تحت شعار “قمة التجديد والتغيير”، استضافت مدينة جدة أعمال القمة العربية الـ32، وسط حضور ملوك ورؤساء وأمراء وممثلي وفود الدول العربية، إذ جاءت القمة في ظل تحولات لافته شهدتها البيئة الإقليمية خلال الشهرين الأخيرين، كانت المملكة العربية السعودية محورها الرئيس، والتى تمثلت في استئناف العلاقات بين المملكة وإيران بعد 7 سنوات من القطيعة، والتحركات الدبلوماسية السعودية النشطة التى تكللت جهودها بعودة سوريا إلى الجامعة العربية عقب 12 عاما من تجميد مقعدها، وكذلك الدور الإنساني البارز للمملكة في ظل الصراع بالسودان فضلًا عن رعاياتها واستضافتها محادثات بين طرفي الصراع بغية تسويته.
- جهود المملكة في تصفير المشكلات العربية
لقد حرصت القيادة السعودية على تهيئة أجواء إيجابية غير مسبوقة تواكب انعقاد تلك القمة، والتى انعكست في عمل دؤوب على تصفير الأزمات والمشكلات بهدف المضي قدمًا نحو صياغة رؤية عربية جماعية قادرة على التعاطي مع التحديات التى تواجهها الدول العربية وشعوبها سواء كانت نابعة من البيئة الإقليمية أو الدولية، في ظل ارتدادات قوية لأزمات عالمية- كالحرب الروسية الأوكرانية وقبلها أزمة وباء فيروس كورونا المستجد-، تركت بصمات واضحة على حالة العالم العربي لاسيما في الجانب الاقتصادي والخطط التنموية والأوضاع المعيشية، وفرضت الحاجة لمشاركة عربية في صياغة النظام الدولي الجديد الذي ما زالت ملامحه آخذة في التشكل وقواعده في مرحلة التأسيس، ما يتطلب توحيد للصف العربي والتحرك الفاعل ككتلة واحدة في إطار آليات تنسيق وتعاون عربي مشترك أكثر مرونة من أجل الدفاع عن المصالح العربية.
وتعتبر قمة جدة من أهم القمم منذ فترة طويلة، فهى ترق لمستوى القمم التأسيسية التى تعيد بناء النظام الإقليمي العربي، كما تكشف عن دور أكثر انخراطًا للعالم العربي بقيادة السعودية في الأزمات الدولية وهو ما جسدته دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحضور القمة وإلقاءه كلمة أمام القادة العرب.
- مضامين خطاب ولي العهد أمام القمة
وقد جاءت كلمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، حفظه الله، أمام القمة العربية، موجزة وشاملة حيث عكست نظرة المملكة لمستقبل المنطقة والسبيل الأنجع لتحقيق الاستقرار واستثمار مقومات النهوض المتوفرة للعالم العربي بما يحقق مصالح الشعوب العربية، كما حرص سموه كرئيسا للقمة العربية – نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله،- على مخاطبة العالم بأسره من على منصة القمة، فوجه كلماته إلى دول الجوار والأصدقاء في الشرق والغرب، مستخدمًا لغة تأكيدية تشدد على السلام والتعاون والبناء، الذي يقترن بمحددين ألا وهما تحقيق مصالح الشعوب العربية، وصون حقوقها، فضلا عن الاستعانة بالأسلوب التحذيري في قول سموه: “لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ميادين للصراعات”.
وأظهر ترحيب سموه بحضور الرئيس السوري بشار الأسد القمة، وإعرابه عن الأمل في أن تسهم عودة سوريا إلى الجامعة العربية في إنهاء أزمتها، إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد دورا عربيا أكثر إنخراطا في جهود التسوية السياسية للأزمة السورية وكذا في جهود إعادة الإعمار في المراحل التالية.
كما تضمن الخطاب عبارات محددة قاطعة تظهر موقف المملكة من مختلف القضايا الإقليمية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، حيث أكد أنها كانت ولا زالت قضية العرب والمسلمين المحورية، وعلى رأس أولويات سياسة المملكة الخارجية، مشددا على التمسك بالمرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية كإطار لتسوية القضية.
وأظهر الخطاب دعمًا لا محدودًا من جانب المملكة للحلول السياسية للأزمات العربية سواء في اليمن أو السودان، بل وحتي الصراعات الدولية كالأزمة الأوكرانية، إذ اضطلعت المملكة في كل هذه الأزمات بجهود للوساطة وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة بغية تحقيق السلام.
- إعلان جدة يعلي من وحدة الصف والتنمية
وقد توجت أعمال القمة العربية بإصدار إعلان جدة الذي يمكن اعتباره نقطة انطلاق جديدة للنظام الإقليمي، يقودها نحو تنقية الأجواء السياسية وطي صفحة الخلافات العربية وتعزيز الاستقرار والتلاحم ووحدة الصف وإعلاء المصلحة المشتركة والمصالح العليا للدول والشعوب العربية.
كما أنه يدشن لمرحلة جديدة من التعاون سيكون لها انعكاسات هامة علي العلاقات السياسية والاقتصادية، ويشكل تغير استراتيجي مربك لأجندات بعض القوى العالمية التي لطالما كانت مستفيدة من الانقسامات والتباينات العربية بل إنها ساهمت بشكل أو أخر في إعاقة مسارات حلحلة المشكلات وعملت على تأجيج الخلافات.
ومن خلال قراءة سياسية للإعلان الذى تألف من 12 بندا، يمكن استخلاص ثلاث ثوابت تحكم تحركات الدول العربية تتمثل فيما يلي:
- الاحتكام إلى قرارات الشرعية الدولية ودعم الجهود الأممية لتسوية القضايا والأزمات العربية.
- التأكيد على المحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية ومنع انهيارها ورفض تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة.
- رفض التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية.
كما كان للتنمية حضورًا كبيرًا في إعلان جدة وهو ما يشير إلى تطلع الجميع إلى مستقبل يسوده التعاون الهادف إلى ترسيخ دعائم الاستقرار وتخطي كافة العقبات التى عرقلت نهوض الأمة العربية لاسيما خلال العقد الماضي، لذا جاء الحديث عن توطين التنمية، وتفعيل الإمكانات المتوفرة، واستثمار التقنية من أجل تحقيق نهضة عربية تقوم على التكامل بين مختلف الدول العربية. وفي هذا الإطار يبرز الدور الرائد للمملكة العربية السعودية التي قدمت سلسلة مبادرات في مجال التنمية المستدامة بأبعادها الثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية من أبرزها مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر، ومبادرة استدامة سلاسل امداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية، ومبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه وحلولها.
وختامًا، يمكن القول بأن القمة العربية في جدة تمثل نقطة إنطلاق جديدة نحو آفاق أرحب من العمل العربي المشترك الذى يتمحور حول التنمية التى أضحت الشغل الشاغل لجميع الدول العربية، وذلك في ظل مناخ يسوده تنقية الأجواء وتنحية الخلافات البينية، فالعرب جميعا حكامًا وشعوبًا يتطلعون إلى الانتقال من عقد الاضطراب الفائت إلى عقد التنمية، لذا فإن قمة جدة شكلت جسرا للعبور من الماضي المضطرب إلى المستقبل المشرق.