على وقع أزمة الطاقة المستفحلة في لبنان، التي تشكل أحد مظاهر انهيار الدولة وقدرتها على توفير الخدمات لمواطنيها، أطلق الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله خلال الأيام الماضية سلسلة من التصريحات تلقي بالرهان على حلول إيرانية للخروج جزئيًا من تلك الأزمة، فكانت البداية بإعلانه عن انطلاق سفينة تحمل وقودًا من إيران إلى لبنان وما لبث أن تحدث عن سفينة ثانية، ثم اقتراحه المثير للجدل بشأن الاستعانة بشركة إيرانية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية.
وتشير مقاربة حزب الله إزاء الأزمة الراهنة إلى رهان كامل على الدعم الإيراني، وتعزيز الوجود الاستراتيجي لطهران في لبنان ورغبة في توسيع نفوذ إيران في البحر المتوسط، في مسعى جديد من جانب نظام الملالي للتموضع في تلك المنطقة الاستراتيجية، لتكون ورقة جديدة تستغلها إدارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في سياق محادثات فيينا الرامية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني والتي أصابها الجمود خلال الشهرين الماضيين.
ما أسباب أزمة الوقود في لبنان؟
يواجه لبنان منذ صيف 2019 انهيارًا اقتصاديًا غير مسبوق يعد ضمن الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر بحسب تقدير البنك الدولي، إذ بات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، في حين فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 % من قيمتها أمام الدولار، وقد أدت التجاذبات السياسية إلى حالة من الجمود في ملف تشكيل الحكومة اللبنانية خلفا لحكومة حسان دياب التي أعلنت استقالتها عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس عام 2020، مما أدى إلى تعطيل الخطوات اللازمة لإقرار برنامج إصلاح شامل يحظى بثقة المجتمع الدولي، ويؤهل لبنان للحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي يساعدها على الخروج من أزمتها الاقتصادية الطاحنة.
وقد شكلت أزمة الطاقة وتفاقمها خلال الأسابيع القليلة الماضية أحد أبرز مظاهر الأزمة اللبنانية، إذ تراجعت تدريجيًا قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على توفير التغذية لكافة المناطق، ما أدى إلى رفع ساعات التقنين لتتجاوز 22 ساعة يوميًا. ولم تعد المولدات الخاصة قادرة على تأمين المازوت اللازم لتغطية ساعات انقطاع الكهرباء.
وأثارت هذه الأوضاع المأساوية تحذيرات أممية من تأثير أزمة الوقود على وصول خدمات الرعاية الصحية وإمدادات المياه إلى ملايين اللبنانيين، مع التأكيد على الحاجة الماسة لتجنب وقوع كارثة، لا سيما في ظل تأثر القطاعات الخدمية الحيوية، فعلى سبيل المثال قلصت المستشفيات أنشطتها بسبب نقص الوقود والكهرباء وهو ما يشكل خطرًا محدقًا على الصحة العامة بالتزامن مع أزمة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19”.
ما ملامح استراتيجية حزب الله في التعامل مع الأزمة الراهنة؟
تقوم استراتيجية حزب الله في التعاطي مع الأزمات الداخلية في لبنان دائمًا على بُعدين رئيسيين وهما التجاهل التام للحكومة والتحرك بمعزل عنها، أما البعد الثاني فيتعلق بالاستعانة بالدعم الإيراني وتصوير طهران على أنها حليف موثوق للشعب اللبناني، في حين أن تلك الأزمات في حقيقتها هي نتاج طبيعي لعدم خضوع حزب الله لسلطات الدولة اللبنانية، وتوريطه لبنان في الصراعات الإقليمية بما يخدم مصالح إيران، فالجماعة وأعضاؤها وأمينها العام يدينون بالولاء لطهران، وهم مجرد أدوات لتنفيذ مشروع نظام الملالي التخريبي في المنطقة.
وعلى هذا النحو، لم يكن من المفاجئ أن يعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله في 19 أغسطس الجاري عن انطلاق سفينة تحمل وقودا من إيران إلى لبنان، في محاولة لحل أزمة شُح الوقود، محذرًا من أي استهداف للسفينة الإيرانية بقوله: “نعتبرها أرضا لبنانية”، في لهجة توحي بأن الحزب احتكر سلطة الدولة.
لكن كلمة نصر الله التي ألقاها قبل يومين واقترح فيها الاستعانة بشركة إيرانية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية واستخراجه في حال لم تتوفر شركات أجنبية، تكشف النقاب عن مخطط جيوسياسي أوسع تسعى طهران من خلاله إلى الوصول للبحر المتوسط وترسيخ وجودها في تلك المنطقة، التى لطالما سعت إلى النفاذ إليها، عبر طرح مشاريع عدة من أبرزها مشروع يستهدف إنشاء ممر بري يمتد من إيران إلى العراق ثم شمال شرق سوريا، وينتهي بميناء اللاذقية على البحر المتوسط.
ومما لا شك فيه سيكون لتنفيذ مقترح نصر الله بشأن استعانة لبنان بالشركات الإيرانية في التنقيب عن النفط تداعيات قانونية واقتصادية وعسكرية كارثية على لبنان، فمن ناحية سيجعل بيروت في مرمى العقوبات الأمريكية، لا سيما وأن الولايات المتحدة قامت بمعاقبة عشرات الأفراد والمؤسسات التي تتعامل مع إيران، حيث تفرض السلطات الأمريكية منذ عام 2018 عقوبات على كل من يقدم عن علم على الدخول بصفقات مع شركات النفط الإيرانية في سبيل شراء أو حيازة أو بيع أو نقل أو تسويق البترول أو المنتجات البترولية من السلطات الإيرانية.
ومن ناحية أخرى، سيؤدي التعاون بين لبنان وإيران في استخراج النفط إلى تقويض المحادثات التي جرت بين لبنان وإسرائيل بوساطة أمريكية وبرعاية الأمم المتحدة من أجل تسوية النزاع بشأن ترسيم الحدود البحرية والسيادة على مناطق غنية بالنفط والغاز في شرق البحر المتوسط، كما أنه ينذر بصراع عسكري بحري سيفتح على لبنان جبهة جديدة للقتال، إذ ستلجأ إسرائيل حتمًا للقوة العسكرية من أجل منع أي تموضع بحري إيراني- بصرف النظر عن كونه ظاهريًا نشاطًا اقتصاديًا- في المنطقة، وما يعزز من ذلك التصور أن إسرائيل تشن ضربات عسكرية شبه دورية في سوريا لمنع إيران من التموضع العسكري قرب حدودها الشمالية.
ماذا عن الموقف الأمريكي من إعلان نصر الله؟
في ظل الكارثة الإنسانية المحدقة بلبنان وعجز الحكومة اللبنانية عن العمل لحل مشكلة نقص الوقود، أبدت الولايات المتحدة سياسة أكثر مرونة للتعامل مع ذلك الوضع، إذ صرحت السفيرة الأمريكية لدى بيروت، دوروثي شيا أن الولايات المتحدة تعمل عن كثب مع مصر والأردن والبنك الدولي لإيجاد حلول لنقص الوقود في لبنان، في مؤشر على رغبة الولايات المتحدة في تخفيف قيود قانون قيصر التي من شأنها أن تمنع لبنان من استيراد الغاز الطبيعي والكهرباء من مصر والأردن عبر سوريا.
وبموجب الاقتراح الأمريكي، لكي يبيع الأردن الكهرباء للبنان، فعليه تمرير الطاقة عبر سوريا على شبكة الربط العربي، ويتطلب الربط مع سوريا عبر محطة كسارة اللبنانية في سهل البقاع تعزيزاً يستغرق عدة أشهر. وتبلغ قدرة تبادل الكهرباء الحالية 160 ميغاواط، ولكن يمكن توسيعها لتصل إلى حد أعلى من 400-500 ميغاواط، وتجري حاليا مفاوضات مع البنك الدولي لتأمين التمويل اللازم للعملية. وكان الأردن، الذي يمتلك فائضاً في توليد الكهرباء قد أعلن في السنوات الماضية عن استعداده لبيع الكهرباء إلى لبنان لكن رفض الجانب السوري حال دون ذلك.
وبالمثل يمكن للبنان استيراد الغاز المصري من خلال خط الغاز العربي الذي يمتد من مصر عبر الأردن وسوريا إلى شمال لبنان، مما سيوفر ملايين الدولارات التي تنفق سنويًا على واردات زيت الوقود الثقيل الأكثر تكلفة وتلوثا، لكن هناك مشكلتان رئيسيتان يجب أخذهما بعين الاعتبار وهما حالة خط الأنابيب على الجانب السوري، والذي تعرض لأضرار بفعل الصراع هناك، فضلاً عن خطر قيام دمشق بقطع وصول إمدادات الغاز إلى لبنان في حالة حدوث نزاع مع بيروت.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن موقف حزب الله من أزمة الوقود في لبنان ومقترحه بالاستعانة بالشركات الإيرانية هو مرآة عاكسة لهيمنة ميليشيات حزب الله على قرار الدولة اللبنانية وإقحام لبنان في أتون صراعات إقليمية، فضلا عن التماهي التام مع السياسة الإيرانية وخدمة مصالحها دون النظر إلى مصالح الدولة والشعب اللبناني.
وتزداد المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع الدولي في إنقاذ الشعب اللبناني من تلك الأزمة التي تفاقمها حالة فراغ حكومي مستمرة، فالدعم الدولي للبنان في هذا التوقيت الحاسم سيقطع الطريق على مخططات إيران الرامية لنشر الفوضى والتدمير وإشعال المنطقة، ويسلب طهران ورقة لطالما استخدمتها في مساوماتها مع القوى الغربية.
ويبقى التأكيد أيضًا على أنه من دون حكومة لبنانية قوية ذات مصداقية قادرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية مستدامة والتفاوض على حزمة مالية مع صندوق النقد الدولي، ستتجه الأوضاع المعيشية والاقتصادية نحو المزيد من التردي، ويقترب لبنان من السقوط إلى مرتبة الدول الفاشلة.