيلة الإعلامية، وأسلوب معالجتها وتأطيرها للحدث.
وبالنظر إلى تلك المحددات، نجد أن وسائل الإعلام الأمريكية سلطت تركيزها بشكل كبير على الجوانب الاقتصادية عبر مواد صحفية تحليلية تتناول تأثيرات الحرب في أوكرانيا على إمدادات الطاقة وسوق النفط والبورصات، وكذلك الأبعاد الاستراتيجية المتعلقة بما وصفته تقارير متعددة بطموحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإحياء الإمبراطورية الروسية، والصراع بين موسكو وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
أما تناول وسائل الإعلام الروسية السالف ذكرها، فكان أكثر شمولًا؛ إذ لم تختزل الأزمة في زاوية صراع جيوسياسي، فالمواد الإخبارية والتحليلية تطرقت إلى جوانب تاريخية حول إقليم دونباس وروسيا التاريخية، وسياسية حول تعثر اتفاقية مينسك الخاصة بتسوية الصراع بين قادة الإقليم والحكومة الأوكرانية، وإنسانية تتعلق بأوضاع السكان لا سيما الناطقين بالروسية في دونباس، واستراتيجية تتركز على مطالب موسكو بعدم توسع حلف الناتو شرقا، أو انضمام أوكرانيا إليه.
توصيف الأحداث في أوكرانيا وأطرافها
تلعب السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية دورًا مؤثرًا في معالجتها للأحداث، وهو ما ينعكس ليس فقط على زوايا التناول، بل أيضًا على صياغة المحتوى الإخباري أو التحليلي والتوصيفات الخاصة بأطراف الصراع، وتجلى ذلك بشكل واضح في استخدام وسائل الإعلام الأمريكية مفردات، مثل: “الغزو الروسي” و”العدوان الروسي” و”الانفصاليون الموالون لموسكو” و”المناطق الانفصالية في دونباس”. وعلى النقيض يصف الإعلام الروسي تلك المناطق بـ”الجمهوريات المعلنة من جانب واحد”، وهو التوصيف الذي تغيّر لاحقًا مع إعلان موسكو اعترافها رسميًّا بتلك الجمهوريات، والذي استخدمت معه مفردة “استقلال” لا “انفصال”، وتبنى وصف القوات الروسية المزمع إرسالها لشرق أوكرانيا بأنها “قوات حفظ السلام”، واستخدام مصطلحات ذات بعد إنساني مثل “الإبادة الجماعية” لتوصيف الوضع في شرق أوكرانيا، وما يتعرض له السكان الناطقون بالروسية الذين تطلق عليهم اسم “شعب دونباس”.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الأخبار تمثل الشكل الأكثر توظيفًا في التعبير عن الوقائع والأحداث، كما تضطلع بدور حيوي في تقديم المتابعات اليومية، ولم يعد توظيف الأخبار في العمل الإعلامي يقف عند حدود المعالجة التسجيلية للأحداث، وإنما يمتد نطاق التغطية الخبرية؛ ليتضمن معرفة الأسباب والمتغيرات المحتملة للحدث مع إدخال تغييرات في بنية الخبر ليتحول إلى قصة خبرية توظف مزيجًا من المصادر لشرح الحدث للجمهور بما يتناسب مع السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية.
ونخلص أيضًا إلى أن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا تستخدم وسائل الإعلام كسلاح في معاركها، عبر إجراء تدخلات في مجال وصف الوقائع ومواقف القوى الفاعلة والأطراف المتضمنة في الأحداث موضع التغطية من أجل التحكم في الرسالة الاتصالية الموجهة للجمهور الذي يبني إدراكه بناء عليها، وقد تشمل تلك التدخلات طبيعة المصادر، وتركيز الضوء على بعض الجوانب أو تجاهلها، وتوظيف دلالات اللغة المستخدمة في الأخبار.

زر الذهاب إلى الأعلى