مع عودة الحروب إلى القارة الأوروبية، اتخذت الحكومات – بما في ذلك تلك التي كانت تعتبر ذات يوم محايدة – قرارات لم يكن من الممكن تصورها قبل أسابيع قليلة، تشمل عقوبات غير مسبوقة من المحتمل أن تضر بشدة باقتصاداتها، وزيادات هائلة في الإنفاق الدفاعي، وتسليم أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا التي تمر بحالة حرب، ما يشير إلى تشكُّل واقع جيوسياسي جديد لم يكن أحد يتوقعه.
وفي هذا السياق، يواجه الناخبون في جميع أنحاء القارة العجوز فرصًا للتعبير عن آرائهم في صناديق الاقتراع في سلسلة من الانتخابات الرئاسية، ففي المجر وصربيا، نجح الزعيمان اليمينيان فيكتور أوربان وألكسندر فوتشيتش في تعزيز قدرتهما على حماية مواطنيهما في سياق الحرب، وفازا بشكل مقنع بالانتخابات في نهاية الأسبوع الماضي، لكن الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي انطلقت اليوم الأحد تعد الأهم بالنظر إلى حجم البلد وأهميتها، إذ تعد فرنسا ثاني اقتصاد في الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة، والدولة العضو الوحيدة بالتكتل التي تمتلك حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، والقوة النووية الوحيدة في التكتل الأوروبي.
وكانت حملة الانتخابات الفرنسية “غير تقليدية”، إذ ألغى معظم المرشحين الاثني عشر التجمعات الانتخابية بعد اندلاع الحرب الأوكرانية في 24 فبراير الماضي، وأظهر استطلاع أجرته المؤسسة الفرنسية للرأي العام، أن 80% من الفرنسيين شعروا أن الحملة الانتخابية افتقدت لوجود أفكار أو رؤية سياسية جديدة، أو حلول لمشاكلهم بعد عامين من جائحة كورونا وتصاعد أزمة غلاء المعيشة.
- التأثير على الناخبين
عندما بدأت الحرب الأوكرانية، أعرب 82% من الفرنسيين عن قلقهم، بينما قال 65% إنها ستلعب دورًا مهمًا في تحديد تصويتهم. وطلب استطلاع آخر من الناخبين ترتيب القضايا الرئيسية التي ستشكل اختيارهم، فجاء ارتفاع تكلفة المعيشة في الصدارة (52%)، يليه الحرب في أوكرانيا (33%) ثم البيئة (28%) علما بأنه في العادة، تهيمن القضايا المحلية- مثل التوظيف -على الانتخابات، ففي الانتخابات الرئاسية لعام 2017، لم تكن القضايا الخارجية أو العسكرية من بين الاهتمامات الرئيسية، لكن هذا التحول في انتخابات عام 2022 يُعد منطقيًّا، إذ كان للحرب بالفعل عواقب ملموسة على الاقتصاد الفرنسي (ارتفاع أسعار الغاز، على سبيل المثال) والمجتمع (وصل حوالي ثلاثين ألف لاجئ إلى فرنسا)، وهذا يعني تلاشي الخط الفاصل بين السياسة الخارجية والداخلية.
ووفقًا للمركز الأطلسي (معهد بحثي مقره واشنطن)، فإن الجمهور الفرنسي يتقبل بشكل أو بآخر الرواية الروسية عن أوكرانيا، حيث يعتقد واحد من كل اثنين على الأقل بواحدة من الحجج الروسية حول سبب الحرب- مثل فكرة أن الغرب يدفع أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لكن هذا لا يعني أنهم يدعمون روسيا، لأن 78 % من الناخبين أعربوا في أواخر فبراير عن اعتقادهم بأن الغزو الروسي “غير شرعي”.
- التأثير على المرشحين
من جهة أخرى، لجأ المرشحون إلى تكييف استراتيجياتهم الانتخابية وأحيانًا وجهات نظرهم كنتيجة للعدوان الروسي في أوكرانيا، إذ استفاد ماكرون – الذي يُنظر إليه على أنه مدير أزمات قوي – من حالة الاصطفاف الوطني، وتشير الإحصاءات إلى أن الناخبين الذين يُرجح أن يصنفوا أوكرانيا كعامل مهم في قرارهم هم أيضًا أكثر عُرضة للتصويت لصالحه أكثر من أي مرشح آخر.
وبصفته رئيسًا لمجلس الاتحاد الأوروبي، يقف ماكرون أيضًا في الخطوط الأمامية عند التفاوض مع القادة الأوروبيين الآخرين في وقت يلعب فيه الاتحاد الأوروبي دورًا رئيسيًّا في سياسة الطاقة واللاجئين وتسليم الأسلحة لأوكرانيا، ومع ذلك بدأت الفوائد السياسية للدور الجيوسياسي لماكرون في الانحسار؛ لأن الحرب لم تعد قضية ملحة للجمهور الفرنسي كما كانت عندما بدأت.
وكان المرشحون الآخرون على دراية بالفائدة التي يكسبها ماكرون على المسرح العالمي، إذ قامت فاليري بيكريس مرشحة حزب الجمهوريين (اليمين)، بتشكيل “مجلس دفاع استراتيجي” في محاولة لصقل مؤهلاتها القيادية، لكنها فشلت في اكتساب زخم عند مقارنتها بقيادة ماكرون العالمية الواقعية. ومع ذلك، فإن ميزة ماكرون يمكن أن تأتي بنتائج عكسية لأن التوفيق بين أجندة دولية وتنظيم حملات انتخابية مهمة صعبة، فضلًا عن أن إدارته للأزمة تعني أنه يقضي وقتًا أقل في شرح مقترحات سياسته للناخبين، وبالفعل بدأ حملته الانتخابية متأخرًا واستغرقت 37 يومًا، مقارنة بأقرب منافسيه مرشحة حزب التجمع الوطني (يمين متطرف) مارين لوبن التي استغرقت حملتها 366 يومًا والتي كرست الكثير من الوقت فيها لقضايا تمس معيشة الفرنسيين.
وكان إظهار الدعم الواضح لأوكرانيا هو استراتيجية تبناها المرشحون الذين يكافحون، فعلى سبيل المثال شارك يانيك جادو، مرشح “حزب أوروبا البيئة الخضر” في مسيرات تهاجم الشركات الفرنسية التي لا تزال تتعامل مع روسيا، بما في ذلك اتهام شركة “توتال” الفرنسية للطاقة بأنها “متواطئة في جرائم حرب”، لكن توجد حدود لهذا التكتيك، إذ لم يدافع أي من المرشحين عن إقامة منطقة حظر طيران، فلا أحد يريد أن تصبح فرنسا طرفاً في الحرب.
وعلى الرغم من أن جميع المرشحين أعربوا عن دعمهم لأوكرانيا، فإن الحرب كشفت عن تحولات أعمق. فعلى سبيل المثال، دعم جادو والمرشحة الاشتراكية آن هيدالغو استمرار تسليم الأسلحة للجيش الأوكراني وفرض حظر على الغاز والفحم الروسي، بينما عارض جميع المرشحين الرئيسيين الآخرين الحظر أو لم ينحازوا إلى أي طرف. كما أن مارين لوبن وجان لوك ميلانشون اللذين جادلا بضرورة انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، كان عليهما الاعتراف بأن توقيت هذه الخطوة لم يكن صحيحًا.
ويمتد انعدام الثقة في الناتو أيضًا إلى الدفاع الأوروبي، حيث لا يزال اليمين المتطرف متشككًا في تعزيزه، وفيما التزم ماكرون وفاليري بيكريس بزيادة الإنفاق العسكري، لم يقدم اليسار الفرنسي التزامات محددة في هذا الشأن.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الانتخابات الرئاسية الفرنسية لم تثر أي شغف داخل فرنسا في وقت طغت فيه الحرب في أوكرانيا على الأخبار، وقد بات اليمين المتطرف القوة السياسية الرائدة في البلاد وهو ما برز مع تصاعد شعبية مارين لوبن.
ومما لا شك فيه ستكون لنتيجة تلك الانتخابات تداعيات على السياسة الأوروبية والدبلوماسية الفرنسية، حيث سيلعب الفائز في الانتخابات دورًا حاسمًا داخل الأمم المتحدة لا سيما مجلس الأمن، وحلف شمال الأطلسي “الناتو” والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التعامل مع روسيا لتشكيل طبيعة الأمن الأوروبي في المستقبل.
وختامًا، يبقى التأكيد على أنه في ظل الانتصارات الشعبوية في المجر وصربيا، وترقُّب نتيجة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فإن الوحدة الأوروبية أصبحت على المحك عبر الاستحقاقات الانتخابية هذا العام، ففي حال فوز مارين لوبن قد تشهد أوروبا تحالفًا شعبوبًّا يمينيًّا يضم رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ونظيره البولندي أندريه دودا.