تلعب المنصات الرقمية دورًا بارزًا في ظل الصراعات التي يموج بها العالم، لدرجة جعلتها إحدى الجبهات الأساسية في أي نزاع يُثار، سواء على الصعيد الخاص أو العام، وقد اكتسب ذلك البُعد اهتمامًا كبيرًا من جانب العديد من الدراسات والأطروحات الأكاديمية التي استهدفت دراسة وتحليل كيفية تأثير تلك المنصات على شكل وأنماط الصراعات.
في المقابل، لم يلق الجانب المتعلق بتأثير التغييرات في طبيعة الحروب على الحياة اليومية للأفراد المنخرطين في معاركها عبر الفضاء الرقمي، اهتمامًا كبيرًا، وهو ما ركّزت عليه دراسة نشرتها مجلة ” Media، War & Conflict ” تحت عنوان “من الأريكة إلى خط المواجهة: الوساطة الرقمية وتدجين الحرب”.
دورُ الرقمية في التطور المفاهيمي للحروب
تنطلق الدراسة من حقيقة الطبيعة المتغيرة للحرب باستمرار، وهو ما جسّدته سلسلة من المفاهيم التي صكّها العلماء حول تلك المسألة، ومنها الحرب الهجينة، والحرب بالوكالة، والحرب غير المتكافئة، والحرب غير النظامية وغيرها.
ووسط غمار تلك التغييرات، ركزت مجموعة من الأدبيات على المعلومات كمحور أساسي للتحول في الحرب، فظهر مفهوم “الحرب الإلكترونية- cyber warfare”، بينما ركّز آخرون على دور أنظمة المعلومات في إدارة الحرب حيث “الحرب عن بُعد remote warfare”، وفيها يتم استغلال التقنيات الرقمية من أجل المشاركة في النزاع من مكان بعيد.
كما سلط عدد من الباحثين والخبراء الضوء على الكيفية التي تتيح بها تقنيات المعلومات أشكالًا جديدة من المشاركة في الحرب، فعلى سبيل المثال يرى الدكتور هولجر بوتش أستاذ الإعلام النرويجي أن بيئات وسائل الإعلام الجديدة تتيح أشكالًا غير مسبوقة من المشاركة والنشر تجعل الوظيفة الخطابية، والتأثير السياسي للمعلومات في الحرب غير متوقع بشكل كبير.
وفيما اعتبر الباحث والصحفي البريطاني ديفيد باتريكاراكوس أنه يمكن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يصبح لاعبًا في تلك الحرب، يجادل ويليام ميرين الأستاذ المشارك في الإعلام والاتصال بجامعة سوانسي البريطانية بأن “الحرب التشاركية- participative war” تؤدي إلى واقع تتحول فيه كل بؤرة حرب إلى ساحة معركة عالمية.
ونوَّهت الدراسة إلى أن المناقشات الراهنة حول زيادة أشكال المشاركة ركَّزت على ظهور فاعلين جدد أو سلطت الضوء على كيفية استخدام التقنيات التشاركية من قبل الجهات الفاعلة التقليدية لتحقيق أهدافهم المتعلقة بالصراع، في حين أغفلت بُعدًا مهمًّا، ألا وهو كيفية تغيير الصراع للحياة اليومية.
ويُجادل مارك أندريجيفيتش أستاذ الإعلام الرقمي بجامعة موناش الأسترالية بأن مستخدمي الإنترنت يصبحون مواطنين مجندين “citizen-soldiers” عندما تتم دعوتهم للمشاركة في الحرب على الإرهاب من داخل منازلهم.
لقد أتاحت المشاركة الرقمية عن بُعد، ليس فقط لمراكز العمليات العسكرية إدارة الطائرات من دون طيار من على بُعد آلاف الكيلومترات، ولكن أيضًا إمكانية إدارة الحرب من غرف النوم، والمشاركة فيها بواسطة الأدوات الرقمية الشخصية.
وتُشير الدراسة إلى أن هذا النوع من الحرب التي تدار من الأماكن الخاصة ظل خارج نطاق المناقشة تقريبًا، ربما لأن تأثيره المحتمل على ساحة المعركة الفعلية يُعتبر محدودًا.
وفي ضوء ذلك، تمحورت الدراسة حول السؤال البحثي الرئيسي التالي كيف تُغيِّر التحولات في طبيعة الحرب الحياة اليومية للأفراد؟ وما عواقب الوضع الذي تصبح فيه الحرب جزءًا من الممارسات الروتينية اليومية؟
وتتطلب الإجابة عن هذا التساؤل التركيز على البُعد المكاني لهذا التوسع الرقمي للحرب، عبر استكشاف كيف تُغير الأشكال الجديدة من المشاركة في النزاعات على بنية حياة المستخدمين المنزلية.
المشاركةُ الرقميةُ في النزاعات وظاهرة حرب الأريكة
من هذا المنطلق ركَّزت الدراسة على ظاهرة “حرب الأريكة-Sofa warfare “، و” قوات الأريكة- sofa troops”، وهما وصفان ساخران لمستخدمي الإنترنت الذين يشاركون في الصراع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه غالبًا ما ارتبط مفهوم “جنود الأريكة” بنمط مشاركة في الحرب منخفض المخاطر، أو بنشاط لا معنى له يتطلب جهدًا ضئيلًا، وفي الوقت نفسه اعتبار حرب الأرائك “بناءً استطراديًّا- discursive construct” يُسلط الضوء على كيفية حدوث الحرب في مساحة شديدة الخصوصية (المنزل).
وتُصبح العائلة مكانًا للصراع بين خصوصية الحياة اليومية والقوى الخارجية التي تغير هذا الفضاء من خلال الاعتماد على أشكال جديدة من “الوساطة الرقمية- digital mediation”.
ويحتاج الاقتراب من مفهوم حرب الأريكة كبناء استطرادي، إلى وجود إطار نظري ومنهجي؛ لرصد التحول في الفضاء المحلي (المنزل) بفعل الأشكال الجديدة للوساطة الرقمية التي تسمح بالمشاركة في النزاعات.
ونوَّهت الدراسة إلى أن تغوُّل الأدوات الرقمية في الحياة اليومية أفسح المجال أمام انخراط مستخدمي تلك الأدوات في العديد من النزاعات المسلحة، ما دفع نفرًا من الباحثين إلى تدشين مفهوم “العسكرة الرقمية- digital militarism” لاستكشاف كيفية تمكين تقنيات المعلومات من امتداد الثقافة العسكرية إلى وسائل الإعلام الاجتماعية عبر أشكال مختلفة من مشاركة الأفراد أثناء الصراعات المسلحة بما في ذلك استخدام الهاشتاقات، والإعجابات، والمشاركات، والميمات.
واللافت أن الأبحاث والدراسات التي تناولت المشاركة الرقمية في النزاع، ركَّزت بشكل أكبر على تقنيات المشاركة، وبدرجة أقل على كيفية تعديل المساحة الخاصة للمستخدمين.
ويُعالج أندرو هوسكينز الأستاذ بجامعة جلاسكو بالمملكة المتحدة وبن أولوغلين أستاذ العلاقات الدولية بجامعة رويال هولواي هذا السؤال من خلال الاعتماد على فكرة الوساطة، التي يعرّفانها بأنها “العملية التي يتم من خلالها دمج الحرب في وسائل الإعلام واختراقها”، فكلما أصبحت وسائل الإعلام جزءًا من الحرب، أصبحت الحرب جزءًا من حياتنا اليومية.
ومن هذا المنطلق، اعتمدت الدراسة على فكرة “التدجين –domestication” من أجل استكشاف دور التكنولوجيا في تغيير الفضاء الداخلي، إذ تتناول الجوانب الأساسية للتدجين مسألة التغيير في تعبئة الموارد داخل العائلة، وهذا لا يعني بالضرورة أن التكنولوجيا تخضع لسيطرة المستخدمين، ففي بعض الحالات يحدث العكس؛ إذ تستحوذ التكنولوجيا على حياة مستخدميها، وعندئذ يُصبح الفضاء الداخلي موقعًا للصراع بين القوى الداخلية والخارجية.
وتُوفر المنصات الرقمية فرصًا جديدةً للتدخلات الخارجية، باعتبارها آليات رئيسية تُسهم في تآكل الحدود بين المساحات العامة والخاصة. وبهذا المعنى يُمكن أن تساهم المشاركة المرتبطة بالنزاع في اختراق الحدود بين الخارجي والداخلي، وإعادة الهيكلة المحتملة للعلاقة بين المساحة الخاصة (المنزل) والحرب، فضلًا عن تحدي الدور التقليدي للفضاء المحلي في سياق النزاعات.
وقد اعتمدت الدراسة على “الميمات- memes” كشكل من أشكال “البناء الاستطرادي- discursive construction” الذي يسمح بفحص كيف يُغيِّر “تدجين الحرب- domestication of warfare ” المساحة الخاصة للمستخدمين.
وتعتبر الميمات وحدات للثقافة الشعبية يتم تداولها وتقليدها وتحويلها من قبل مستخدمي الإنترنت الفرديين، مما يخلق تجربة ثقافية مشتركة في هذه العملية، كما أنها أداة مفيدة لمستخدمي الإنترنت لتشكيل وإعلان هويتهم والمشاركة في الخطاب المتعلق بالأحداث في وسائل الإعلام.
وأجرت الدراسة تحليلًا استطراديًّا لخطابات الميمات التي تشير إلى مفهوم “حرب الأريكة” في سياق الصراع بين روسيا وأوكرانيا، نظرًا لكونه أحد المفاهيم الرئيسية التي تمت مناقشتها فيما يتعلق بدور الإنترنت أثناء الصراع بين البلدين.
وقد قدمت الدراسة تعريفًا لـ”قوات الأريكة- sofa troops” بأنها “جزء نشط من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي يأخذ دورًا غير رسمي في حروب المعلومات الافتراضية.
ونوَّهت الدراسة إلى أن الميمات تحظى بأهمية خاصة في ثقافة الإنترنت الروسية، حيث تسعى إلى تجنب الرقابة باستخدام السخرية، كما يندرج إنتاج الميمات في سياق العسكرة الرقمية، كشكل من أشكال المشاركة التي تحركها جهات معينة.
أبرزُ النتائج والاستخلاصات التي توصلت إليها الدراسة
وقد خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج يمكن استعراضها على النحو التالي:
على الأرجح سيزداد التوتر بين الحياة اليومية وعسكرة الفضاء الخاص مع زيادة تطوير الممارسات التشاركية، فمن خلال النظر إلى العائلة على أنها “نظام موارد” سيعني هذا تخصيص المستخدمين الرقميين المزيد من الموارد للنزاع، في حين سيتم ترك موارد أقل للمساحة الخاصة بالأسرة.
أحد الجوانب الرئيسية للنزاعات في بيئة المعلومات الجديدة ليست الصراع بين الخصوم، ولكن موقعه في الحياة اليومية للمجتمعات، بمعنى أن الصراع الحقيقي بالفعل لا يدور في ساحة المعركة – سواء خارج الإنترنت أو عبر الإنترنت – ولكن في المساحة المنزلية.
الأدوات الرقمية الجديدة التي تتيح مجموعة من الممارسات التشاركية تجعل الداخل ضعيفًا بشكل خاص في مواجهة القوى الخارجية التي لا تنحصر في مسألة العسكرة الرقمية فحسب، بل تشمل أيضًا مجموعة متنوعة من التدخلات الخارجية في الفضاء المنزلي مثل “خوارزميات المراقبة – algorithmic surveillance ” في بيئة المنزل.
وتأسيسًا على ما سبق، تُظْهر الدراسة حجم التأثير المتنامي لاستخدام الأدوات الرقمية في النزاعات على حياة المستخدمين في النطاقات الخاصة، ويضاعف من قوة التأثير حاليًا أن الضغط الخارجي التكنولوجي على الحياة المنزلية قد ازداد بشكل كبير في سياق جائحة كورونا، إذ أدت الحاجة إلى البقاء في المنزل إلى أشكال مختلفة من التغييرات في بيئة المنزل، وسلوكيات الأفراد داخله؛ لتعويض العزلة الاجتماعية.
لذلك بات السؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن للأفراد أن يتمتعوا بالسيادة في بيئتهم الخاصة؟ وكيف يمكن حماية سيادة الفضاء الداخلي في مواجهة القوى الجديدة التي تعتمد على الوساطة الرقمية لخرق الحدود بين الفضاءين الخارجي والداخلي؟ وهي أسئلة بحثية جديرة بإسهامات أكاديمية من جانب الخبراء والمتخصصين.
