في الخطاب العام، نبذل جهدًا جماعيًا كبيرًا في مناقشة دقة الحقائق، والتحقق من صحة حديث السياسيين، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن المعلومات المضللة، ونعطي الأولوية لاتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات في أماكن عملنا.
ويعد هذا التركيز بالغ الأهمية، فالتمييز بين الحقيقة والزيف هو أساس المجتمع الفعال. ومع ذلك، فإن التركيز الشديد على دقة الحقائق قد يغفل تمييزًا جوهريًا آخر وهو الفرق بين الحقيقة والرأي.
وبينما يسهل التحقق من صحة بيان الحقيقة نسبيًا فهي إما صحيحة وإما خاطئة، لكن موضوعية الادعاء – هل هو بيان موضوعي قابل للتحقق أم تعبير ذاتي عن اعتقاد؟ – أكثر تعقيدًا بكثير، ولهذا السبب تُعالج عقولنا الآراء وتُشفّرها بطريقة مختلفة تمامًا عن الحقائق.
- رهانات الموضوعية
ويشير دانيال ميرني، الأستاذ المساعد في التسويق بجامعة نافارا الإسبانية في مقال نشره موقع “كونفرزيشن” الإخباري إلى أن الموضوعية ليست مجرد فارق لغوي، بل أساس النقاشات السياسية والقانونية المهمة. على سبيل المثال، في دعاوى التشهير المرفوعة ضد شخصيات إعلامية أمريكية، مثل تاكر كارلسون وسيدني باول، ارتكزت الدفاعات القانونية على ما إذا كان من الممكن “تفسير التصريحات على أنها حقائق” أم أنها مجرد “آراء”. وبالمثل، واجهت منصات التواصل الاجتماعي صعوبة في التحقق من صحة المنشورات المصنفة على أنها آراء، وهي سياسة عقّدت مؤخرًا جهود مكافحة إنكار تغير المناخ.
يُعدّ التمييز مهمًا لأنه يُؤطّر كيفية اختلافنا. عندما يكون الادعاء رأيًا واضحًا – على سبيل المثال، “الإدارة الأمريكية الحالية تخذل الطبقة العاملة” – قد نتفق أو نختلف، لكننا ندرك أن هناك مجالًا للاختلاف، وأن أيًا من الطرفين ليس على صواب أو خطأ بطبيعته. ومع ذلك، فإن التصريح الواقعي – “بلغ معدل الفقر الرسمي في الولايات المتحدة 10.6% في عام 2024” – لا يترك مجالًا كبيرًا للنقاش. فهو يتطلب وجود مصدر، وإجابة صحيحة موضوعيًا.
نتيجةً لذلك، قد تُضعف المعتقدات المتعلقة بموضوعية الادعاءات تقبل وجهات النظر المتضاربة، وهذا بدوره يُؤجج الصراعات الشخصية ويُفاقم الاستقطاب السياسي.
- المعلومات التي نقدّرها
على الرغم من هذه المخاطر الكبيرة، لم تُجرَ سوى أبحاث محدودة حول الآثار المعرفية لموضوعية الادعاء. وفي سلسلة حديثة من 13 تجربة مُسجلة مسبقًا، شملت 7510 مشاركين، أجراها ميرني مع ستيفن سبيلر من مركز أندرسون بجامعة كاليفورنيا، ونُشرت في مجلة أبحاث المستهلك، بحثا كيفية تأثير موضوعية الادعاء على نوع مُحدد وأساسي من الذاكرة وهو ذاكرة المصدر.
وتشير النتائج إلى أن العقل البشري لا يُعامل الحقائق والآراء على قدم المساواة. فعندما يتعلق الأمر بتذكر من قال ماذا، فإن الحقائق الموضوعية تُعاني من عيب واضح.
وبالإمكان توضيح ذلك بمثال كالتالي: يُقدّم طبيب ادعاءً واقعيًا بأن “لقاح الحصبة منع ما يُقدر بـ 56 مليون حالة وفاة بين عامي 2000 و2021”. قد يقول طبيب آخر شيئًا مُشابهًا، ولكنه يُعطي رأيًا بدلًا من البيانات: “أعتقد أن التطعيم وسيلة سهلة لمنع المعاناة غير الضرورية”.
في البحث، تم اختبار هذه الديناميكية، باستخدام ادعاءات طبية حول مرض وهمي للتحكم في المعرفة السابقة. وقد وجد أن الناس أكثر ميلاً بكثير لتذكر المصدر الأصلي للرأي عن المصدر الأصلي للحقيقة. والأهم من ذلك، أن هذا لا يعود ببساطة إلى أن الآراء أكثر جاذبية أو أسهل تذكراً بشكل عام. ففي جميع التجارب الـ 13، تم قياس “ذاكرة التعرّف” – أي القدرة على تذكر أن عبارة ما قد أُلقيت أصلًا. ولم يتم رصد فرق ثابت في ذاكرة التعرّف بين الحقائق والآراء، حيث تذكر المشاركون رؤية الادعاءات الواقعية والآراء بشكل متساوٍ. ومع ذلك، واجهوا صعوبة في ربط الادعاءات الواقعية بالمصدر الصحيح.
- ترميز المصدر
لماذا يحدث هذا الانفصال؟ ذاكرة المصدر هي شكل من أشكال الذاكرة الترابطية. تعتمد على قدرة الدماغ على ربط مكونات مختلفة من تجربة ما – ما قيل ومن قاله – في شبكة متماسكة من العناصر المترابطة أثناء الترميز الأولي للمعلومات.
واقترح البحث أن قوة هذا الربط تعتمد على أمر واحد: ما يخبرنا به الادعاء عن مصدره.
وتُقدم كل من الحقائق والآراء معلومات عن المصدر، ولكنها تفعل ذلك بدرجات مختلفة. إذا قال مرشح سياسي: “أُنشئت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بموجب قانون المساعدات الخارجية لعام 1961″، فإننا ندرك أنه على دراية بالتاريخ التشريعي. ولكن إذا قال المرشح نفسه: “أعتقد أن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كان كارثة أخلاقية على أمتنا والعالم”، فإننا نعرف المزيد عن قيمه وأولوياته وموقفه من دور أمريكا في العالم.
ولأن الآراء عادةً ما تُقدم معلومات عن المُتحدث أكثر مما تُقدمه الحقائق، فإن أدمغتنا تُشفّر روابط أقوى بين المصادر والآراء عنها بين المصادر والحقائق. وتدعم دراسات علم النفس التنموي وعلم الأعصاب هذا. فقد وجدت الأبحاث أنه عند ترميز الآراء مقارنةً بالحقائق، يكون هناك نشاط أكبر في مناطق الدماغ المُشاركة في نظرية العقل وهي القدرة على تمثيل أفكار الآخرين وحالاتهم العقلية.
وعندما نستمع إلى رأي ما، فإننا نُكون نموذجًا ذهنيًا أكثر ثراءً للمُتحدث، وتُعزز هذه المعلومات الاجتماعية الإضافية الروابط المتشابكة المُتشكلة أثناء الترميز.
ولكن ماذا يحدث عندما لا تُخبرنا الآراء شيئًا عن مصدر ما؟ اختبر البحث هذه الآلية بعرض مراجعات كتب على المشاركين. وعندما اعتقد المشاركون أن المصادر هي مؤلفو المراجعات، تذكروا مصادر الآراء بشكل أفضل بكثير عن الحقائق. ومع ذلك، عندما تم إخبارهم بأن المصادر مجرد “رواة” يقرؤون مراجعات مختارة عشوائيًا، اختفت ميزة ذاكرة المصدر للآراء، وأصبح أداؤهم مساويًا للحقائق.
كما تم اختبار ذاكرة المصدر للحقائق التي تكشف شيئًا عن المصدر، مثل العبارات الشخصية “ولدتُ في فرجينيا”. في هذه الحالات، كانت ذاكرة المصدر دقيقة تمامًا كما كانت لآراء مثل “طعم آيس كريم الشوكولاتة ألذ من الفانيليا”. وكانت أيضًا أكثر دقة عن الحقائق العامة حول العالم، مثل “استوكهولم عاصمة السويد”.
- مفارقة الوضوح
تُمثل هذه النتائج تحديًا كبيرًا للخبراء والقادة. غالبًا ما تُنصح السلطات بالالتزام بالحقائق للحفاظ على المصداقية، لكن نتائج البحث تُشير إلى أن الاقتصار على عرض الحقائق يُعرّض الخبراء لخطر النسيان كمصادر للمعلومات المهمة.
وقد يُشكل هذا مشكلة لمصداقية المعلومات ففي عصرٍ تتفشى فيه المعلومات المضللة ويزداد فيه الاستقطاب، تزداد أهمية تذكر من قال ماذا لتجنب الصراع وضمان الدقة. ويُمثل الهدف بالنسبة للخبراء غالبًا ترسيخ الحقائق في الواقع.
وختامًا، يُشير البحث إلى أن مشاركة الآراء يُمكن أن تُساعد الناس على إسناد المعلومات بدقة إلى مصادر موثوقة. كما يُمكن للخبراء من خلال مُشاركة رؤيتهم حول البيانات – بدلًا من مجرد سرد البيانات نفسها – توفير الإشارات الاجتماعية التي تحتاجها أدمغتنا لربط المعلومات بمصدرها بشكل أقوى. وأخيرًا، بينما تلعب الحقائق دورًا مهمًا في مكافحة المعلومات المضللة، قد تكون الآراء بالقدر نفسه من الأهمية ولا تغفل.



