في عام 2016م، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقاً مع تركيا يقضي بأن توقف أنقرة عبور المهاجرين من أراضيها إلى الدول الأوروبية، مقابل مساعدات مالية قُدّرت بنحو 6 مليارات دولار، تُقدَّم لها للاعتناء باللاجئين داخل أراضيها، والذين قُدِّروا بنحو (3.6) ملايين لاجئ.
على الرغم من هذا الاتفاق، اعتاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على التهديد بفتح حدود بلاده أمام اللاجئين السوريين للتوجّه نحو أوروبا، بذريعة أن الاتحاد الأوروبي لم يلتزم بتنفيذ تعهداته المالية تجاه أنقرة بشكل كامل، وأن تركيا لا تستطيع تَحمُّلَ هذا العبء بمفردها.
ومؤخراً نفذ أردوغان تهديدَه بالسماح للاجئين بالتوجّه نحو الحدود الأوروبية، وفي 29 فبراير الماضي بدأ الآلاف من المهاجرين واللاجئين بالتدفّق نحو أوروبا، عقب إعلان أنقرة أنها لن تُعيق حركتهم، ونقلت وكالة الأنباء الرسمية التركية “الأناضول” عن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو قوله إن أكثر من 130 ألف مهاجر غير شرعي عبروا الحدود التركية باتجاه اليونان حتى صباح الثالث من مارس 2020م. وأشارت الوكالة إلى أن الرئيس التركي أعلن في 29 فبراير “أن بلاده ستُبقي أبوابها مفتوحة أمام اللاجئين الراغبين بالتوجّه إلى أوروبا”.
وشجّع النظام التركي اللاجئين على مغادرة بلاده نحو أوروبا، لزيادة الضغط على الاتحاد الأوروبي، حيث أعلن أردوغان ووزير داخليته في الثاني من مارس الجاري، أن عدد اللاجئين الذين غادروا تركيا باتجاه اليونان بلغ (117.677) شخصاً، وهو رقم مبالغ فيه بشكل كبير حسب بيان قوات الأمن اليونانية ورواية الصحافيين المنتشرين على الحدود اليونانية، كما تَعمّدت بعض القنوات المحسوبة على النظام التركي استعراضَ خريطة أوروبا، وتوضيح الطرق المختلفة للوصول إلى الدول الأوروبية.
موقف الاتحاد الأوروبي
على الجانب الآخر، اعترضت السلطات اليونانية طريق المهاجرين واللاجئين الذين خرجوا من تركيا، واستخدمت ضدّهم القوّة لمنعهم من الدخول إلى حدودها، ما عرّضهم للكثير من المعاناة والمخاطر، التي كانت متوقعة سلفاً، وغرّد رئيس الوزراء اليوناني على تويتر قائلاً “لا تسامح مع أيّ دخول غير قانوني إلى اليونان”.
وفي هذا الصدد قالت رئيسة المفوضية الأوروبية آورسولا فون دير لاين، إن الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي تشهد ضغطاً بدوافع سياسية، وذلك في سياق حديثها عن أزمة اللاجئين السوريين الموجودين على الحدود اليونانية التركية، وأضافت أن هناك 42 ألف مهاجر تقطعت بهم السُّبل، بينهم حوالي 5500 طفل دون مرافقين.
وبالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، فإنها تتخوّف من انهيار اتفاقية اللاجئين التي أبرمتها مع أنقرة، والتي ستسمح بتدفق أعداد أكبر منهم إلى أوروبا، وتحرص على عدم تكرار تجربة النزوح الكبير للاجئين السوريين إلى أراضيها عام 2015، وما قد يُصاحب ذلك من نشاط حركات اليمين المتطرّف، ويعي أردوغان هذا التخوّف جيداً، ويستغله من أجل الحصول على مكاسب سياسية ومالية وعسكرية.
الابتزاز التركي لأوروبا
في التاسع من مارس الجاري أجرى قادة الاتحاد الأوروبي محادثاتٍ مع الرئيس التركي، وأعلنت المفوضية الأوروبية تَمسُّكَها باتفاقية اللاجئين المبرمة مع أنقرة عام 2016، ليستغلّ الرئيس التركي هذا التمسّك لتحقق المزيد من المكاسب، وجاء إجراء فتح الحدود التركية أمام اللاجئين كنوع من التصعيد التركي، من أجل رفع السقف التفاوضي لأنقرة مع الاتحاد الأوروبي، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة، ويستهدف أردوغان من وراء ذلك الحصول على ما يلي:
- المزيد من الأموال من الاتحاد الأوروبي، مقابل إيوائه اللاجئين السوريين.
- تأييد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لتركيا في عملياتها العسكرية ضدّ قوات نظام بشار الأسد شمالي سورية، وخاصة في محافظة إدلب، فضلاً عن دعم عسكري له في هذه العمليات.
- الضغط على روسيا من أجل التعاون مع تركيا في إنشاء منطقة آمنة على حدودها مع سوريا، وتغيير سياسات موسكو في إدلب، وبالتالي منع نزوح موجة جديد من اللاجئين السوريين.
مدى إمكانية تحقيق الأهداف التركية
تبدو هذه المطالب المستهدفة من جانب نظام أردوغان صعبة التحقيق، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: بالنسبة لزيادة المساعدات المالية لأنقرة، فقد نفى الاتحاد الأوروبي مزاعم أردوغان بعدم التزام الاتحاد بدفع المبالغ المالية المتفق عليها حسب اتفاقية اللاجئين المُبرمة، والبالغة (6) مليارات يورو، وقال إن النظام التركي حصل على مبلغ (3) مليارات يورو، إضافة إلى (3) مليارات أخرى تذهب إلى تركيا في صورة مشاريع إغاثية للاجئين مثل المستشفيات والمدارس.
وجاء خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ليصعّب من زيادة المساعدات المالية لأنقرة، إذ من المتوقع أن تعاني موازنة الاتحاد نتيجة هذا الخروج، والذي سيترتب عليه وقف مساهمات بريطانيا في الصناديق الأوروبية.
ثانياً: وبخصوص تأييد الاتحاد الأوروبي للعمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، لن يحصل أردوغان على هذا التأييد بسهولة، خاصة وأن تلك العمليات سبق وقُوبلت بالاعتراض من جانب العديد من دول الاتحاد، وجاء الاعتراض ما بين الرفض والتنديد، لذا فإن من الصعب تغيير هذا الموقف، لأنه سيتعارض مع المسئولية الأخلاقية التي تقع على عاتق الدول الأوروبية.
بل قد تضغط أوروبا على أردوغان كي لا يقوم بعمليات عسكرية دون مشاورتها، لأن من شأن مثل هذه العمليات زيادة موجات نزوح اللاجئين السوريين الذين يَفرُّون من ويلات الحروب.
إضافة إلى ما سبق، فإنه من غير المعقول أو المنطقي أن تقوم أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأي إجراء – مثل الدعم العسكري لتركيا في عملياتها شمالَ سوريا – لأن ذلك قد يجرّها إلى الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا، خاصة وأن الأخيرة تُسيطر على المجال الجوي السوري.
وتَجدر الإشارة هنا إلى أن قرار تركيا بفتح حدودها مع اليونان وبلغاريا – من الجانب التركي – جاء بعد مقتل العشرات من جنودها في غارة جوية للجيش السوري بالقرب من إدلب في 27 فبراير الماضي.
ثالثاً: بالنسبة للضغط على روسيا من أجل التعاون مع تركيا لإقامة منطقة آمنة شمالَ سوريا، فإن الاتحاد الأوروبي لن يُضحي بتوتير علاقاته مع موسكو، خاصة مع تقدّم قوات الأسد لإتمام السيطرة على شمال سوريا، وتُعدّ روسيا طرفاً رئيسياً وفاعلاً في دعم قوات بشار الأسد.
أمام هذه المعطيات.. يظل مصير اللاجئين مرهوناً بالأوراق السياسية والعسكرية، وبالرغم من أن فتح الحدود التركية أمامهم قد يُعزّز من موقف أردوغان التفاوضي مع الاتحاد الأوروبي، إلا أنه لا يُساعد اللاجئين الحالمين بالهجرة إلى أوروبا، خاصة بعدما اكتشفوا أنهم تَعرّضوا للخداع من جانب النظام التركي، الذي فتح حدوده مع اليونان وبلغاريا ولكن من الجانب التركي فقط، وهو على علم مسبق بأن السلطات في الدولتين الأوروبيتين لن تسمح لهم بالعبور إلى أراضيها، ولذلك أصبحوا عالقين بين حلمهم الأوروبي والخداع التركي الذي لم يُراعِ النواحي الإنسانية لهم ومعاناتهم.
من العرض السابق يتضح أن اتفاقية اللاجئين قد تكون مُهدّدة خلال الفترة المقبلة نتيجة هذه الصعوبات، وعلى الرغم من ذلك، تَظلّ إمكانية زيادة المساعدات المالية لتركيا الاحتمال الأقرب إلى الحدوث إذا ما تمادى أردوغان في ابتزازه وتهوره، وذلك من منطلق أن الأموال قد تكون الثمنَ الأقل ضرراً لأوروبا، وفي المقابل قد يرضى أردوغان بها على الأقلّ خلال هذه المرحلة، التي تشهد فيها بلادُه تردياً اقتصادياً وانخفاضاً كبيراً في قيمة العملة التركية.
وما يُعزّز هذا الطرح أن ألمانيا التي تسعى إلى تولّي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في يوليو 2020م، قد تضغط على دول الاتحاد من أجل تقديم بعض التنازلات لتمديد اتفاق اللاجئين مع تركيا والحفاظ عليه من الانهيار، وقد قدّمت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشكرَ إلى أردوغان خلال زيارتها لأنقرة في فبراير الماضي، على جهود بلاده في رعاية ملايين اللاجئين السوريين، ووعدت بأنها ستعمل على رفع الدعم المادي المقدّم لتركيا.
أما فيما يخصّ تقديم الدعم السياسي أو العسكري لتركيا من جانب دول الاتحاد الأوروبي للحفاظ على اتفاقية اللاجئين، فهو أمر مُستبعد، وكلّ المعطيات تقول إن السيناريو سيستمرّ على النحو التالي:
استمرار العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، والذي سيؤدّي إلى زيادة نزوح اللاجئين، وبالتالي تكبّد تركيا تكاليف إضافية، فتضطر إلى مطالبة الاتحاد الأوروبي بالمزيد من الدعم المالي.
ولذلك يظل الحلّ الأمثل والقاطع لمشكلة اللاجئين، هو العمل على التوصل إلى حلّ للصراع في سوريا، يُراعي مصالحَ جميع الأطراف المعنية، مع ضمان عودتهم إلى وطنهم بأمان.
لتفاصيل أكثر يمكنكم النقر على هذه الصورة