تنظر الدول الديمقراطية إلى المعلومات باعتبارها قوةً تمكينية في أيدي المواطنين، فالتدفّق الحرّ والمفتوح للأفكار والأخبار والرأي يُغذّي الديمقراطية.
بينما ترى الأنظمة الاستبدادية هذا النموذج تهديداً، وتَعتبر المعلومات خطراً على أنظمتها، وشيئاً يَتعيّن السيطرة عليه وتشكيله عن طريق الرقابة والتلاعب بالمعلومات، لذا تُعزّز الأنظمة الاستبدادية قوّتها في الداخل، بينما تُضعِف المنافسين الديمقراطيين في الخارج.
ولم تتكيّف الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون مع هذا الواقع، فقد كانوا يركّزون على ما يحاولون هزيمته، ولم يُطوّروا استراتيجيةً للنجاح في هذا الميدان، وقد ظهر الصراع على المعلومات في وقتٍ تَتعرّض فيه الديمقراطيات لضغوطٍ متزايدة من الداخل والخارج، بينما يكتسب الاستبدادُ أرضاً حول العالم.
إن التنافسَ الجديد بين القوى العظمى لن يَحدُث بالضرورة في ساحات المعارك أو في غرف الاجتماعات، بل سَيَحدث على الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والبنية التحتية الرقمية، كما أن نهج عدم التدخّل الذي تَتّبعه العديد من الحكومات الديمقراطية للحصول على المعلومات، سَيُصَعّب من عملية التنافس في هذا المجال.
مقاربات مختلفة لأنظمة الحُكم في التعامل مع المعلومات
تُواجِه الدولُ الديمقراطية مُعضِلة، فإذا لم تَقُم بدورٍ نَشِط في تنافس المعلومات، فسوف تكون عُرضةً للخطر في الداخل، ولكن إذا كانت أكثر استباقية وعدوانية، فإنها ستخاطر بتقليدِ السلوك المتشدّد للحُكم الاستبدادي، وخلق بيئةٍ يتمّ التحكّم فيها بصرامة.
إنّ مخاطر هذا التنافس عالية، فإذا نَجَحت الجهات الاستبدادية، ستتحكّم الدولُ بشكل متزايد في المعلومات، وتُشكّل نظرةَ مواطنيها إلى الواقع، إذ إن القواعد العالمية التي تَحكُم البنية التحتية للمعلومات، سَتُفضّل الأنظمةَ الاستبدادية، وليس الديمقراطيات، مما يَحدّ من قدرةِ الولايات المتحدة على ممارسة النفوذ وإبراز القوة، مع إضعاف نموذجِ الحُكم الخاص بها، وسيصبح العالم أكثرَ استبداديةً وأقلَّ ديمقراطية.
التنافس المعلوماتي جزء من استراتيجيات الأمن القومي في روسيا والصين
بعكس الولايات المتحدة، جعلت الصين وروسيا التنافسَ المعلوماتي جزءاً رئيسياً من استراتيجيات الأمن القومي، لقد منحتا الأولويةَ للأنشطة في الفضاء السيبراني (البنية التحتية للشبكة التي يقوم عليها الإنترنت، مثل الخوادم وأنظمة الكمبيوتر، والتي يُمكن أن تكون عُرضةً للاختراقات)، وفي فضاء المعلومات (ساحة البيانات والإدراك العام، حيث يمكن للدول استخدام المراقبة، وجمع البيانات، وأداء التجسّس، وتشويه المعلومات).
يُؤكّد البلدانِ على سيادتهما في الفضاء الإلكتروني، بهدف مراقبة أو التحكّم في تدفّق المعلومات داخل حدودهما، وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من استخدامهما تكتيكاتٍ مختلفة، فقد طوّرت كلٌّ من الصين وروسيا طرقاً للتعامل مع المعلومات في الخارج.
وتَسعى الصين وروسيا جاهدتين أيضاً إلى الريادة في التقنيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي، التي سَتُشكّل هذه المنافسة الجيوسياسية في السنوات القادمة، وتربط روسيا نهجَها في الحرب الإلكترونية وحرب المعلومات بعبارات دفاعية، مشيرةً إلى أن الولايات المتحدة تَستخدم بالفعل المعلوماتِ لدعم المنشقّين داخل حدودها.
إن نظرية روسيا لأمن المعلومات لعام 2016 قد أضفت الطابع الرسمي على “حماية سيادة المعلومات في روسيا”، للحفاظ على استقرار المجتمع الروسي.
وفي الصين، تَلتزم السلطاتُ بالسيطرة الصارمة على تدفّق المعلومات داخل البلاد، مع تسخير المعلوماتِ للتأثير على المجتمعات في الخارج، وقد دعا الحزب الشيوعي الصيني إلى التنسيق الوثيق بين أجهزة الدولة في حماية الفضاء السيبراني ومساحة المعلومات، سعياً لخلق “إنترنت متناغم” من خلال مراقبةِ المعارضة، وحصر المورّدين الأجانب للتكنولوجيا في الصين، وتعزيز نموذج الصين للفضاء الإلكتروني.
كما قامت الصينُ ببناء مؤسساتٍ لتعزيز هذه الاستراتيجية، حيث لعبت أجهزةٌ مثل إدارة الفضاء الإلكتروني في الصين، وجيش التحرير الشعبي، أدواراً في نهج الصين المتكامل تجاه الفضاء الإلكتروني ومساحة المعلومات.
وفي عام 2019، حاولت عناصرُ مرتبطة بالحكومة الصينية، التلاعُبَ في مناقشات احتجاجات هونغ كونغ على منصات مثل ” Facebook- Twitter – YouTube”، وسعى المسؤولون الصينيون ووسائلُ الإعلام الصينية أيضاً، إلى تشكيل تغطيةٍ لتفشّي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، الذي بدأ في أواخر عام 2019، بقمعِ التقارير عن إخفاقات الصين (بما في ذلك عن طريق طردِ 3 مراسلين في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية من البلاد، رداً على مقال رأي انتقد التستّر الأوليّ للصين).
وتَستخدم الصين الإكراه للسيطرة على الحديث خارج حدودها، والضغط على الشركات لتجنّب المواضيع “الحساسة”، إذا كانت تريد الاستمرار في ممارسة الأعمال التجارية في البلاد.
وفي عام 2019، انتقمت الشركات الصينية من الرابطة الوطنية لكرة السلة الأمريكية، من خلال قطع الشراكات والرعاية والبثّ بَعد تغريدة دالاس موري، المدير العام لفريق هيوستن روكتس الأمريكي، لدعم الاحتجاجات في هونغ كونغ، وقد اعتذرت الرابطة بسرعة، حرصاً على حماية وصولها إلى السوق الصينية.
الأمن السيبراني وأمن المعلومات.. وجهان لعملة واحدة
تَتعامل الصين وروسيا مع الأمن السيبراني وأمن المعلومات، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، وهو نهج يُتِيحُ التحكّم في المعلومات ومعالجتها على مستويات متعددة، إذ تعمل الحكومة الصينية مع القطاع الخاص بشكل أوثق، لتطوير ونشر تقنيات جديدة.
وكانت كلٌّ من بكين وموسكو ضَخّتا مبالغَ كبيرة من رأس المال في التقنيات الناشئة، لتوجيه التنمية لصالح المصلحة الاستراتيجية للدولة، وبدأت الشركات الصينية والروسية بالفعل في تطوير تقنيات وتطبيقات جديدة ذات مدى عالمي.
وفي العام الماضي، أثارت شعبية FaceAppوهو تطبيق تمّ تصميمه وتوزيعه من قبل شركة روسية، شَجَّعَت المستخدمين على تحميل صور وجوههم، أسئلةً حول ما إذا كان بإمكان الحكومةِ الروسية استخدامه لجمع بيانات التعرّف على الوجوه من جميع أنحاء العالم.
ويُمكِن أيضاً تدريب الخوارزميات على تعزيز محتوى مُعيّن أو منع محتوى آخر، وهي وظيفة فرضتها الصين محلياً، في أحدث قواعد تنظيم المحتوى الخاصة بها، ويبدو أنها تُستَخدم عالمياً من خلال منصات مثل تطبيق “تيك توك – TikTok” الشهير لمشاركة الفيديوهات.
وتَعمل بكين على تطوير تكنولوجيا مراقبة تَعتمد على الذكاء الاصطناعي لما تُسَمّيه “الحوكمة الاجتماعية”، والتي تتمثّل في معاملتها للأقليات المسلمة في إقليم شينجيانغ غربي الصين، الذين يخضعون للرصد الشامل من خلال هذه التكنولوجيا، والذين أُجبِروا على دخول ما يُسمّى بـ “معسكرات إعادة التثقيف”.
وعلى الرغم من تأخّر روسيا عن الصين في تطوير الذكاء الاصطناعي، سَعَى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اللحاق بالركب، والاستثمار بكثافة في الأبحاث، وتوسيع شراكات الذكاء الاصطناعي مع الصين.
إن ما يُعرف باسم “طريق الحرير الرقمي” في الصين، وهو لوح تكنولوجي من مبادرة الحِزام والطريق التي تَعتمد على البِنية التحتية والمستندة إلى الاستثمار، يُعدّ من الوسائل التي يتمّ من خلالها تصدير تقنيات الشبكات والمنصات، وتشكيل البنية التحتية والمعايير التي تَحكُم المعلومات في البلدان الأخرى.
كما أن تركيب مُعدّات شبكة الجيل الخامس G5 الصينية حول العالم، سَيُمكّن من جَمْع شرائحَ ضخمةٍ من البيانات من قبل شركات الاتصالات الصينية، ويُمكن مشاركة هذه المعلومات مع الدولة الصينية أو مؤسسات الحزب الشيوعي.
وقد ساعد دعم الحكومة الصينية لشركة “هواوي -Huawei “، وهي شركة تكنولوجية صينية تَبيع مُعدّات الاتصالات والهواتف الذكية، وغيرها من الإلكترونيات الاستهلاكية، في إنشاء عملاق عالمي.
كما تُوزّع الصين تقنياتِ المراقبة على الدول الديمقراطية الغربية، إذ تَعمل مدينة مرسيليا في فرنسا مع شركة الاتصالات الصينية ZTE لتأسيس شبكة مراقبة عامة.
وعلى الرغم من أن الصين أكبر مُصَدِّر للبنية التحتية العالمية للمعلومات، إلا أن الشركات الروسية تُصدّر أيضاً تقنيات مراقبة الإنترنت مُنخفضةَ التكلفة إلى العديد من البلدان، بما في ذلك العراق والمكسيك.
وإلى جانب البنية التحتية الرقمية، تقوم الصين وروسيا ببناء شبكات إعلامية تقليدية خارج حدودهما، وتوسيع نطاق قنواتهما المدعومة إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وتطوير شراكات مع منافذ خارجية لنشر المحتوى الملائم للمصالح الصينية والروسية.
فعلى سبيل المثال، استثمرت الصين في وسائل الإعلام المستقلّة بجنوب أفريقيا، ولدى المجموعة الإعلامية StarTimes المملوكة للصين، عمليات في 30 دولة أفريقية.
كما تتحكم شركات الإعلام الصينية المملوكة للدولة، في بعض صفحات “فيسبوك – Facebook” الأسرع نمواً، وتحتفظ قناة “روسيا اليوم – RT” باللغة الإنجليزية على “يوتيوب – YouTube” بمتابعة قوية.
العالم بين خياري الإنترنت ذي السيادة والإنترنت الحرّ
تُشكّل الصين وروسيا معاً نموذجاً بديلاً للإنترنت الحرّ والمفتوح، الذي دافعت عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها لعقود، من خلال رؤية للإنترنت ذي السيادة، يوفر سيطرةً كبيرة للحكومات الوطنية.
وفي الخريف الماضي، عملت روسيا مع الصين ودول أخرى على تأمين دعم الجمعية العامة للأمم المتحدة لتطوير مُعاهَدة دولية للجرائم الإلكترونية، تَتمحور حول السيادة الوطنية والرقابة، والتي من شأنها السماح بمزيد من الرقابة الحكومية على المحتوى عبر الإنترنت.
وتعمل بكين، على وجه الخصوص، أيضاً مع الحكومات الأخرى لتطوير أطر قانونية، غالباً ما تكون على غرار قوانينها الخاصة، من أجل “إنترنت ذي سيادة” يَفرض سيطرةً حكومية أكبر على تدفّق المعلومات.
وتُركّز هذه القوانين بشكل متكرّر على الرقابة وإزالة المحتوى الحَسّاس، بالإضافة إلى إصدار متطلبات لتخزين البيانات محلياً في بلدٍ معين، وهي قاعدة تنشئ حواجزَ حمائيةً وتُمكّن من التدقيق الحكومي، وغالباً ما يُرافق القوانين، استيراد التقنيات الصينية والبنية التحتية للشبكات، وكثيراً ما تُدرِّب بكين المسؤولين الأجانب على إدارة الإعلام والمعلومات واستخدام البيانات.
أخيراً.. إن الولايات المتحدة متخلّفة في نَواحٍ كثيرة، بما في ذلك في الإطار الذي تستخدمه لفهم العالم الرقمي، وقد فشلت في إدراك أن أنشطة تنافس المعلومات تحدث عبر ثلاثة أبعاد متكاملة:
– المعلومات (نشر السرد والتحكّم فيه ومعالجته).
– الهندسة المعمارية (الأنظمة والمنصات التي تنقل المعلومات وتطلبها وتجمعها).
– الحوكمة (القوانين والمعايير، وفي بعض الحالات، معايير المحتوى والبيانات والتكنولوجيا).
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية الوطنية السيبرانية في واشنطن لعام 2018، تُشير إلى تهديد عمليات المعلومات والتحدّي الاستبدادي للإنترنت المفتوح، إلا أن معظم النصّ يُركّز على وجهة نظر تقليدية للأمن السيبراني، تقتصر على عمل الشبكات.