يعد الإعلان وسيلة تجارية مصممة للتأثير بشكل مباشر على المستهلكين، حيث تتمثل أحد الأغراض الرئيسية للحملات الإعلانية في إعلام المستهلكين بالمنتجات أو الخدمات التي تنوي الشركة بيعها والمساهمة في تفضيلهم لها، وجعل نواياهم تتجه نحو اختيار الاقتراح المعلن عنه بدلاً من منافسيه، فالتعرض للرسائل التي تنقلها الإعلانات تؤدي إلى إثارة مشاعر المستهلكين، كما يلعب طول الإعلانات، وتكرارها دورًا محوريًا في تفسير المستهلكين للرسالة التي يتم الإعلان عنها.
وبينما تجاهلت الجهود البحثية لسنوات دراسة ما إذا كان الحلم كحالة عامة لاشعورية، يؤثر على نوايا الشراء المستقبلية للمستهلكين، أبدت الشركات اهتمامًا بتلك المساحة مؤخرًا عبر بذل مساعٍ لإيصال الرسالة التسويقية إلى الفرد حتى خلال نومه من خلال ما يسمى بـ”هندسة الأحلام”، الأمر الذي يثير إشكاليات تتعلق بالضوابط الأخلاقية للعملية التسويقية تجسدت في رسالة احتجاجية وقعها ما يقرب من 40 باحثًا في مجال الأحلام تضمنت تحذيرًا من التأثير على الأحلام عبر الإعلانات التجارية.
الحلم كوسيط اتصالي والعوامل المتحكمة في الأحلام
يشير موقع “scientific american” المتخصص في الشؤون العلمية إلى أنه قد ثبت أن تقنيات التحكم في الأحلام أو التأثير عليها على الأقل تعمل في “تجارب النوم- sleep experiments”، إذ يمكن وضع استراتيجية للحلم بموضوع معين أو حل مشكلة أو إنهاء كابوس متكرر. وقد أظهرت دراسات أن الدافع اللفظي المقدم قبل النوم يؤثر على محتوى الأحلام لدرجة أنه يرتبط بمخاوف الشخص الحالية، وأن إخبار أولئك الذين ينامون بأن يحلموا بموضوعات معينة يؤثر أحيانًا على أحلامهم ما يظهر دورًا للحلم كوسيط اتصالي، ويرجع ذلك إلى أن المخاوف تزيد من فاعلية الاستجابات المعرفية للإشارات المتعلقة بالقلق، ونظرًا لأن الشركات تستهدف المستهلكين بأنواع مختلفة من الإعلانات، فهناك احتمال وجود مثل هذا القلق بين الجمهور لا سيما في مستويات اللاوعي، وبالتالي يمكن الربط بين مستويات أعلى من رؤية الإعلانات في المنام بمستويات أعلى من التعرض للإعلانات في الواقع.
وبشكل عام، هناك وجهتا نظر بين علماء النفس تجاه تفسير الأحلام، ففي حين يرى فريق أن الأحلام نتاج ثانوي لأنشطة مناطق الدماغ أثناء نوم الشخص، يعتقد فريق آخر بقوة أن الأحلام تكشف الحقائق الخفية، ويميل الأشخاص العاديون إلى قبول المنظور الأخير لأن الأحداث في الأحلام غالبًا ما تتميز بأشخاص ومواقع مألوفة، وبالتالي قد يكون من الصعب التمييز بينها وبين الأحداث التي تحدث أثناء الاستيقاظ.
ويشير الباحث فريدريك فورست من جامعة باريس ديديرو في مقالة بعنوان “التحليل النفسي للإعلان” إلى أن اللاوعي تتم معالجته من خلال الإعلانات، التي يمكن أن تلعب دور مستشار الشراء لجمهور الإعلانات، ومن ثم ترتبط المستويات الأكبر من نوايا الشراء للمنتجات أو الخدمات المُعلن عنها بمستويات أعلى من الحلم بهذه المنتجات أو الخدمات.
ويعني هذا أن الإعلان في المقام الأول، هو تقنية لتسويق الانتباه الواعي، لكن الأخير لا يكفي لأن مستشار الشراء الأكثر فاعلية هو النفس ذاتها، وإذا افترضنا أن الإعلان يستهدف إلى حد كبير اللاوعي، فيمكنه حينئذٍ الادعاء بتشكيله اللاوعي شأنه في ذلك شأن الأحلام.
حاضنة الأحلام المستهدفة كأداة للتسويق
ووفقًا لمجلة ” Science” العلمية، فإن حاضنة الأحلام، التي يستخدم فيها الأشخاص الصور أو الأصوات أو غيرها من الإشارات الحسية لتشكيل رؤاهم الليلية لها تاريخ طويل، إذ اخترع الأفراد في جميع أنحاء العالم القديم طقوسًا وتقنيات لتغيير محتوى أحلامهم عن قصد، من خلال التأمل والرسم والصلاة بل وحتى تعاطي المواد المخدرة، وقد فتح العلم الحديث عالمًا جديدًا بالكامل من الاحتمالات، حيث يمكن للباحثين الآن تحديد متى يدخل معظم الناس مرحلة النوم، حيث يحدث الكثير من الأحلام حينذاك – حالة حركة العين السريعة -(REM) من خلال مراقبة موجات الدماغ وحركات العين وحتى الشخير. وقد أظهروا أيضًا أن المنبهات الخارجية مثل الأصوات والروائح والأضواء يمكن أن تغير محتوى الأحلام.
وقد تمكن الباحثون أيضًا من التواصل مباشرة مع الحالمين الواعين – الأشخاص الذين يدركون أثناء حلمهم – الذين استطاعوا الإجابة عن الأسئلة وحل مسائل الرياضيات أثناء نومهم. وعلى هذا دخلت دراسة الأحلام العصر الحديث بطرق مثيرة، إذ أنشأ باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤسسات أخرى مجتمعًا علميًّا مخصصًا للنهوض بهذا المجال وإضفاء الشرعية عليه وتوسيع فرص البحث الإضافية.
وفي ورقة بحثية جديدة، قدم باحثون طريقة تسمى “حاضنات الحلم المستهدف- targeted dream incubation ” يتم تطبيقها من خلال الاقتران مع جهاز استشعار تتبع النوم القابل للارتداء، الذي لا يساعد فقط في تسجيل تقارير عن الأحلام، ولكنه أيضًا يوجه الأحلام نحو موضوعات معينة من خلال تكرار المعلومات المستهدفة عند بداية النوم، وبالتالي تمكين دمج هذه المعلومات في محتوى الأحلام، حيث اخترع آدم هار باحث الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قفازًا يتتبع أنماط النوم ويوجه مرتديه إلى الحلم بموضوعات محددة من خلال تشغيل إشارات صوتية عندما يصل النائم إلى مرحلة نوم حساسة.
ويشير آدم إلى أن ثلاث شركات اتصلت به في العامين الماضيين، بما في ذلك مايكروسوفت وشركتان لخطوط الطيران لطلب مساعدته في مشاريع حاضنات الأحلام، وقد ساعد في مشروع مرتبط بلعبة ما، لكنه لم يكن مرتاحًا للمشاركة في أي حملات إعلانية.
وكانت أبحاث ديردري باريت أستاذة الطب النفسي والباحثة في مجال الأحلام بجامعة هارفارد الأمريكية محط اهتمام الشركات أيضًا خلال العقدين الماضيين، ففي دراسة أجرتها عام 1993، طلبت من 66 طالبًا جامعيًّا أخذ فصل دراسي عن الأحلام لتحديد مشكلة ذات صلة شخصية أو أكاديمية وتدوينها والتفكير فيها كل ليلة لمدة أسبوع على الأقل قبل الذهاب إلى الفراش، وأفاد نصفهم تقريبًا في نهاية الدراسة بأنهم تعرضوا لأحلام متعلقة بتلك المشكلة.
كما نُشر عمل مشابه في مجلة Science عام 2000، حيث طلب علماء الأعصاب في جامعة هارفارد من مجموعة من الأشخاص لعب عدة ساعات من لعبة الكمبيوتر “Tetris” لمدة 3 أيام، ووجدوا أن أكثر من 60% بقليل من اللاعبين أبلغوا عن أحلام بشأن اللعبة.
وفي ذات الإطار، نظمت شركة المشروبات مولسون كورس حملة إعلانية عبر الإنترنت خلال مباراة البطولة السنوية للرابطة الوطنية لكرة القدم الأمريكية، حيث قام 18 شخصًا (12 منهم ممثلون مدفوعون) بمشاهدة مقطع فيديو قبل النوم مدته 90 ثانية عن مشروب مولسون كورس، وعندما استيقظ المشاركون من النوم، أفاد خمسة منهم بالحلم بالمشروب أو المياه الغازية عمومًا.
التكلفة المالية والقيود القانونية عائقان أمام التسويق في الأحلام
ويرى خبراء وجود ثمة قيود تواجه تطبيق فكرة “حاضنة الأحلام” بعضها يتعلق بالتكلفة المالية الباهظة والعراقيل القانونية المتوقعة ذات الصلة بحماية الخصوصية، وذهبت ديردري باريت إلى القول إن استراتيجيات الإعلان عبر حاضنات الأحلام لن يكون لها تأثير عملي يذكر، مشيرة إلى أنها “لا تبدو فعالة من حيث التكلفة” مقارنة بالحملات الإعلانية التقليدية.
ونظرًا لعدم وجود لوائح خاصة بالتعامل مع الإعلانات في الحلم، فقد تستخدم الشركات يومًا ما مكبرات صوت ذكية – Smart speakers” مثل “Alexa” لاكتشاف مراحل نوم الأشخاص وتشغيل الأصوات التي يمكن أن تؤثر على أحلامهم وسلوكياتهم، إذ من السهل تخيل عالم يصبح فيه “مكبر الصوت الذكي” أداة للإعلان السلبي غير الواعي سواء بإذن أو دون إذن، فعلى سبيل المثال يوجد 40 مليون أمريكي حاليًا لديهم مكبرات صوت ذكية في غرف نومهم.
ويقول دينيس هيرش، أستاذ القانون وخبير الخصوصية في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية، إن مثل هذا العالم يستحق التحضير له، لكنه يعتقد أن قانون لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية، الذي يحظر الأعمال التجارية “غير العادلة أو الخادعة”، ينطبق بالفعل على استخدام مكبرات الصوت الذكية للقيام بالإعلانات في الحلم، مشيرًا إلى أن قانون الولايات المتحدة يتطور ليشمل حظرًا أكثر تحديدًا للرسائل اللاشعورية.
وعلى هذا النحو فإن إعلان “حاضنات الحلم المستهدف- targeted dream incubation ” التي تعمل على زرع الأحلام في أذهان الأشخاص بغرض بيع المنتجات، يثير أسئلة أخلاقية مهمة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التقدم الذي يشهده مجال التسويق على الصعيد التقني والرغبة الجارفة لدى الشركات في الوصول إلى العملاء المحتملين دفعت إلى التفكير في وسائل اتصال غير تقليدية لإيصال رسائل التسويق من بينها الأحلام، لكن هذا الاتجاه وإن كان يتسم بالمحدودية في الوقت الراهن إذ ما زال في طور التجارب لا يعني انعدام فرص ترسيخه كقناة تسويقية جديدة في المستقبل، الأمر الذي يتطلب من الجهات التنظيمية المعنية بالتسويق وضع ضوابط ولوائح قانونية واضحة تتعامل مع هذا التحدي.
5 دقائق