تعد العضوية في المجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إحدى الظواهر وثيقة الصلة بنمط الاستخدام الجماعي لتلك المنصات، كونها توفر لأعضائها إحساسًا قويًّا بالانتماء والترابط، حتى ولو لم يجمعهم وجود فعلي على أرض الواقع.
ويعتبر موقع فيسبوك مثالًا واضحًا على ازدهار تلك المجموعات، ففي الوقت الذي يبلغ فيه عدد المستخدمين للموقع شهريًّا نحو 1,8 مليار شخص، فإن أكثر من نصفهم أعضاء في خمس مجموعات أو أكثر على المنصة، كما أن هناك 70 مليون شخص من المستخدمين النشطين يتولون قيادة المجموعات بوصفهم مسؤولين ومشرفين، وهو ما يفوق عدد سكان دول مثل بريطانيا أو فرنسا.
وفي هذا الإطار، أصدر مختبر الحوكمة في كلية تاندون للهندسة بجامعة نيويورك دراسة بعنوان “قوة المجتمعات الافتراضية”، لفحص الدور الذي تلعبه المجموعات عبر الإنترنت في خلق الفرص للأشخاص لبناء أنواع جديدة من المجتمعات التي لا يمكنهم غالبًا تكوينها في الواقع.
منهجية الدراسة وأبرز المجموعات موضع التحليل
وتعتمد الدراسة على مقابلات شخصية تم إجراؤها مع 50 قائدًا من قادة مجموعات فيسبوك في 17 بلدًا و26 خبيرًا من الخبراء العالميين في إنشاء المجتمعات على الإنترنت، إلى جانب مراجعة لأبحاث فيسبوك الداخلية، واستبيان أجرته شركة “يوجوف- YOUGov” لاستطلاعات الرأي شمل 15 ألف مستخدم من مستخدمي الإنترنت في 15 دولة، حيث أفادت النسبة الأكبر ممن شاركوا في الاستطلاع بأن المجموعة الأهم التي ينتمون إليها هي مجموعة على الإنترنت بالأساس.
وقد طرحت الدراسة مجموعة من الأسئلة من أبرزها ما الذي يحفز الأشخاص للمشاركة في مجموعات على الإنترنت؟ وما المزايا التي يحصلون عليها من المشاركة؟ وما السمات والمهارات والقدرات اللازمة لإدارة مجتمع ناجح على الإنترنت قد يضم ملايين الأعضاء؟
ونوهت الدراسة إلى وجود ثمة انقسام أكاديمي حول دور المجموعات على الإنترنت، حيث يرى منتقدو المجموعات أنها بدائل سيئة للمجتمعات الفعلية، إذ ترى عالمة النفس الاجتماعي شيري توركل أن البشر يمكن أن يتمتعوا بحياة ثرية على الإنترنت، لكن الروابط على الإنترنت ليست في النهاية الروابط التي تجمعنا بل التي تشغلنا، فهي توفر إحساسًا للفرد بأنه موجود وغير موجود، فعلى الإنترنت يكون الأشخاص متاحين باستمرار ومعزولين اجتماعيًّا مع فقدان المزايا التي تجلبها الاتصالات الحقيقية، حيث تجبر المحادثة وجهًا لوجه الأشخاص على أن يكونوا سريعي التأثر وحاضرين بطريقة لا تستطيع الأجهزة المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي القيام بها.
ويرى أنصار هذا الفريق أن الإنترنت يخلق شبكات اجتماعية واسعة ولكنها سطحية، فعلى الرغم من أنه يسمح ببناء مجموعة مع أولئك الذين يشاركونهم اهتمامات أو هواية واحدة، فإن ذلك يأتي على حساب العلاقات التي ربما تكون لدينا مع بعض الأشخاص الذين يُشكّلون مجتمعات العالم الحقيقي الفعلية.
في المقابل، يرى فريق آخر من أبرز ممثليه مارشال جانتس المحاضر في المجتمع المدني بكلية كينيدي بجامعة هارفارد أن المجموعات على الإنترنت يمكنها بناء المجتمع، شريطة أن تبني العلاقات وتضع المعايير وتتبنى ممارسات التفاعل الجماعي السليم.
ووفقًا للدراسة فقد شهد عدد المجموعات عبر فيسبوك طفرة خلال العقد الأخير، وازدادت أهمية تلك المجموعات في ظل بقاء ملايين الأشخاص حول العالم في عزلة منزلية بفعل جائحة فيروس كورونا، ومن أبرز المجموعات التي تناولتها الدراسة:
– مجموعة “Female IN”، والتي تأسست في البداية باسم “Female in Nigeria”، حيث تشجع عضواتها البالغ عددهن 1,7 مليون على مشاركة قصص الكفاح والإنجاز.
– مجموعة “Surviving Hijab” وتهدف إلى تشجيع عضواتها البالغ عددهن 920 ألفًا على ارتداء الحجاب أو التمسك بارتدائه.
– مجموعة “Blind PenPals” التي يتمكَّنُ فيها أعضاؤها من المكفوفين وضعاف البصر البالغ عددهم 7 آلاف شخص من مشاركة القصص والمشورة.
– مجموعة “Canterbury Residents” وهي بمثابة ملتقى عام في مدينة كانتربيري البريطانية، ويبلغ عدد أفرادها 38 ألف شخص، وهو نفس حجم سكان المدينة تقريبًا.
– مجموعة “Subtle Asian Traits” التي بدأت كمبادرة متواضعة بين تسعة شباب أستراليين من أصل صيني لمشاركة الرسوم الكاريكاتورية المضحكة حول تراثهم الآسيوي، وتوسعت لتشمل 1,82 مليون شخص يناقشون ويشاركون تجربة نشأتهم كآسيويين في مجتمعات ذات أغلبية بيضاء.
ميزات المجموعات على الإنترنت
وقد رصد التقرير عددًا من الميزات المشتركة بين الكثير من المجموعات على الإنترنت التي تمت دراستها، وتمثلت في ما يلي:
تشكيل المجموعات بسرعة ونطاق غير مسبوق
تمكن التكنولوجيا الرقمية المجموعات على الإنترنت من النمو بسرعة وإلى حجم ووصول عالمي، لا يمكن تصوره في عالم الواقع، فعدد الأشخاص على فيسبوك يجعل من الممكن لقادة المجموعات إتاحة العضوية للجمهور على مستوى العالم، وبالتالي بغض النظر عن مدى تخصص الموضوع، فإن تكاليف الوصول إلى أعضاء جدد هي جزء بسيط من تكاليف العالم الكائن خارج الإنترنت.
كما أن الأدوات والميزات الموحدة مثل الخطوط والرموز التعبرية والقواعد، حيث يفهم الأعضاء جميعًا ما يعنيه النشر والإشارة والإشراف، ناهيك عن اللغة الإنجليزية بوصفها لغة مشتركة مستخدمة في 60 % من جميع مواقع الإنترنت، تُسهِّل من عملية استخدام لغة عالمية تساعد الأعضاء من مختلف الثقافات والبلدان على التواصل وتنظيم أنفسهم.
تمكين الأشخاص المهمشين من بناء مجتمعاتهم
فعلى الرغم من أن المجتمعات المهمشة لا تُشكِّل غالبية المجموعات التي تمت دراستها في هذا التقرير، فإن بعض تلك المجتمعات أثبتت مهارة في استخدام فضاء الإنترنت لبناء التواصل، وخلق تأثير بطرق لا يحصلون عليها في العالم الواقعي، ومن أمثلة ذلك تأسيس الصحفية النيجيرية لولا أومولولا مجموعة “Female IN” بعدما شعرت بصدمة عندما لاحظت أنه عقب اختطاف جماعة بوكو حرام المتطرفة في نيجيريا 246 تلميذة في شمال البلاد ركَّزت التغطية الإعلامية على العمل الإرهابي، وليس معاناة الفتيات، لذلك تشجع المجموعة الأعضاء للحديث عن تجاربهم في نيجيريا التي تعتبرها من أكثر المجتمعات التي لا ترحم النساء في العالم.
الطبيعة التكاملية بين المجتمعات على الإنترنت وخارجه
لقد وجد التقرير أن معظم المجموعات بما في ذلك المجموعات الكبيرة على الإنترنت لا تزال تتمتع بارتباط قوي بالمكان، ومن أمثلة ذلك مجموعة “Canterbury Residents” التي تعمل على مزج الأنشطة على شبكة الإنترنت وخارجها، لأنها مجموعة تقتصر بوضوح على مكان جغرافي.
وأدار مؤسس تلك المجموعة إد ويذيرس بمشاركة عدد من المتطوعين، لم يلتق معظمهم مطلقًا، مشروعًا في عام 2020 لتنظيم الأعضاء الذين لديهم طابعات ثلاثية الأبعاد لتصميم 5 آلاف قطعة من معدات الحماية الشخصية المجانية للعاملين الأساسيين في كانتربيري، كما استخدمت دور العبادة المحلية ونوادي الفنون لتقوية مجتمعاتهم، حتى أن المجموعة أسست فريق كرة قدم للنساء فوق 50 عامًا تحت اسم “Old Bags United”.
جائحة كورونا دشنت مزيدًا من المجموعات عبر الإنترنت
أدت القيود الشديدة المفروضة على الاجتماعات الشخصية، وحرية السفر منذ ظهور جائحة كورونا إلى تعظيم القدرة على الاتصال عبر الإنترنت، ففي غضون أسبوع تقريبًا من إعلان منظمة الصحة العالمية في مارس 2020 عن جائحة كورونا، شكلت ثلاث نساء في ثلاث قارات مجموعات للمساعدة والدعم المتبادل.
وتؤكد نتائج استطلاع يوجوف على دور المجموعات على الإنترنت في توفير الدعم للأعضاء، فمن بين المشاركين في الاستطلاع -الذين حددوا أهم مجموعاتهم على الإنترنت- قال 57% إنهم قدَّموا دعمًا عاطفيًّا من خلال مجموعة منذ بدء الجائحة، بينما قال ما يزيد قليلاً على 49% إنهم تلقوا مثل هذا الدعم العاطفي من خلال مجموعة ما.
نتائج وتوصيات الدراسة
وخلص تقرير مختبر الحوكمة في كلية تاندون للهندسة بجامعة نيويورك إلى مجموعة من النتائج جاءت كالتالي:
يمكن للأشخاص أن ينعموا بشعور قوي بالانتماء للمجتمع من العضوية في مثل هذه المجموعات على الرغم من افتقارها للقرب المادي.
لا تزال المجموعات على الإنترنت تُمثل شكلاً مرنًا من التنظيم البشري الذي يجذب في كثير من الحالات الأعضاء والقادة المهمشين في المجتمعات الفعلية التي يعيشون فيها، والذين يستخدمون المنصة لبناء أنواع جديدة من المجتمعات لا يمكنهم تكوينها في الفضاء الحقيقي.
العديد من هذه المجموعات لديها معايير ثقافية مضادة وهو ما قد يسميه علماء السياسة مجتمعات “الانقسام المتقاطع- cross-cleavage”، وتشمل هذه المجموعات التجمعات الاجتماعية التقليدية، وتجمع الأشخاص الذين يتم تقسيمهم عادة حسب الموقع الجغرافي حول سمة أو مصلحة مشتركة.
أتاحت المزايا المرنة لمنصات الإنترنت ظهور أنواع جديدة من القادة في هذه المجموعات يتمتعون بمهارات فريدة في الإشراف على الحوارات.
يعمل قادة العديد من هذه المجموعات على إدارتها بدافع الحب فهم ليسوا مدربين ولا يتقاضون أجرًا وغالبًا ما تكون القواعد التي تحكم عملياتهم الداخلية غير مقننة، وتتمتع منصة الاستضافة – فيسبوك في حالة الدراسة- بسلطة كبيرة على عملياتهم ومستقبلهم.
تبقى هذه المجموعات التي يتمتع بعضها بعضويات ضخمة، مجموعات ناشئة وغير معترف بها إلى حد كبير في الواقع، فهي خارج هياكل السلطة التقليدية والمؤسسات.
مجموعات فيسبوك الأكثر نجاحًا تحتوي على مناقشات قوية وتداولية ومثيرة للجدل في كثير من الأحيان حول مواضيع ذات أهمية لأعضائها، وبالتالي تتطلب إشرافًا قويًّا لإدارتها. وغالبًا ما تعمل هذه المجموعات على تمكين قادتها وأعضائها من خلال تجاوز الحدود التقليدية للعرق والطبقة الاجتماعية، وتساعد القدرة على إنشاء مجتمعات لا يستطيع الأشخاص إنشاءها، ناهيك عن قيادتها في مساحة حقيقية في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في بداية هذا التقرير ما الذي يحفز الأشخاص على المشاركة في المجموعات على الإنترنت، على الرغم من أن الفضاء الجغرافي بعيد عن الأنظار فإنه لا يغيب عن الذهن أبدًا لكن الفضاء الافتراضي يخلق فرصةً للمجموعات غير المهيمنة (المهمشة) للاجتماع ومناقشة شؤونها.
وجوب إجراء مزيد من الأبحاث لفهم ما إذا كانت المجموعات عبر الإنترنت ستعمل كمجتمعات حقيقية على المدى الطويل، خاصة بالنظر إلى التوترات الناجمة عن إدارة الحياة العامة على منصة خاصة مثل فيسبوك، وكيف يمكن دعم هذه المجموعات وقادتها لضمان توفير أكبر قدر من التعبير عن الرأي والمشاركة والاستفادة لأعضائها.
وتأسيسًا على ما سبق، لقد أظهرت تلك الدراسة أهمية الدور الذي تلعبه المجموعات على موقع فيسبوك، حيث تعتبر في كثير من الأحيان متنفسًا للمستخدمين يبحثون خلاله عن جوانب يفتقدونها في واقعهم المعاش، كما سلطت الضوء على ظهور نمط جديد من القيادة في فضاءات التواصل الاجتماعي هم قادة المجموعات على الإنترنت، الذين يتولون مهمة إدارة تلك المجموعات وتنفيذ القواعد الخاصة بكل مجموعة، وتأمين أجواء كفيلة باستيعاب الاختلافات بين الأعضاء، والتي تتسع قطعًا مع زيادة حجم العضوية في تلك المجموعة.
ولعلّ النقطة الأهم التي يجب البحث فيها هي مدى إمكانية تحقيق التكامل بين تلك المجموعات في العالم الافتراضي وربطها بالواقع الفعلي، فتلك العملية كفيلة بالقضاء على إشكالية الانعزال التي تتولد نتيجة الانخراط في المجتمعات الافتراضية، كما يسهم ذلك الربط -حال تحقيقه- في توجيه الطاقات والأفكار نحو تنمية المجتمع في الواقع، وتعزيز الترابط بين مختلف مكوناته.