شكل عام 2021 عامًا استثنائيًا في مسيرة العمل الخليجي المشترك، تجلى خلاله الدور القيادي التاريخي للمملكة العربية السعودية وحرصها الدائم على الحفاظ على وحدة الصف وتعزيز اللحمة الخليجية، وجهود القيادة الرشيدة للمملكة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله- التي تضع نصب أعينها مصلحة المواطن الخليجي والحفاظ على المكتسبات المتحققة على مدى 4 عقود منذ تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بجانب تعزيز منظومة الأمن القومي الخليجي في ظل بيئة إقليمية ودولية مليئة بالتحديات والتهديدات.
وقد كانت بداية العام من العُلا حيث القمة الخليجية الـ41 التي سطرت في 5 يناير الماضي فصلًا جديدًا من فصول مسيرة التعاون والتآخي بين دول الخليج العربي، وطوت إلى غير رجعة صفحة خلاف استمر على مدى 3 أعوام ونصف العام، لتعود العلاقات الأخوية الخليجية إلى مجراها الطبيعي، وسيكون ختامه أيضا على أرض المملكة المباركة حيث تستضيف الرياض القمة الخليجية الـ42 في الرابع عشر من ديسمبر الجاري، والتي تستهدف تكريس التقارب الخليجي، والمزيد من العمل لتحقيق تكامل شامل بين دول المجلس. ومواكبة لتلك الأهداف جاءت الجولة الخليجية لصاحب السمو ولي العهد، أيده الله، وهي ثاني زيارة إلى الخارج منذ بدء جائحة فيروس كورونا- بعد رحلة قصيرة إلى مصر في وقت سابق من العام الجاري، وتشمل تلك الجولة جميع دول مجلس التعاون، سلطنة عمان والإمارات والبحرين وقطر والكويت.
جولة تؤكد الطابع الاستراتيجي لمخرجات قمة العُلا
تكرس الجولة الخليجية لسمو ولي العهد الطابع الاستراتيجي لمخرجات قمة العُلا، فهي مقدمة واضحة لانطلاقة خليجية جديدة، إذ تشمل مباحثات الأمير محمد بن سلمان في المحطات الخمس لتلك الجولة ملفات سياسية واقتصادية وأمنية تحتكم إلى قاعدة المصلحة الخليجية المشتركة في تعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي، وضمن إطار توجهات خليجية لتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط وهو اتجاه تقوده المملكة العربية السعودية، ويتماشى مع إطلاق دول مجلس التعاون الخليجي لرؤى تنموية وطنية من أبرزها رؤية السعودية 2030، ورؤية قطر الوطنية 2030، ورؤية الكويت 2035، ورؤية عُمان 2040.
وتأتي الجولة أيضًا بعد حراك مكثف على مدى الأشهر الماضية وتحديدًا منذ يناير الماضي، حيث التبادل النشط للزيارات بين المسؤولين السعوديين ونظرائهم في الدول الخليجية، كما استقبلت المملكة العديد من القادة الخليجيين في زيارات متعددة.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ما وضعته السياسة السعودية الحكيمة من ركائز وأطر مؤسسية متينة للشراكة على المستوى الثنائي مع الدول الخليجية تتمثل في المجالس التنسيقية التي أسستها المملكة مع كافة الدول الخليجية؛ مجلس التنسيق السعودي الإماراتي الذي تأسس في مايو 2016، مجلس التنسيق السعودي الكويتي (يوليو 2018)، مجلس التنسيق السعودي البحريني (يوليو 2019)، مجلس التنسيق السعودي العماني (يوليو 2021)، وأخيرًا مجلس التنسيق السعودي القطري الذي تأسس في أغسطس 2021 أي قبل 4 أشهر فقط.
كما تستهدف جولة سمو ولي العهد تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الخليجية الخمس، عبر مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والاستثمارات المشتركة في جميع المجالات بما يعود بالنفع على الجميع، ومن أبرز تلك المجالات التقنيات المتقدمة والابتكار ومشاريع الطاقة المتجددة والنقل والعقارات والسياحة وصناعات تحويل البتروكيماويات، وسلاسل التوريد والشراكة اللوجستية وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا المالية. ولعل افتتاح أول طريق بري بين السعودية وسلطنة عمان، الذي يخترق صحراء الربع الخالي وأثره الإيجابي على حركة التجارة البينية، أحد المؤشرات على ما ستشهده المرحلة المقبلة من طفرات في مسيرة العمل الخليجي المشترك.
ترتيب أوراق البيت الخليجي في مواجهة المستجدات الإقليمية
لا يمكن النظر إلى الجولة الخليجية لسمو ولي العهد بمعزل عن التطورات الإقليمية، والتي تتمثل في ملفين رئيسيين الأول يتعلق بمساعي بعض الدول والقوى الإقليمية للتودد للخليج عمومًا والرياض على نحو خاص وإصلاح العلاقات مع المملكة واسترضائها، بعدما أيقنت تلك الدول أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز السعودية، أو الاستمرار في مشاريعها التي تضر بمصالح الخليج والعرب عمومًا والتي قوبلت بمواقف حازمة وقرارات حاسمة وإجراءات رادعة من جانب المملكة سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، مما أجبر تلك الأطراف على مراجعة مواقفها وسياساتها.
أما الملف الثاني، فيتصل بالتحديات الأمنية غير المسبوقة التي تواجهها منطقة الخليج العربي والمرتبطة بالأساس بالسلوك غير المسؤول من جانب إيران على صعيد برنامجها النووي وتجاربها الصاروخية وتسليحها ودعمها للميليشيات الإرهابية في المنطقة- كالمتمردين الحوثيين في اليمن وجماعة حزب الله في لبنان- وتوظيفهم في إطار مشروعها التخريبي الساعي لزعزعة استقرار المنطقة.
وتواكب جولة الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، تطورين مهمين على صعيد هذين المسارين، ففيما يتعلق بإيران، تسود حالة من الجمود المحادثات التي تجريها طهران مع القوى العالمية في فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني، التي كانت قد استؤنفت أخيرًا بعد توقف دام خمسة أشهر، إذ أعلن مسؤول أمريكي أن إيران تراجعت عن التنازلات التي قدمتها في الجولات الست السابقة من المحادثات، فيما عبر الأوروبيين عن “خيبة أملهم وقلقهم” من مطالب طهران التي قدم كبير مفاوضيها، علي باقري اقتراحين “الأول حول رفع العقوبات” والآخر يتعلق “بالأنشطة النووية”.
ومع تعقد المشهد التفاوضي، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، محادثات فيينا بغير الناجحة، مؤكدًا ضرورة إشراك “أصدقاء فرنسا” بالمنطقة ومن بينهم السعودية في تلك المحادثات.
وتأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى الإمارات غداة زيارة نادرة قام بها مستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد إلى طهران استمرت يومًا واحدًا، التقى خلالها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في تطور نوعي لمسار العلاقات الخليجية مع إيران خلال الفترة الأخيرة، سبقه “محادثات استكشافية” جمعت السعودية وإيران، فبحسب تصريحات سابقة لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، تم عقد 4 جولات في إطار تلك المحادثات التي لا تزال في مراحلها الاستكشافية، داعيًا الجانب الإيراني إلى العمل بطريقة إيجابية تؤدّي إلى الأمن والاستقرار والازدهار.
أما عن تركيا، فقد أظهرت على مدى الأشهر السابقة مرارًا وتكرارًا في تصريحات رسمية لمسؤوليها الرغبة في التقرب من المملكة، وكان أحدث تلك التصريحات ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال مقابلة أجرتها معه قناة “تي.آر.تي” الحكومية بأن تركيا “ستعمل على الارتقاء بالعلاقات مع السعودية إلى مكانة أفضل”.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن مباحثات سمو ولي العهد في مختلف محطات تلك الجولة الطويلة تعكس حرصه، أيده الله، على توحيد الرؤى وتنسيق المواقف الخليجية تجاه تلك الملفات ذات الطبيعة الأمنية والاستراتيجية بما يحفظ الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي، ووضع أسس وثوابت للعلاقات مع القوى الإقليمية تقوم على التزام تلك القوى بمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشأن الخليجي والامتناع عن دعم الإرهاب والميليشيات المسلحة بأي شكل من الأشكال.
كما تهيئ جولة سمو ولي العهد الأجواء للانطلاقة المرتقبة لقمة الرياض كي تخرج بحزمة جديدة من القرارات المُعززة للحمة الخليجية، والداعمة لجهود انتقال مجلس التعاون الخليجي من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد التي ينشدها كل مواطن خليجي، لتكون قمة الرياض خير ختام لهذا العام الذي شهد تعزيزًا للتآخي الخليجي على أرض المملكة المباركة وبجهد قيادتها الحكيمة التي كانت ولا تزال وستظل دومًا المدافع الأول عن أمن واستقرار ومصالح الدول الخليجية.
وإجمالًا.. يمكن قراءة هذه الجولة من منظور الدور القيادي للمملكة العربية السعودية، وسعيها المستمر لتعزيز البيت الخليجي وترسيخ التعاون وحماية مصالح شعوب دول مجلس التعاون.
ومن العوامل التي تُزيد من أهمية جولة سمو ولي العهد، تزامنها مع تحركات دبلوماسية نشطة تشهدها المنطقة، ولذلك فإن تنسيق المواقف الخليجية والاتفاق على رؤى موحدة حول مختلف الملفات الإقليمية هو ضرورة ملحة للحفاظ على المصالح الخليجية والعربية بشكل عام.
وفي هذا الصدد، يمكن الاستشهاد بما صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمره الصحفي عقب مباحثاته مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حينما قال: “جزء كبير من مستقبل المنطقة يُرسم في السعودية والحوار معها ضروري لما لها من ثقل سياسي واقتصادي وثقافي في المنطقة”.
هذه العبارة هي انعكاس للواقع وتوصيف دقيق له ولموازين القوى في المنطقة، ونُضيف عليها “أنه كما أن الحوار مع السعودية ضروري، فإن الإنصات للمملكة والتعرف على وجهة نظرها وتقديراتها حول مختلف القضايا والأحداث هو أمر حتمي.
ولذلك تأتي الأهمية الكبرى لجولة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظه الله.