أمضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، إلى جانب فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين سنوات من المفاوضات مع إيران، للتوصل إلى الاتفاق النووي لعام 2015، والذي حد من القدرات النووية الإيرانية مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية على طهران، إلا أن السلوك العدائي الذي انتهجه نظام الملالي في المنطقة ودعمه للميليشيات الإرهابية وتهديده للأمن والاستقرار الإقليمي، كان سببًا رئيسيًّا دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الانسحاب من الاتفاق في مايو عام 2018 وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، ضمن سياسة الضغط القصوى.
ومع عودة الديمقراطيين مجددًا إلى البيت الأبيض، حيث من المقرر تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن في 20 يناير المقبل، تسود حالة من الترقب لمدى التغير الذي سيطرأ على السياسة الأمريكية تجاه طهران، لا سيما مع إعلان بايدن عن تبنِّي استراتيجية تدريجية، تقوم كخطوة أولى على العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني شريطة التزام إيران ببنود الاتفاق، وتشمل في مرحلة لاحقة معالجة المخاوف الأخرى بشأن السياسة الإيرانية في الإقليم وقدراتها الصاروخية، إلا أن رؤية بايدن تجابهها العديد من التحديات، سواء داخل الولايات المتحدة أو من جانب إيران ذاتها.
عودة أمريكية مشروطة للاتفاق النووي الإيراني
كشف الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن الخطوط العريضة لسياسته تجاه الاتفاق النووي الإيراني خلال مقالات ولقاءات صحفية مع وسائل إعلام أمريكية، من أبرزها صحيفة نيويورك تايمز وشبكة “سي.إن.إن” الإخبارية، وهي سياسة مشروطة، حيث ستعود الولايات المتحدة مجددًا إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، إذا عادت طهران إلى الامتثال لبنود الاتفاق، علمًا بأن “إيران” كانت قد بدأت هذا العام في تخصيب كميات من اليورانيوم أكبر من السقف الذي حدده الاتفاق.
ويبحث الرئيس الأمريكي المنتخب ومستشاروه عن طرق لتعزيز الاتفاق من أجل كسب الأصوات المعارضة في الكونجرس التي تشكك في جدوى العودة للاتفاق النووي، ومن بين التعديلات الأكثر ترجيحًا التي سيطلبها فريق بايدن توسيع القيود -كان أبرزها وضع حد لإنتاج الوقود النووي- التي كان من المقرر أن تنتهي في عام 2030، وتوسيع نطاق الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، حاول مسؤولو الإدارة الأمريكية بناء ما يسمونه “جدار العقوبات” باعتباره امتدادًا لا يمكن اختراقه لحملة “الضغط الأقصى” لمعاقبة إيران، حيث فرضت وزارتا الخارجية والخزانة عقوبات جديدة على أفراد وكيانات إيرانية، وكذلك شركات من دول أخرى تدعم “إيران”، كوسيلة لمنع وصولهم إلى النظام المالي الدولي وسوق النفط والفرص الاقتصادية الأخرى.
ويرى إيلان غولدنبرغ، الخبير بشؤون الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد، أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وفريقه يحاولون جعل الأمر صعبًا قدر الإمكان لبايدن للانضمام إلى الاتفاق مجددًا.
ويشير غولدنبرغ إلى أن العديد من العقوبات في الآونة الأخيرة لم تستند إلى الملف النووي ولكن إلى قضايا حقوق الإنسان.
إرث ترامب.. يصعب محاولة إحياء الاتفاق النووي الإيراني
وعلى هذا، سيكون إحياء الاتفاق النووي الإيراني من بين أصعب التحديات التى تواجهها إدارة بايدن على الصعيد الخارجي، حيث سيتعين على فريقه التعامل مع مجموعة من العقوبات الأمريكية التي فرضت على إيران خلال فترة حكم ترامب، فضلًا عن تعديل الاتفاق لحشد الدعم المحلي والدولي وإقناع طهران بأن من مصلحتها التعاون.
كما سيتعين على إدارة بايدن العمل بسرعة، فالرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي يُنظر إليه على أنه أفضل مدافع عن الاتفاق داخل إيران، سيغادر منصبه في يونيو المقبل، بحسب صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية.
وترى سوزان مالوني، المستشارة السابقة لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية أن إدارة بايدن لديها الفريق الأكثر خبرة فيما يتعلق بالتعامل مع إيران، لكن العقبات هائلة أكثر من أي وقت مضى، وربما أكثر صعوبة.
واعتبرت مالوني أنه من الضروري التوصل إلى نهج للتعامل مع هذا الملف، فلا يوجد ترف الوقت للتأجيل.
ويعد الاتفاق النووي، الذي وقعته إدارة أوباما في عام 2015، مجرد جانب واحد من التحدي الذي تواجهه إدارة بايدن في التعامل مع إيران، حيث تعرضت طهران لضربات كبرى تمثلت في اغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني والعالم النووي محسن فخري زاده، فالأول قُتل على يد الولايات المتحدة، والثاني اتهمت إيران إسرائيل بقتله، فضلًا عن ذلك تواجه إيران انهيارًا اقتصاديًّا ناجمًا عن العقوبات الأمريكية وتفشِّي جائحة فيروس كورونا.
ولم ترد إيران على تلك الاغتيالات حتى الآن، لكن هذا القرار يمكن أن يتغير بفعل ضغوط التيار المحافظ، لا سيما خلال الأشهر القليلة المقبلة، حيث ستجري إيران انتخابات رئاسية في يونيو المقبل، ولن يتمكن الرئيس الإيراني حسن روحاني -المحسوب على التيار المعتدل- الترشح مرة أخرى، فبموجب القانون الإيراني، لا يمكن للرئيس الحالي أن يترشح لولاية ثالثة إذا كان خدم بالفعل فترتين رئاسيتين متتاليتين.
التعنت الإيراني ورفض نهج المفاوضات الشاملة
وفي ذات الإطار، تشير مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إلى أن هناك إجماعا واسعا داخل المؤسسات الإيرانية على أن “طهران” لن تقدم أي تنازلات بخصوص ما يسمى بـ”استراتيجية الردع الإيرانية”، وهذه الاستراتيجية لها شقان، الأول يتمثل في تعزيز ودعم الحلفاء الإقليميين حيث الميليشيات المسلحة الطائفية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، أمَّا عن الشق الثاني فيتمثل في تعزيز القدرات الصاروخية الإيرانية، عبر تطوير واختبار الصواريخ قصيرة وطويلة المدى وكذلك الصواريخ الباليستية.
وقد توسعت هذه الاستراتيجية منذ الحروب التي قادتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، والتي جلبت مئات الآلاف من القوات الأمريكية إلى المنطقة على بعد أميال قليلة فقط من الحدود الشرقية والغربية لإيران، مما زاد بشكل كبير من خطر حدوث ضربة عسكرية وشيكة على الأراضي الإيرانية.
ورغم هذا الإجماع العام على استراتيجية الردع، يمكن تقسيم نهج الحكومة الإيرانية تجاه دعوة بايدن لإجراء مفاوضات شاملة إلى معسكرين رئيسيين:
المعسكر الأول يضم المحافظين، الذين حصلوا مؤخرًا على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية (مجلس الشورى الإيراني) ومن المتوقع أن يفوزوا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويرفض المحافظون بشدة أي محادثات مع الولايات المتحدة بشأن القضايا غير النووية، وتَعزَّز موقفهم باغتيال الجنرال قاسم سليماني في أوائل العام الحالي ومؤخرًا عقب اغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زاده، فهذه الاغتيالات كانت في نظرهم محاولة من قِبَل خصوم إيران لشل قوة الردع الإيراني، وحان الوقت الآن لإحياء هذا الردع بدلًا من التفاوض.
وفي هذا الإطار، انتقد سعيد جليلي، العضو البارز في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، بشدة الرئيس روحاني لمناقشته قضية الصواريخ مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في محادثة هاتفية، ودعا جليلي، المفاوض النووي السابق أثناء رئاسة محمود أحمدي نجاد إلى رفض مثل هذه المحادثات، معلنًا أن المحادثات غير النووية محظورة وغير مقبولة.
ويعتقد المحافظون أنه مثلما سعى الغرب للحد من قدرات إيران النووية في المحادثات النووية السابقة، فإن أي مفاوضات بشأن الصواريخ والقضايا الإقليمية ستوجه ضربة قاصمة للأمن القومي الإيراني، حيث قال رئيس مجلس الشورى الإيراني، محمد باقر قاليباف، مؤخرًا إن “المفاوضات مع الولايات المتحدة ضارة للغاية وممنوعة”.
وعندما كان المحافظون في السلطة خلال رئاسة أحمدي نجاد، شهد العالم ست سنوات من المفاوضات غير المثمرة بين إيران والغرب من 2008 إلى 2014، وقد يعيد هذا الاتجاه نفسه إذا فاز المحافظون في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
المعسكر الثاني يتألف من البراغماتيين والمعتدلين الذين لا يرون في المفاوضات غير النووية تهديدًا للمصالح الوطنية لإيران، ومع ذلك فهم لن يقبلوا أن يكون تنفيذ الاتفاق النووي مشروطًا بمفاوضات إقليمية ومفاوضات بشأن الصواريخ.
ويتضح من ذلك أن الاختلافات بين التيار المحافظ والمعتدل في إيران بشأن إدارة الأزمة مع الولايات المتحدة والغرب هي اختلافات شكلية، أمَّا الجوهر فهو واحد، فهما يتشاركان نفس الأهداف ويمارسان نفس التعنت في الموقف التفاوضي، وإن اختلفت حدة التعبير بينهما.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تجربة الاتفاق النووي الإيراني وما أفرزه من تداعيات سلبية على الأمن والاستقرار الإقليمي تُظهر أن الحل الأمثل للتعامل مع الخطر الإيراني هو عقد اتفاق جديد مع توسيع نطاق أطرافه ليشمل القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، على ألا يصاغ الاتفاق برؤية ضيقة كسابقه، فلا يقتصر على معالجة الملف النووي الإيراني ولكن يشمل ضمانات تكفل التزام طهران بسياسة حُسن الجوار والتوقف عن دعم الميليشيات المسلحة، وإنهاء برنامجها الصاروخي.
وأخيرًا.. فإن أي مقاربة تنتهجها إدارة بايدن بخلاف ذلك النهج لن تفضي إلى نتيجة ملموسة، ولن يكتب لها النجاح.
5 دقائق