تقارير

الفتاوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي على مدى السنوات القليلة الماضية في توفير منصات للتواصل مع شرائح واسعة من الجماهير، استغلها أشخاص غير متخصصين في العلم الشرعي وغير مؤهلين للتصدي للفتوى، ليقوموا بإطلاق الفتاوى في مختلف المسائل، الأمر الذي أحدث حالة من “فوضى الفتاوى”، وهي ظاهرة تُشكّل خطرًا داهمًا على حياة الأفراد واستقرار المجتمعات، لا سيما في ظل الفتاوى التي تعكس توجهات سياسية وأيديولوجية داعمة للأفكار والجماعات المتطرفة.
ودفع ذلك المشهد بتعقيداته الجمهور إلى التوجه نحو المؤسسات الدينية الرسمية، سواء عبر طرق أبوابها للحصول على الفتاوى أو من خلال التواصل معها عبر منصات التواصل أيضا، حيث حرصت تلك المؤسسات على الوجود عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
وتعبر الأسئلة المطروحة من جانب الجمهور عن حاجات معرفية لا تقتصر دائرتها على السائلين، بل تمتد إلى غيرهم من الأشخاص الذين يتشاركون في السمات الثقافية والمعرفية والتعليمية، كما أن اتجاه الجمهور إلى طلب الفتوى وإقباله الكثيف على القيام بذلك يعكس اعتمادية على حسابات المؤسسات الدينية الرسمية كمصدر لاستقاء المعرفة الصحيحة وتكوين الثقافة الدينية.
انعكاسات فوضى الفتاوى الإلكترونية
يعتبر الإفتاء الإلكتروني من أهم وسائل تلقي الأحكام الشرعية التي يتوافد عليها شريحة كبيرة جدًا من رواد الإنترنت، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتعددها، وفي ظل المنافسة الحادة على جمع أكبر قدر من المعجبين والمتابعين والمعلقين فإن بعض الأشخاص يتخذون من الإفتاء وسيلة لذلك باعتبار أن موضوع نقل الأحكام الشرعية والإجابة عن الأسئلة وإثارة المسائل هو وسيلة إعلامية مقبولة، وتستطيع جمع قدر لا بأس به من المتابعين في ظرف قصير، خاصة إذا كانت الفتوى المنقولة أو المسألة المثارة محل جدل أو لها علاقة بالسياسة، أو إثارة البلابل، أو تتعلق بالحياة الخاصة للأفراد والعائلات.
وقد ساعد التقدم التكنولوجي غير المؤهلين للإفتاء بالانتشار والوصول لكثير من الناس، فأصبح لكل منهم منبره الخاص من موقع إلكتروني وصفحة فيسبوك وتويتر وواتساب، يفتي فيهم كيفما شاء دون رقيب عليه.
ولا شك أن دخول من ليس أهلًا للفتوى فى الإفتاء، أدى إلى توسيع دائرة الخلاف والتضارب في الفتوى، كما أن تجرؤ بعض الأدعياء غير المؤهلين للإفتاء أفضى إلى ظهور فتاوى شاذة أربكت العوام وأوقعتهم في حيرة كبيرة، كما ظهرت أيضًا مشكلة “تسييس الفتوى” أي تحميل الفتاوى أبعادًا أيديولوجية، ومن أمثلة ذلك نشر الفتاوى التحريضية التكفيرية، وإشعال نار الفتنة بين أفراد المجتمع الواحد، وهو ما ظهر في مواقع إفتائية تابعة لحركات وتنظيمات كجماعة الإخوان المسلمين التي تستجلب دعاة يخدمون مصالحها، وينشرون مبادئها، ويقنعون الناس بشرعية وجدوى مشاريعها ومواقفها، وتوظف منبر الفتاوى في ذلك بشكل فعّال؛ كونها تعرف جيدًا قوة تأثير رجال الدين في الناس وإقبالهم الكبير على فتواهم.
56% من إجمالي الفتاوى حول العالم صادرة من جهات غير رسمية
ويشير المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إلى أن 56% من إجمالي الفتاوى المرصودة حول العالم صدرت من جهات وشخصيات غير رسمية.
كما تصدرت مصر أكثر الدول إصدارًا للفتاوى بنسبة بلغت (17%) خلال النصف الأول من العام الحالي؛ لاعتمادها الوسائل التكنولوجية الحديثة، وهي النسبة التي عكست النشاط الإفتائي الكبير لمؤسسات الفتوى الرسمية التي جاء على رأسها دار الإفتاء المصرية، وذلك في إطار سعيها لتحقيق الانضباط الإفتائي، والانطلاق في طريق تجديد الخطاب الديني، والتحول لعصر الرقمنة والاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة، وهو النشاط الذي تم الاستدلال عليه بالنظر لتوسعها في الاعتماد على تقنيات ووسائل مبتكرة لتوصيل الفتوى للمستفتين، ونشاطها الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وإطلاق الحلقات النقاشية الافتراضية عبر منصة زووم، وإنشاء تطبيقات حديثة مثل تطبيق “فتوى برو”، وإنشاء حسابات عبر تطبيقات التواصل الحديثة مثل “كلوب هاوس” وغير ذلك.
ووفقًا لمفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام فإن عدد الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية في العام الماضي 2020، ناهز مليونًا وثلاثمائة ألف فتوى، بزيادة تقدر بـ200 ألف فتوى عن العام 2019، وبمعدل يقترب من 3500 فتوى يوميًّا، وقد تنوعت هذه الفتاوى تنوعًا ثريًّا محيطًا بكل ما يهم المسلم في مناحي حياته المختلفة، وما طرأ على المجتمع من مستجدات.
وربما يعكس هذا الحجم الهائل من الفتاوى رد فعل طبيعيًّا من جانب الجمهور نتيجة لحالة اللغط التي أثارتها فوضى الفتاوى، والتي كانت سببًا رئيسيًّا في التوجه نحو الجهات المعنية لطلب الرأي الشرعي في ما يواجهونه، بالإضافة إلى سهولة طلب الفتوى في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، فكل المطلوب من الشخص أن يستخدم حاسوبه أو هاتفه الجوال وبنقرات معدودة يرسل سؤاله أو يعرض مسألته، ومن ثم يأتيه الرد مباشرة أو بعد زمن قصير.
وفي حين اتجه البعض لتفسير تزايد طلب الفتاوى بشكل سلبي من منظور نفسي بأنه يشير إلى حالة من الوسوسة عند أغلب الناس، فإنه يمكن القول إن كثرة طلبات الفتاوى الموجهة للجهات الرسمية تعتبر ظاهرة إيجابية؛ لأنها تعالج بُعدين أساسيين؛ الأول يتمثل في بيان الحكم الشرعي المطلوب تجاه قضية أو مسألة ما.
أما عن البعد الثاني فيتعلق بمراعاة العامل النفسي للمستفتين، فالفتوى تبدد الغموض، وتجلي الحكم، وتزرع الطمأنينة في نفس المستفتي، وترشده إلى سلك الطريق الصحيح فيما هو مطروح من مسألة، ما يحميه من الوقوع في براثن الفتاوى العشوائية والمتطرفة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الحاجة الماسة إلى الفتاوى الفقهية الصحيحة أصبحت ضرورة ملحة في ظل المجال المفتوح الذي سمح لغير ذوي العلم وطالبي الشهرة بالتجرؤ على الفتوى على الرغم من أنها مهمة شرعية جسيمة.
ويتطلب ذلك أن تلحق المؤسسات الإفتائية الرسمية في مختلف أنحاء العالم بعصر الرقمنة، وأن تطور قدراتها التكنولوجية لمواكبة التطور الحالي، كي تحقق أكبر استفادة من هذا التطور لخدمة الفتوى بالتنسيق والاتحاد والتشاور الإفتائي بين هذه المؤسسات، فضلًا عما توفره الرقمنة من سرعة وسهولة في التواصل مع المسلمين في جميع أنحاء العالم؛ حمايةً لهم من الفكر المتشدد والمنحرف والفتاوى الشاذة. ولا بد أيضًا من رفع الوعي والثقافة الدينية لدى الأفراد من خلال تفقيههم في أمور الدين وتزويدهم بالمعرفة بالأحكام الشرعية من خلال توظيف أدوات الإعلام الجديد من أجل إنجاز تلك المهمة.
وأخيرًا، يبقى التأكيد على أن للفتوى ضوابط لا يمكن الإفتاء من دونها، منها أهلية المفتي والاعتماد على الأدلة الشرعية، وتيسير الفتوى، وسلامة الفتوى من الغموض، كما أنه لا بد من التزود بالمعرفة الثقافية المعاصرة بشأن ما يتعلق ويحل بالمجتمعات من قضايا ومستجدات.
ونظرًا لأن الفتاوى عبر فيسبوك وتويتر ويوتيوب أضحت ظاهرة اجتماعية متنامية، فلا بد أن تدرس وتبحث بعناية لفهم اتجاهات الأفراد وطبيعة المسائل والقضايا التي تشغلهم وتكون محور تساؤلاتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى