ترجمات

بايدن في أول 100 يوم من ولايته الرئاسية

اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من شعار “أمريكا عادت” عنوانًا رئيسيًّا لسياستها الخارجية، واضعة أجندة هي الأكثر ازدحامًا منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان في عام 1981، إذ قام بايدن وفريقه الجديد للأمن القومي بجمع الحلفاء في آسيا وأوروبا، وعادت واشنطن للانضمام إلى المؤسسات العالمية، وتعهد بتمويل برنامج كوفاكس العالمي لتطعيم سكان الدول الفقيرة حول العالم ضد فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، لقد فعل بايدن كل هذا وما زالت الولايات المتحدة تواجه وباءً مدمرًا، وأيضًا بعد أول انتقال رئاسي عنيف في تاريخ الولايات المتحدة.
وقد أثار فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية شعورًا قويًّا بالارتياح بشكل خاص بين الحلفاء في آسيا وأوروبا، الذين شاهد مواطنوهم تمرد 6 يناير في واشنطن عاصمة الديمقراطية في العالم بمزيج من الرعب والانبهار.
وشكلت سرعة الإدارة الأمريكية الجديدة في التحرك لإعادة التئام التحالفات وتأكيد الدور العالمي للولايات المتحدة مفاجأة للكثيرين في الداخل والخارج الذين توقعوا أن ينشغل بايدن في معالجة جروح البلاد – استجابة فاشلة للوباء واقتصاد نصف مجمّد ومجتمع ممزق بسبب الانقسامات العرقية والسياسية – قبل تحويل انتباهه إلى الخارج، لكن بدلاً من ذلك أطلق فريق قوي ذو خبرة بقيادة وزير الخارجية أنطوني بلينكين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان موجة من الدبلوماسية الحقيقية والافتراضية.
وفي هذا الإطار سعت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إلى استطلاع آراء عدد من  الخبراء البارزين بشأن أجندة السياسة الخارجية لبايدن، نستعرض أبرزها على النحو التالي:
استعادة القيادة عبر التحالفات الدولية
قطع الرئيس بايدن على الرغم من الأجندة المحلية المزدحمة، خطوات كبيرة لاستعادة القيادة العالمية الحازمة للولايات المتحدة، التي يحتاج العالم إليها، لكن ما زالت أمامه اختبارات كبيرة، فقد قامت إدارة بايدن بالتنسيق بشكل أوثق مع الحلفاء عبر محادثات مكثفة أجراها وزير الخارجية أنطوني بلينكين مع نظرائه الأوروبيين، ومشاركة بايدن في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد افتراضيًّا لظروف الجائحة، وكذلك في أول قمة رباعية جمعت الولايات المتحدة مع قادة أستراليا والهند واليابان.
كما أصبح حلف شمال الأطلسي “الناتو” أيضًا في وضع يسمح له بالمضي قُدمًا وبناء مفهومه الاستراتيجي الجديد دون القلق بشأن التغريدات الرئاسية، ونوبات الغضب التي كانت تميز عصر ترامب، ومع ذلك لا يتوهم الحلفاء الأوروبيون لواشنطن بأن بايدن سوف يتساهل في التزاماتهم بالمزيد من الإنفاق على الدفاع.
ويرى أندرس فوغ راسموسن، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي “الناتو” أن بايدن اتخذ الخطوات الأولى لإعادة بناء عالم متعدد الأطراف وإصلاحه، وهو بحاجة إلى البناء على هذه الخطوات لإخراج التعددية من مأزقها، وتظهر هنا الحاجة إلى عمل قوي من قبل العالم الحر لصياغة معايير جديدة متعددة الأطراف، على سبيل المثال في مجال تنظيم التكنولوجيا الناشئة.
ويشير راسموسن إلى أن التزام بايدن ببناء التحالف الديمقراطي العالمي هو التزام شخصي وثابت، في حين يقول البعض إنه يجب أن يركّز أولاً على إعادة بناء الديمقراطية الأمريكية في الداخل بدلاً من عقد قمته الموعودة من أجل الديمقراطية المقرر عقدها في كوبنهاجن في الفترة من 10 إلى 11 مايو المقبل.
من جهته، يرى جون إيكينبيري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة برينستون الأمريكية أن بايدن أعاد المعتقدات الأساسية التي توجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وتتمثل في عمل واشنطن على تعزيز مصالحها من خلال بناء وقيادة النظام الدولي عبر تحالفات ومؤسسات تجعل القوة الأمريكية أكثر فاعلية واستدامة وشرعية.
غياب الاختراقات في ملفات الشرق الأوسط
في حين ترفع الإدارة الأمريكية شعار “أمريكا عادت”، إلا أنه لم يتضح ما الذي ستعنيه تلك العودة في الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال وعد بايدن كمرشح رئاسي بجعل العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني أولوية في الشرق الأوسط، لكنه كرئيس لم يحظ بقبول كبير لإعادة الاتفاق أو احتواء إيران، التي صعدت بدورها من موقفها بما في ذلك استئناف تخصيب اليورانيوم، كما صعد وكلاؤها من أنشطتهم في جميع أنحاء المنطقة، سواء عبر إطلاق ميليشيا الحوثي في اليمن صواريخها على المملكة العربية السعودية، أو استهداف الميليشيات المدعومة من طهران للمصالح الأمريكية في العراق.
ولم تقدم واشنطن سوى القليل من الكلمات، وكان أحد الاستثناءات الملحوظة هو الضربة التي استهدفت في 25 فبراير الماضي قاعدة سورية تضم مقاتلين مدعومين من إيران رداً على الهجمات في العراق.
كما خلق بايدن زخمًا في المنطقة من خلال تعيين تيم ليندركينغ مبعوثًا خاصًّا لليمن، ومع الاقتراح السعودي بإنهاء الحرب يجب على واشنطن الآن الضغط على إيران والحوثيين للالتزام بالسلام.
ويرى دينيس روس، مساعد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط، وزميل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أنه فيما يتعلق بالسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يدرك فريق بايدن أن هذا ليس الوقت المناسب لمبادرة سلام كبيرة، لكن السياسات يجب أن تظل موجهة نحو الحفاظ على حل الدولتين.
وجوب صياغة استراتيجية طويلة الأمد تجاه الصين
انطلق بايدن في سياسته تجاه الصين بالمسارعة لشغل المناصب الرئيسية بكبار الخبراء المتخصصين في شؤون الصين، وعودة واشنطن للانضمام إلى المنظمات والاتفاقيات الدولية، وعقد اتصالات بأوروبا للوصول إلى توجه مشترك بشأن الصين، وطمأنة الحلفاء الآسيويين.
وأعاد الرئيس الأمريكي التأكيد على دعم الولايات المتحدة لتايوان، وأطلق مراجعة للاحتياجات العسكرية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن قائمة مهام بايدن بشأن الصين طويلة، هناك حاجة لإحراز تقدم في سياسة التكنولوجيا، وتعريفات ترامب الجمركية، وإقليم شينغيانغ، ومشاركة الولايات المتحدة في أولمبياد بكين الشتوية لعام 2022، فضلاً عن ملفات كوريا الشمالية وهونغ كونغ والصراع حول بحر الصين الجنوبي، فكلها أمور ملحة.
وترى إليزابيث إيكونومي، زميلة أولى في معهد هوفر بجامعة ستانفورد ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن الاجتماع المحفوف بالمخاوف بين كبار الدبلوماسيين الأمريكيين والصينيين في ألاسكا في مارس الماضي كشف عن وجوب تحرك بايدن بسرعة لصياغة استراتيجية طويلة الأجل بشأن الصين تضع واشنطن في مقعد القيادة، وهو ما فشلت الإدارات الأمريكية السابقة إلى حد كبير في القيام به.
سياسة أكثر حزمًا تجاه روسيا
وضع بايدن في مكالمته الأولى مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين ملامح واضحة لسياسة إدارته تجاه موسكو، حيث عرض التقدم في الحد من التسلح، وإعادة التأكيد على دعم أوكرانيا، وإثارة المخاوف بشأن التجسس الإلكتروني والمكافآت الروسية لقتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، وتسميم المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني.
ويرى مايكل ماكفول، مدير معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد أن بايدن تعامل مع الكرملين حيث تتداخل المصالح، وسعى لردع السياسات الخارجية العدائية لروسيا، وتطرق لانتهاكات حقوق الإنسان في روسيا.
كما قام فريق بايدن بتمديد معاهدة ستارت الجديدة للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لمدة خمس سنوات، وفرض عقوبات على بعض المسؤولين عن تسميم المعارض الروسي نافالني واعتقاله، وأكد التزام الولايات المتحدة بتعميق العلاقات مع حلف الناتو، ونفذ بايدن عقوبات جديدة وطرد دبلوماسيين روسًا؛ ردًّا على هجوم “سولار ويندز – SolarWinds” الإلكتروني والتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، وفي الوقت نفسه عرض عقد قمة مع بوتين.
الانخراط في السياسة الاقتصادية العالمية
تتكون استراتيجية بايدن لإعادة الانخراط في السياسة الاقتصادية العالمية من عنصرين، الأول هو إعادة تأكيد القيادة الأمريكية – بمهارة وليس بقوة- لأن واشنطن بحاجة إلى إعادة بناء الثقة. أما العنصر الثاني فهو ربط التجارة بأولويات بايدن الأخرى، مثل خلق فرص العمل وخفض الانبعاثات. فعلى سبيل المثال لم يعد بايدن مجددًا إلى اتفاقية باريس للمناخ فقط، بل إنه يخطط أيضًا لإعادة الانخراط في منظمة التجارة العالمية والعمل مع الحلفاء لإصلاحها.
وفي حين أن هذه الإجراءات تعكس ميل الإدارة الأمريكية إلى التعددية، فإن بايدن لا يتسامح مع التجارة، إذ يشير أمره التنفيذي الذي يعزز أحكام الشراء الأمريكية للمشتريات الحكومية إلى نيته في حماية المصالح التجارية الأمريكية بكل قوة.
ويرى إسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية بجامعة كورنيل أن أجندة بايدن تبعث برسالة تنبيه للشركاء التجاريين للولايات المتحدة الذين ربما كانوا يأملون في اتباع نهج أقل عدوانية في التجارة والاستثمار.
ويوضح براساد أن الإدارة الأمريكية تعتزم دمج حماية العمال وسياسات المناخ وحقوق الإنسان في المفاوضات التجارية، ويثير طرح واشنطن هذا لمجموعة أوسع من القضايا على طاولة المفاوضات احتمال تصاعد التوترات مع بكين.
ومن المرجح أن يعمل بايدن مع الحلفاء للضغط على الصين لتغيير ممارساتها الاقتصادية، ولن يتم بالضرورة حل المشكلات الخلافية بسهولة أو بسرعة أكبر، لكنه سيكون نهجًا أكثر عقلانية وتضافرًا، وربما مع حلول أكثر فاعلية واستدامة.
مقاربة أكثر شمولاً للتعامل مع الوباء
جاءت استجابة بايدن لوباء كورونا بوتيرة ونطاق مذهلين محليًّا ودوليًّا، والأكثر أهمية من تعهده بتقديم 4 مليارات دولار إلى مرفق كوفاكس، الذي يهدف إلى تحقيق تكافؤ الفرص في الحصول على اللقاحات عالميًّا، عودة أمريكا ليس فقط داخل منظمة الصحة العالمية، ولكن في جميع أنحاء الأنظمة المتعددة الأطراف، إذ تناقش واشنطن براءات اختراع الأدوية في منظمة التجارة العالمية، وتوزيع الأدوية في الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا.
ويدفع فريق بايدن نحو إدراج القضايا الصحية في الدورة السادسة والعشرين من مؤتمر الأمم المتحدة السنوي المعني بالمناخ “COP26″، التي ستعقد في غلاسكو باسكتلندا في نوفمبر المقبل، وكذلك دعم أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، التي تشمل مجموعة واسعة من أولويات الصحة العامة العالمية؛ منها رفع معدلات التطعيم وخفض وفيات الأطفال، وتحسين الوصول إلى المياه النظيفة والتغذية.
خطوات محدودة على صعيد مكافحة تغير المناخ
يحتاج ملف تغير المناخ عدة عقود لمعالجته بشكل فعّال، لذلك من الصعب تقييم جهود بايدن بعد 100 يوم فقط من ولايته، ورغم خطاب بايدن الذي تحدث فيه عن حالة طوارئ مناخية تتكشف، وأن أمام العالم عقدًا واحدًا فقط لمواجهتها، ودعوته لإزالة الكربون تمامًا من الشبكة الكهربائية بحلول عام 2035، حصل بايدن على درجة (F) أي أنه راسب وهي الدرجة التي أعطتها حركة شروق الشمس (حركة تدعو إلى العمل السياسي بشأن تغير المناخ)، وتعكس درجة الرسوب هذه حقيقة أنه لا يوجد رئيس للولايات المتحدة سيقدم في الواقع أجندة مناخية تتماشى مع الطموحات العظيمة التي يطالب بها ناشطو المناخ. فعلى الرغم من الأوامر التنفيذية التي تصدرت العناوين الرئيسية وقرار بايدن بالانضمام مرة أخرى إلى اتفاقية باريس للمناخ، لن يفي أي شيء معروض من الإدارة الأمريكية بهذه المطالب.
وفي المقابل، يعتبر تيد نوردهاوس، المدير التنفيذي والمؤسس المشارك لمعهد بريكثرو (مركز بحثي معني بالبيئة، مقره في كاليفورنيا) أن بداية بايدن تبدو واعدة بدرجة أكبر، حيث أنشأ فريقًا قويًّا وخبيرًا في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والطاقة.
ويشير نوردهاوس إلى أن خططه وإن تجاهلت حتى الآن الدعوة إلى وضع حد أقصى للانبعاثات و”ضرائب الكربون-  Carbon taxes”، وتنظيم جديد لسياسة مناخية أكثر هدوءًا، لكن ثمة عدة جهود مبذولة لتطوير ونشر التكنولوجيا والبنية التحتية، إذ اقترح بايدن حزمة بنية تحتية بقيمة 2 تريليون دولار من أجل توسيع خطوط السكك الحديدية والنقل العام والبنية التحتية لشحن المركبات الكهربائية، وتسويق الجيل التالي من تقنيات الطاقة النووية، والحد من انبعاثات الكربون، وتحسين الأداء البيئي للزراعة الأمريكية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن ملامح السياسة الخارجية لعصر بايدن بدأت في الظهور بسرعة، حيث برزت منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين باعتبارها قضية مركزية لسياسة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التركيز على ملفات تغير المناخ، واستخدام التجارة لخلق فرص عمل داخل أمريكا، في إطار مساعي بايدن إلى تحقيق توازن جديد بين المصالح والقيم الأمريكية، وبين الاهتمامات المحلية والمشاركة العالمية.
كما لم تظهر السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط ملمحًا جديدًا عن مقاربة للتعامل مع التحديات الجسيمة التي تواجه تلك المنطقة الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية العالمية، فكافة الخطوات التي اتخذتها إدارة بايدن تشكل حتى اللحظة امتدادًا لرؤى إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لا سيما في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، وهو أمر بلا شك يمثل خطأً استراتيجيًّا كونه لا يراعي تغير الظروف تمامًا عن الأجواء السياسية والإقليمية حاليًا عما كانت عليه عند توقيع الاتفاق النووي في عام 2015.

زر الذهاب إلى الأعلى