تقارير

تغطية الإعلام الغربي للحرب الروسية الأوكرانية.. رؤية نقدية

جسدت الحرب الإعلامية بين الغرب وروسيا ساحة معركة موازية للقتال الذي يدور بين القوات الروسية والأوكرانية على أرض أوكرانيا، والتراشق الدبلوماسي بين الجانبين في أروقة الأمم المتحدة، إذ انعكست تلك الحرب بشكل واضح على التناول الإعلامي لتلك الأزمة التي تُشكّل أخطر مرحلة سياسية وأمنية تمر بها القارة العجوز منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وكان من الطبيعي أن تمتد شظايا تلك الحرب إلى الإعلام، وهو ما تجسد في اتهامات متبادلة بين الجانبين الروسي والغربي بممارسة تضييق أو استهداف للآلة الإعلامية لكل طرف، فبينما اتهمت موسكو الغرب بشن هجمات تستهدف وسائل إعلامها كحجب منصة “يوتيوب” وقنوات محطتي “آر تي” و”سبوتنيك” الروسيتين الحكوميتين في جميع أنحاء أوروبا، قررت وسائل إعلام غربية مثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” وشبكة “سي.إن.إن” ووكالة بلومبرغ للأنباء الأمريكيتين وهيئة الإذاعة الكندية “سي.بي.سي” تعليق عملها في روسيا على خلفية إصدار موسكو قانونًا ينص على فرض غرامة كبيرة، والسجن 15 عامًا حال نشر معلومات كاذبة بشأن القوات المسلحة الروسية، وهو ما اعتبره الغرب تقييدًا لحرية الإعلام.
ومن منطلق أهمية دور التغطية الإعلامية خلال أوقات الأزمات والحروب، نسلط الضوء في التقرير التالي على التناول الإعلامي الغربي للحرب الروسية الأوكرانية، والذي تضمن العديد من المفارقات التي أسقطت ثوب المثالية عن وسائل إعلام لطالما كانت مثارًا للتشدق بالحيادية والنزاهة والموضوعية في نقل المعلومات والأخبار، سواء على صعيد الصياغة أو التأطير.
ملاحظات على تغطية وسائل الإعلام الغربية
تحظى الحرب الروسية الأوكرانية بتغطية إعلامية مكثفة من جانب وسائل الإعلام الدولية، وهو ما يُعتبر أمرًا منطقيًّا؛ نظرًا لأهمية هذا الحدث الذي من شأنه التأثير على دول العالم كافة.
وفي الوقت الذي تنتقد فيه وسائل الإعلام الغربية تناول الإعلام الروسي للحرب الروسية الأوكرانية باعتباره تناولًا منحازًا، كشفت التغطية الإعلامية الغربية للحرب مجموعة من المؤشرات المهمة التي يجب الانتباه لها ودراستها، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولًا: غياب الموضوعية والتجرد في التغطية الإعلامية الغربية للحرب، وذلك من خلال:
السعي إلى “شيطنة” الروس لصالح الأوكرانيين.
التحيز في التغطية، عبر تبني الرواية الأوكرانية، والتشكيك في نظيرتها الروسية.
التلاعب بالمصطلحات بالشكل الذي يخدم كييف ويُشوّه موسكو.
ثانيًا: أظهرت بعض التغطيات عنصرية فئة من النخب الإعلامية والسياسية الغربية، تمثّلت فيما يلي:
عنصرية قومية: باعتبار العرب والأفارقة في درجة (إنسانية) أقل من الأوروبيين.
عنصرية دينية: بتفضيل المسيحيين عن غيرهم من الديانات.
عنصرية طبقية: بالحديث عن انتماء اللاجئين الأوكرانيين للطبقة الوسطى ومستواهم التعليمي الأفضل، بعكس مستوى اللاجئين القادمين من مناطق الصراع بالشرق الأوسط، وهذا أمر لم يقتصر على تعليق الإعلاميين فقط، بل نبع من سياسيين كالرئيس البلغاري رومن راديف.
ويمكن القول بأن التغطية المتعلقة بالتداعيات الإنسانية للحرب الروسية الأوكرانية لا سيما ما يتعلق باللاجئين الأوكرانيين الذين تدفقوا على دول الجوار، شكّلت اختبارًا لوسائل الإعلام الغربية وكوادرها من مذيعين ومراسلين صحفيين، ومدى تحليهم بالمهنية والتجرد، إلا أن النتيجة جاءت صادمة بشكل مروّع؛ لأن اللهجة العنصرية وازدراء الآخر لم يكن تصرفًا فرديًّا عابرًا، بل كان ممارسة شائعة بين العديد من الصحفيين الغربيين، وعبر أكثر من منصة في دول مختلفة كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تصريح الصحفي الأمريكي شارلي داغاتا، مراسل قناة “سي.بي.إس” الإخبارية الأمريكية في أوكرانيا، والذي قال في رسالة مباشرة: “مع خالص احترامي، فإن هذا ليس مكانًا مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقودًا من الحروب. إنها مدينة متحضّرة نسبيًّا، أوروبية نسبيًّا، حيث لا ننتظر حصول أمر مماثل”.
كما اتبعت الصحفية البريطانية لوسي واتسون، مراسلة قناة “ITV” البريطانية، سلوكًا مُشابهًا، حينما قالت بلهجة تنم عن عنصرية وقسوة وازدراء: “لقد حدث ما لا يمكن تصوره… هذه ليست دولة نامية من العالم الثالث؛ هذه هي أوروبا!”
وحتى لو تم التماس العذر للمراسلين باعتبارهم متنقلين يواجهون تجربة مروعة أثناء الحرب- رغم أنهم مدربون على التعامل مع تلك الضغوط-، فلا يمكن تبرير تعليقات أخرى كتلك التي أدلى بها مذيع قناة الجزيرة في نسختها الإنجليزية، من داخل الاستوديو، والتي عقب فيها على مشاهد اللاجئين الأوكرانيين: “الثياب التي يلبسونها، تبين أنهم من طبقة وسطى ميسورة، هم حتمًا ليسوا لاجئين فارين من مناطق تشهد حربًا في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا. إنهم يبدون مثل أي عائلة أوروبية يعيشون بجوارهم”.
وكذلك تعليق الصحفي فيليب كوربيه على قناة “بي إف إم تي في” الفرنسية بالقول: “لا نتحدث هنا عن سوريين هاربين من قصف النظام السوري المدعوم من فلاديمير بوتين… بل عن أوروبيين، يهربون بسياراتهم التي تشبه سياراتنا… ويحاولون النجاة بحياتهم”.
ومما لا شك فيه أن هذه التصريحات تُظهر تحيزًا صريحًا يكشف عن نظرة أوروبية إلى العالم، تفترض أن الواقع المرير والحرب والفوضى والمجاعة تلتصق فقط بمناطق مثل الشرق الأوسط وإفريقيا وأجزاء أخرى من آسيا.
كما يتناسى هؤلاء الصحفيون حقائق تاريخية، فأوروبا كانت نفس القارة التي أشعلت الحربين الوحيدتين المعروفتين بـ”الحرب العالمية”، وهي القارة التي حدثت فيها إبادة جماعية مروعة خلال الحرب العالمية الثانية وفي البلقان على حد سواء، كما أن المشهد الراهن المتعلق بالحرب الأوكرانية هو نتيجة لصحوة جديدة لمواجهة جيوسياسية استمرت أكثر من 4 عقود أطلق عليها اسم “الحرب الباردة”.
تحليل التغطية الإعلامية الغربية من منظور المربع الأيديولوجي لفان دايك
وفقًا للمربع الأيديولوجي لـ “فان دايك”، فقد كشفت التغطية الإعلامية الغربية للحرب ما يلي:
وجود حالة من التوحد بين وسائل الإعلام الغربية وأوكرانيا، حيث تبنت هذه الوسائل الدفاع عن كييف باعتبارها مُمثلة للغرب، وتقديمها كنموذج خيّر يجب على الدول الغربية والولايات المتحدة مساندته ودعمه، وبذلك كان الحديث عن أوكرانيا يحمل صيغة (أنا/نحن).
اعتبرت التغطية أن الآخر (هو/هم) يتمثل في روسيا وكل من يدعمها أو يتعاطف معها؛ واللافت أنه في بعض الأحيان كان الآخر يتمثل في كل من هم ليسوا من أصحاب الشعر الأشقر والعيون الزرقاء – حسب اعتقاد بعض المراسلين-.
من جهة أخرى، جاء تأطير وسائل الإعلام الغربية للحرب متبنيًا مجموعة من المفاهيم والتوصيفات لأطراف الصراع تعكس – كما سبق وأشرنا- حالة التوحد مع أوكرانيا، فانتشرت في صحف مثل وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز الأمريكيتين وفاينانشيال تايمز وغارديان البريطانيتين مصطلحات مثل “الغزو الروسي- Russian invasion” و”الاحتلال الروسي- Russian occupation “، فيما تم وصف المدنيين الأوكرانيين الذين يحملون السلاح بـ”مقاتلي المقاومة- Resistance Fighters ” كما أطلقت على الأوروبيين الذين توجهوا للقتال في أوكرانيا ضد الروس مصطلح ” المقاتلين المتطوعين- Volunteer fighters”، فلم يُنعت المسلحون الأوكرانيون بالإرهاب، ولم يوصف المتطوعون الأوروبيون بالمرتزقة، كما تتعمد أجندة الإعلام الغربي تأطير وتوصيف أطراف في صراعات بمناطق أخرى كمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقاموس الإعلام الغربي الخاص بالتعامل مع تلك المناطق يُوصم المقاومة بالإرهاب، وينكر على المحتل صفة الاحتلال والعدوان.
ختامًا.. كشفت التغطية الإعلامية الغربية للحرب الروسية الأوكرانية أن الشعارات البرّاقة التي لطالما رفعتها وسائل الإعلام الغربية تحكمها في المقام الأول لغة المصالح، ويتم استغلالها بالشكل الذي يُحقق أهداف هذه الوسائل والجهات التي تقف خلفها، فمعايير الحيادية والمهنية ليست قواعد ثابتة تحكم الإعلام الغربي، والمنصات الإعلامية والطواقم العاملة فيها يستدعون تلك القواعد ويتجاهلونها بحسب الهوى والمصلحة السياسية المتحققة، ولعل ذلك ما يفرض علينا عدم الانسياق الأعمى وراء ما تبثه وسائل الإعلام الغربية من تقارير وأخبار وتحليلات، فلا بد من الاطلاع على تلك المواد الإعلامية، لا سيما ما يخاطب قضايا منطقتنا، ولكن برؤية نقدية لتجنب الوقوع في فخ التضليل أو التحيز بناء على تصورات مجتزأة لا تخدم سوى الأجندات الغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى