أدى التطور السريع في تكنولوجيا الإنترنت إلى تغيير أساليب التواصل بين أفراد الجمهور ومشاركة الأخبار والمعلومات خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت هذه التقنيات الرقمية جزءًا أساسيًا من حياة الطلاب اليومية للترفيه، وأداة رئيسية لخلق المعرفة ونشرها.
إلا أن انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين فئات الطلاب أو الشباب، وبشكل خاص الإناث، قد يؤدي إلى إدمان استخدام هذه الوسائل بما يؤثر سلبيًا على علاقاتهم الشخصية مع الآخرين، ومدى تقبلهم لذواتهم وسماتهم الجسدية.
وعلى هذا النحو برز في الدول الغربية الاهتمام البحثي بموضوع الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال قامت جامعة ميريلاند في عام 2010 بإجراء تجربة تستهدف منع استخدام أجهزة الطلاب الرقمية لمدة 24 ساعة، حيث لوحظ على الطلاب أعراض الانسحاب، وهي أعراض مشابهة لأعراض انسحاب الكحول أو المخدرات من الجسم، كما أثبت باحثون أن الابتعاد عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي جعل الطلاب أكثر عرضة للشعور بالخوف من فقدان الأخبار أو المعلومات كما زاد من رغبتهم في البقاء على اتصال مستمر مع الآخرين، وهو ما يعرف بــ “Fearing of Missing Out”، إلا أن هذا الشعور بالخوف بدأ في الانخفاض بعد الابتعاد عن هذه المنصات لفترة من الوقت.
ومن هذا المنطلق، سعت دراسة نشرتها المجلة المصرية لبحوث الإعلام بعنوان “التنظيف من السموم الرقمية” للدكتورة ميسون أسامة السباعي، الأستاذ المساعد بكلية الاتصال والإعلام بجامعة الملك عبد العزيز إلى التعرف على طبيعة استخدامات طالبات الجامعة لوسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيرات التوقف عن استخدام بعضها لمدة ثلاثة أيام، وبالتحديد كل من تويتر وسناب شات والواتس آب واليوتيوب والإنستجرام.
الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي / التخلص من السموم الرقمية
يُعرف مصطح التخلص من “السموم الرقمية – Digital detox” في قاموس أكسفورد على أنه “فترة زمنية يمتنع فيها الشخص عن استخدام الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر، التي تعتبر فرصة لتقليل الضغط أو التركيز على التفاعل الاجتماعي في العالم المادي”.
وتختلف فترات الامتناع الرقمي من قضاء ساعة أو ساعتين دون الهاتف النقال إلى الانقطاع الرقمي في العطلات لعدة أسابيع. ويتنوع نوع الوسيط المستخدم في الانقطاع، حيث إن التخلص من السموم قد يكون في الامتناع عن استخدام الإنترنت مثل وسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو الرقمية، وقد يعني أيضًا الامتناع عن استخدام وسائط أخرى مثل التلفزيون أو البرامج ذات الصلة بالعمل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدراسة اعتمدت على مصطلح الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويقصد به الفترة الزمنية التي يمتنع فيها الفرد عن الدخول إلى وسائل التواصل الاجتماعي سواء من خلال الهاتف الذكي أو أجهزة الكمبيوتر.
مشكلة وعينة الدراسة
تتحدد مشكلة الدراسة في تقييم تجربة التنظيف من السموم الرقمية بالتطبيق على عينة من طالبات الجامعة، والتعرف على دور الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في منح الطالبات فرصة للتعرف على مجالات أخرى يمكن عملها أو استعمال طرق أخرى للتواصل وبناء علاقات اجتماعية لا تعتمد على وسائل التواصل عبر الإنترنت.
وقد تم تطبيق الدراسة على عينة من 150 طالبة بكالوريوس في مادة المدخل إلى وسائل الإعلام وهي مادة عامة تابعة لكلية الاتصال والإعلام يتم تدريسها لطالبات جامعة الملك عبد العزيز. وتم اختيار طالبات البكالوريوس عينة للبحث نظرًا لارتفاع معدلات استخدامهن لوسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل حيزًا كبيرًا من اهتمامتهن، كما ينخرطن في أنشطتها الاتصالية المختلفة.
وبلغت نسبة من تتراوح أعمارهن بين 18 و20 عامًا ( 82.7%)، مقابل (17.3%) لمن تتراوح أعمارهن بين 21 و23 عاما، أما فيما يتعلق بالسنة الجامعية فقد بلغت نسبة طالبات السنة الثانية (66%) وكانت نسبة طالبات السنة الثالثة (17.3%)، ونسبة طالبات السنة الرابعة (12%)، وأخيرًا بلغت نسبة طالبات السنة الخامسة (4.7%). وحول الكلية بلغت نسبة طالبات كلية الاتصال والإعلام 57.3%. وكانت نسبة طالبات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (23.3%) ونسبة طالبات كلية القانون (12.7%)، وأخيرًا بلغت نسبة طالبات كلية علوم الإنسان (0.7%).
واعتمدت الدراسة في بنائها النظري على كل من نظرية الإزاحة ومفهوم الخوف من الفقدان، على النحو التالي:
✔ نظرية الإزاحة Displacement Theory
تعرف الإزاحة بأنها استبدال وسيلة بأخرى مع مرور الوقت كبديل أفضل يقدم نفس الوظيفة من وجهة نظر المستخدمين، ويوجد نوعان من النزوح هما الاستبدال الكامل بوسيلة أخرى أو الاستبعاد والاستبدال الجزئي لها ويعرف بالنزوح التنافسي.
✔ مفهوم “الخوف من الفقدان – Fearing of Missing Out”
يعني رغبة الأشخاص في البقاء على اتصال مستمر للتعرف على ما يفعله الآخرون، وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي مستويات كبيرة من المشاركة الاجتماعية، لذلك تعتبر الخدمات التي تقدمها ميزة خاصة لأولئك الذين يتصارعون مع الخوف من الفقدان.
وسبق تلك الدراسة إجراء دراسة استطلاعية بالتطبيق على الطالبات بهدف معرفة أهم منصات التواصل الاجتماعي التي يستخدمنها بشكل متكرر، وذلك لاختيار المنصات ذات التكرار العالي لتطبيق الامتناع عليها وتمثلت في “سناب شات” بنسبة 78.7%، ثم “الواتس آب” بنسبة 76% يلي ذلك تويتر بنسبة 56%، ثم إنستجرام بنسبة 53.3% وأخيرًا “الفيسبوك” بنسبة 1.3%.
وجرى اتباع المنهج التجريبي عن طريق أداة الاستبيان (قبل وبعد التجربة) من أجل توضيح مدى تأثير الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة 3 أيام على عينة من طالبات جامعة الملك عبد العزيز وتأثير هذا التوقف على العلاقات الاجتماعية والأداء الأكاديمي وتقدير الذات واستخدام وسائل اتصال أخرى.
نتائج الدراسة
أظهرت نتائج الدراسة أن 54.7% من الطالبات في الجامعة قمن بالتوقف عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفترة من الوقت، في حين أن 45.3% منهن لم يتوقفن عن استخدامها.
كما أفادت 43.3% من الطالبات عينة الدراسة بأنهن يستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي لأكثر من ساعتين، و20.7% من ساعة ونصف إلى ساعتين و20.7% لم يحددن عدد ساعات الاستخدام، و8% يستخدمنها لمدة تتراوح ما بين 30 إلى 44 دقيقة، و4.7% من 45-59 دقيقة، و2% من 15 إلى 29 دقيقة، 0.7% لمدة من صفر إلى 14 دقيقة.
كما كشفت النتائج أن “الواتس آب” يعد أكثر منصة شكلت تحديا لقرار المبحوثات الخاص بالتوقف عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يليه منصة “سناب شات”، وأظهرت 73.3% من الطالبات رغبة في تكرار تجربة الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي لعدة أسباب، منها الشعور بالراحة النفسية والحرية وتحقيق التواصل المباشر مع العائلة، والحاجة إلى العزلة وتنظيم الوقت.
وأظهرت نتائج الدراسة أن شعور الخوف من الفقدان لدى طالبات الجامعة انخفض بشكل كبير في اليوم الثاني والثالث للتجربة مقارنة باليوم الأول، مما يؤكد صحة مفهوم انخفاض الخوف من الفقدان بعد الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفترة من الوقت. كما تثبت صحة الفرض القائل بوجود فروق ذات دلالة إحصائية لدى عينة الدراسة في العلاقات الاجتماعية (العائلة/ الأصدقاء) قبل وبعد الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي.
كما ثبتت صحة الفرض القائل بوجود فروق ذات دلالة إحصائية لدى عينة الدراسة في الأداء الأكاديمي قبل وبعد الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي. وثبت أيضًا صحة الفرض القائل بوجود فروق ذات دلالة إحصائية لدى عينة الدراسة في استخدام وسائل اتصال أخرى قبل وبعد الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أثبتت الدراسة اختلاف مستوى قراءة الكتب ومشاهدة التلفزيون والتحدث في الجوال لدى عينة الدراسة قبل وبعد الامتناع عن استخدام منصات التواصل الاجتماعي.
من جهة أخرى، عززت نتائج الدراسة وجهة النظر المفترضة عن نظرية الإزاحة، وهي استغلال الوقت الناتج عن الامتناع عن وسائل التواصل الاجتماعي لدى الطالبات والنزوح إلى أنشطة مختلفة تتمثل في التواصل الاجتماعي لدى الطالبات والنزوح إلى أنشطة مختلفة تتمثل في التواصل مع الأهل والأصدقاء والاهتمام برفع الأداء الأكاديمي، واستخدام وسائل أخرى (كقراءة الكتب ومشاهدة التلفزيون والتحدث عبر الهاتف).
وبينما أظهرت الدراسة وجود أنشطة إضافية مارستها الطالبات خلال فترة الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل الرسم وممارسة الألعاب الرياضية والتطوع في العمل الخيري وإعداد الطعام. لم تثبت صحة الفرض القائل بوجود فروق ذات دلالة إحصائية لدى عينة الدراسة في تقدير الذات قبل وبعد الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
توصيات الدراسة
استعرضت الدراسة سلسلة من التوصيات في مقدمتها التركيز على دراسة الفروق قبل وبعد الامتناع عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي حسب مختلف العوامل الديموغرافية مثل الجنس (الإناث/ الذكور) والفئة العمرية والمستوى التعليمي والبلد، فضلًا عن إجراء مزيد من الدراسات التجريبية في مجال التنظيف من السموم الرقمية.
كما أوصت أيضًا باستخدام أحد تطبيقات الجوال التي توضح عدد ساعات دخول المشاركين لوسائل التواصل الاجتماعي للتأكد من أنهم لا يقومون بالغش أو التوقف عن التجربة.
وفي حين شكلت منصتا “الواتس آب” و”سناب شات” تحديًا كبيرًا للإناث في هذه التجربة، لذا من المثير للاهتمام اختبار المنصات التي تشكل تحديًا للذكور ومقارنتها مع نتائج هذه الدراسة.
واقترحت الدراسة أيضًا إقامة ورش عمل للشباب والشابات وشرح مدى أهمية التوازن في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأخذ فترات من الراحة من استخدامها لما يعكسه ذلك من تأثيرات إيجابية على الطلاب والطالبات مثل التواصل الاجتماعي وجهًا لوجه وتعلم التنظيم الذاتي، وتحمل المسؤولية الشخصية والتعرف على مهارات إضافية يمكن عملها خارج نطاق الإنترنت، فضلًا عن التوازن بين المخاطر والضغوط في حياتهم.
بالإضافة إلى إجراء دراسات مطولة من خلال القيام بدراسات تجريبية لمدة معينة ثم تكرار التجربة مرة أخرى مع نفس المبحوثات وقياس نفس المتغيرات قبل وبعد الرجوع إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
كما أوصت الدراسة بتأكيد الدور الإرشادي لأفراد الأسرة والتربويين لمساعدة الشباب والشابات على استغلال وقت الفراغ في أمور مفيدة بدلًا من قضاء وقت طويل في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للهروب من مواقف الحياة اليومية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي رغم تقديمها كثيرًا من الإيجابيات مثل التواصل مع الأصدقاء وممارسة الأنشطة الترفيهية واكتساب مهارات التعلم والبحث والمشاركة في الرأي، فإنها تؤدي إلى زيادة العزلة والهروب من العلاقات الاجتماعية، وعدم قضاء وقت كاف مع الأسرة والأصدقاء، لذلك من الأهمية بمكان ترشيد استخدام تلك المنصات من أجل إفساح المجال أمام ممارسة الأنشطة في الواقع، بدلًا من إنفاق الوقت بالكامل على التفاعلات في الفضاء الرقمي.