في مؤشر على احتدام الصراع داخل إيران بين التيارين المحافظ والإصلاحي قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو المقبل، تم تسريب تسجيل صوتي لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وجه خلاله انتقادات إلى الدور الذي لعبه قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني اللواء الراحل قاسم سليماني -الذي قُتل بضربة أمريكية في العراق مطلع العام الماضي 2020-، في السياسة الخارجية، كاشفًا عن تغول العسكريين على دور الدبلوماسية في إيران.
وتُشكّل تلك التسريبات دليلًا عمليًا على اختلال الموازين بين مؤسسات الدولة الإيرانية، وهي إفراز طبيعي لنظام الملالي الذي عمل على مدى أكثر من 40 عامًا على تقزيم الدور المفترض للمؤسسات مقابل تكريس استبداد شخص يتخذ من الدين ستارًا لتجميل صورته وإضفاء شرعية زائفة، فالسلطة تتركز في يد المرشد الأعلى، والقوات العقائدية المدينة بالولاء الكامل له مثل الحرس الثوري والباسيج.
وقد أثار هذا التسريب غير المسبوق حالة من الجدل في صفوف الإيرانيين، لا سيما كونه يأتي في توقيت تخوض فيه طهران مفاوضات مع القوى الكبرى في فيينا من أجل إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
بل إن لهيب ذلك التسريب امتد حتى وصل إلى واشنطن، وتحديدًا إلى المبعوث الأمريكي الخاص للمناخ جون كيري، بعدما أفادت تقارير بأن تسريبات ظريف تضمنت إشارة إلى إفشاء كيري لإيران عن عمليات إسرائيلية سرية في سوريا، حينما كان يشغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
العسكريون أداة تنفيذية رئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية
لقد شكّل الصدام بين المكونين المدني والعسكري في حركة السياسة الخارجية الإيرانية محورًا رئيسيًّا للتسجيل، الذي تم في إطار إجراء روتيني تقوم به الحكومة مع جميع مسؤوليها ليتم حفظه في أرشيفها بهدف نقله للحكومة القادمة من أجل الاستفادة بخبرات وتوصيات المسؤولين السابقين.
وقد اتهم ظريف خلال التسجيل الحرس الثوري الإيراني وتحديدًا قائد فيلق القدس الراحل قاسم سليماني بإدارة السياسة الخارجية الإيرانية في الإقليم وتجاهل نصيحة وزارة الخارجية، لدرجة أن تأثيره كوزير للخارجية يكاد يكون منعدمًا، وأخذ يسرد مواقف متعددة تبرهن على استنتاجه هذا، ومنها أن سليماني سافر إلى موسكو في عام 2015 لتقويض المفاوضات النووية، فضلاً عن إعراب وزير الخارجية عن إحباطه من بعض قرارات الحرس الثوري الإيراني، مثل إرسال قوات برية إلى سوريا، واستخدام الخطوط الجوية الإيرانية دون علم أو موافقة وزارة الخارجية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه ليست أول محطة كاشفة عن تغول الحرس الثوري والأجهزة الأمنية الإيرانية على باقي المؤسسات في إيران، ففي أغسطس 2019، شكلت أزمة مسلسل “غاندو” الذي أذاعه التلفزيون الإيراني الرسمي نموذجًا على نظرة الحرس الثوري لوزارة الخارجية، والتي اعتبرها مخترقة وبعيدة عن تحقيق المصالح الوطنية الإيرانية.
وكان هذا المسلسل من إعداد مؤسسة الشهيد “آويني”، القريبة من الحرس الثوري الإيراني ومنظمة الباسيج شبه العسكرية، ويتولى إدارتها مهدي طائب شقيق رئيس استخبارات الحرس الثوري حسين طائب.
كما تشهد كافة المراحل التي مرت بها المفاوضات الإيرانية مع القوى الغربية بشأن الاتفاق النووي سواء قبل إبرامه أو بعده أن النظام الإيراني يتخذ من الحرس الثوري أداة تنفيذية لسياسته الخارجية وأهدافها التخريبية في المنطقة، بينما دور وزارة الخارجية المتصل بالتمثيل الدبلوماسي والجلوس على طاولة المفاوضات هو مجرد استيفاء لمعايير شكلية بروتوكولية، لكن القرارات تبقى بيد المرشد خامنئي وذراعه التنفيذية المتمثلة في ميليشيات الحرس الثوري التي أخذ دورها الخارجي في التوسع حتى ألغت بحكم الأمر الواقع دور الدبلوماسية واستأثرت بتلك الوظيفة إلى جانب مهامها القمعية في الداخل والتخريبية في الخارج.
توقيت حرج في ظل محادثات فيينا واقتراب الانتخابات الرئاسية الإيرانية
وتوجد ثمة دلالات كبرى تتعلق بتوقيت هذا التسريب، إذ إنه يأتي وسط التقدم الدبلوماسي في فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني واقتراب الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وساحة داخلية تعج بالمناورات السياسية، حيث تسعى جميع الأطراف إلى التأثير في الرأي العام.
وقد ألقت أحداث السنوات الماضية بظلالها القاتمة على الانتخابات الرئاسية هذا العام، حيث أدى انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات اقتصادية شديدة إلى إضعاف روحاني ومعسكره السياسي، كما أدى القمع الوحشي للاحتجاجات التي عمت البلاد في نوفمبر 2019، والتي شهدت مقتل ما لا يقل عن 304 أشخاص، إلى خيبة أمل لدى الكثيرين من أي مشاركة سياسية.
ووفقًا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، إذا عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاق وأوفت بالتزامات تخفيف العقوبات، فحينئذ سيتم استعادة إرث روحاني المدمر إلى حد كبير، وسيكون لدى أولئك المرتبطين ارتباطًا وثيقًا به وبالاتفاق النووي، رأس مال سياسي كبير يمكنهم من الترشح للرئاسة ومن بين هؤلاء وزير خارجيته محمد جواد ظريف.
ولعل هذا ما لمّح إليه روحاني في تصريحات أثار خلالها تساؤلات حول سبب نشر التسريب الآن، معتبرًا أن نشره في وقت تصل فيه مباحثات فيينا لذروة نجاحها، يهدف لخلق اختلاف وشق الصف داخل إيران.
وبعد يومين التزم فيهما الصمت، تاركا لوزارة الخارجية والحكومة مهمة الرد على ما أثاره التسريب الذي وصفته بـ”المؤامرة” وفتحت تحقيقًا استخباراتيًا بشأنه، أبدى ظريف في منشور عبر تطبيق إنستجرام أسفه لتحول تصريحاته إلى ما وصفه بـ”اقتتال داخلي” في إيران.
وأكد على طبيعة العلاقة الوثيقة التي جمعته بسليماني، كما أشار إلى أن الفكرة الأساسية من حديثه كانت تقديره وجود حاجة إلى “تعديل ذكي” في العلاقة بين الميدان العسكري والدبلوماسية اللذين وصفهما بأنهما “جناحا قوة” لإيران.
وأرفق ظريف المنشور عبر حسابه الموثق، بشريط مصور لزيارة قام بها هذا الأسبوع إلى موقع اغتيال سليماني في بغداد، حيث لقي مصرعه في ضربة جوية أمريكية قرب مطار بغداد في يناير 2020.
وجاء تحرك ظريف استباقًا لاستدعاء وجهته له لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني لتقديم إفادة أمام اللجنة حول ما جاء في التسريب الصوتي، ووسط دعوات متصاعدة لإقالته من جانب نواب إيرانيين محافظين، وهجوم عنيف من قبل وسائل إعلام وشخصيات مقربة من الحرس الثوري، فعلى سبيل المثال اتهمت وكالة “فارس” للأنباء ظريف بالاختلاف مع التوجه العام للثورة الإيرانية، كما وجهت نجلة سليماني انتقادًا لاذعًا إلى ظريف دون أن تسميه عبر نشرها صورة لأشلاء والدها قائلة إن هذا هو الثمن الذي دفعه الميدان العسكري للدبلوماسية.
التسريب الإيراني يورط جون كيري ويضعه في عين عاصفة سياسية أمريكية
ولم تقتصر أزمة التسريب على حدود الداخل الإيراني، بل امتدت إلى ما وراء المحيط الأطلسي حيث الولايات المتحدة الأمريكية بعدما أوردت وسائل إعلام عدة أن التسريبات تضمنت حديثًا لظريف يقول فيه إن جون كيري وزير الخارجية الأمريكي السابق كشف له عن عمليات إسرائيلية سرية في سوريا.
وسارع كيري، الذي يشغل حاليًا منصب المبعوث الأمريكي الخاص للمناخ في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لنفي تلك الرواية في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” قائلا إن هذه الادعاءات “خاطئة بشكل لا لبس فيه”، لكن هذا النفي لم يكن كافيًا لمواجهة سيل من سهام النقد والاتهام التى أطلقها المشرعون والساسة الجمهوريون ووسائل الإعلام الأمريكية ذات التوجه اليميني، فقد اعتبر الجمهوريون هذا التسريب بأنه خيانة لإسرائيل -حليفة الولايات المتحدة في المنطقة- ودعا البعض ومنهم السيناتور الجمهوري، دان سوليفان إلى استقالة كيري من منصبه، فيما ذهب البعض الآخر ومنهم السيناتور توم كوتن عضو لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأمريكي ومايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي السابق إلى المطالبة بإجراء تحقيق رسمي مع كيري.
وكان الجمهوريون قد سبق وأن اتهموا كيري خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالتواطؤ مع إيران لتقويض إدارة ترامب، كما أن ترامب شخصيًّا طالب بـ”محاكمة كيري” آنذاك والذي لم ينف بدوره لقاءاته مع ظريف في مناسبتين على الأقل خلال إدارة ترامب.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تسريبات ظريف لم تكشف عن اختراق في طبيعة النظام الإيراني، ولكنها بمثابة شهادة موثقة من داخل نظام الملالي تظهر نهج ذلك النظام المارق الذي لا يحتكم سوى للغة القوة حتى داخل حدوده وبين مؤسساته، بما يعني عبثية أي مفاوضات تجري مع ممثلي هذا النظام، فالعسكرة المتزايدة للسياسة الخارجية الإيرانية لم تقتصر على الأهداف الاستراتيجية، بل امتدت لتشمل الدبلوماسية التي يفترض أنها تتولى التمثيل والتعبير عن سياسة الدولة.
وتبقى الجهود الغربية الحالية لإحياء الاتفاق النووي مجرد رهانات خاسرة، حيث من المستبعد تراجع تأثير الدور العسكري على السياسة الإيرانية، ومن أبرز مؤشراته مواصلة الحرس الثوري لاستفزازاته عبر التحرش بالسفن الأمريكية في المنطقة، ومهاجمته مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الوقت الذي يخرج فيه دبلوماسيو إيران بتصريحات عن تقدم دبلوماسي في مسار فيينا الحالي.
5 دقائق