في ظل الموجة العاتية لارتفاع أسعار النفط في الولايات المتحدة الأمريكية، وتخطي البرميل لحاجز 80 دولارا لأول مرة منذ 3 سنوات، ومع عجز واشنطن عن إقناع تحالف “أوبك بلس” الذي يضم 23 دولة منتجة للنفط وتقوده المملكة العربية السعودية وروسيا، بالاستجابة للدعوة إلى زيادة الإنتاج، وفشل كافة الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على هذا الصعيد، لجأت الإدارة الأمريكية إلى الاستعانة بالمخزون النفطي الاستراتيجي للتخفيف من ارتفاع أسعار الوقود، حيث أمر الرئيس جو بايدن باستخدام 50 مليون برميل من هذا المخزون وهي أكبر كمية تُسحب على الإطلاق، واصفاً القرار بأنه “مبادرة كبرى” “ستحدث فرقاً” في الأسعار.
وبموازاة تلك الخطوة، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التنسيق مع الهند واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا لكي تقوم تلك الدول باستخدام احتياطي النفط لديها، كما أعلنت الصين أيضًا استخدام مخزونها النفطي الاحتياطي، نظراً لحاجاتها، متحدثة عن تدابير ضرورية أخرى ستتخذها بهدف الحفاظ على استقرار السوق، وذلك بعدما لامست أسعار النفط الخام مؤخراً أعلى مستوياتها في سبع سنوات، وسط ارتفاع حاد في الطلب العالمي مع تعافي الاقتصادات من أزمة فيروس كورونا.
وقد قوبلت مطالب واشنطن المتكررة بزيادة الإنتاج برفض قاطع من جانب المملكة العربية السعودية التي تقدر أن زيادة الإنتاج قد تعرض منتجي النفط لانتكاسات جديدة في المعركة الدائرة ضد جائحة فيروس كورونا المستجد ووتيرة التعافي الاقتصادي.
ورطة بايدن تدفعه إلى مخزون الطوارئ الاستراتيجي
يعكس لجوء الرئيس الأمريكي جو بايدن لاستخدام المخزون الاستراتيجي حجم المأزق الكبير الذي تواجهه الولايات المتحدة حاليا وبالقدر ذاته حالة الإحباط واليأس لدى البيت الأبيض بشأن إمكانية إقناع المملكة العربية السعودية صاحبة الدور القيادي والنفوذ الأكبر في أسواق النفط الدولية، بزيادة الإنتاج للسيطرة على الارتفاع الهائل في الأسعار بالسوق الأمريكية، لا سيما في ظل انتهاج دول مجموعة أوبك بلس بقيادة الرياض لاستراتيجية حذرة فيما يخص إنتاج النفط تقوم على أن تكون الزيادة باعتدال وبالتدريج، نظرا لمخاوف من تراجع الطلب وبالتالي الأسعار في وقت يشهد فيه العالم موجة خامسة من وباء كورونا واتجاه العديد من الدول الغربية للعودة إلى الإغلاق.
ويعتبر استخدام المخزون الاستراتيجي خطوة نادرة الحدوث فلم تلجأ الولايات المتحدة إليها في الماضي إلا في 3 حالات ارتبطت بحروب أو كوارث طبيعية، وهي حرب الخليج عام 1991 وإعصار كاترينا 2005، ووقف إنتاج النفط في ليبيا عام 2011 مع اندلاع الحرب الأهلية.
ويبلغ احتياطي النفط الاستراتيجي الأمريكي 714 مليون برميل، بحسب إحصاء أجرته وزارة الطاقة الأمريكية في نهاية أغسطس الماضي، وهو أكبر إمدادات طوارئ معروفة في العالم، ويوجد في أربعة مواقع تحت الأرض في ولايتي لويزيانا وتكساس.
وقد جاء قرار بايدن باستخدام الاحتياطي على وقع ضغوط اقتصادية وسياسية شديدة الوطأة بينما لم تكمل إدارته عامها الأول في البيت الأبيض، فعلى الصعيد الاقتصادي ارتفع التضخم في الولايات المتحدة بنسبة 6.2% خلال عام واحد، في أعلى مستوى له منذ عام 1990، كما تتواصل معاناة المستهلكين الأمريكيين مع ارتفاع متوسط سعر البنزين في محطات الطاقة، ووصول سعر الجالون إلى متوسط مقداره 3.76 دولار، بعد أن كان 2.11 دولار قبل عام واحد.
وانعكست تلك الأرقام المخيبة للآمال على شعبية الرئيس بايدن التي وصلت إلى مستوى متدن، إذ تشير نتائج استطلاع أجراه معهد ماريست لاستطلاعات الرأي بالتعاون مع الإذاعة الوطنية الأمريكية أن 42 % يشعرون بالرضا عن أداء بايدن في منصبه، وهي أدنى نسبة حصل عليها بايدن في الاستطلاعات التي أجراها المعهد منذ تنصيبه في يناير الماضي، ويأتي ذلك في وقت يقترب فيه موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، والتي يخشى الديمقراطيون خسارتها، إذ لا يفصل حزب الجمهوريين عن استعادته للسيطرة على مجلس النواب سوى 5 مقاعد، فيما يحتاج إلى مقعد واحد لكسر التعادل 50 – 50 في مجلس الشيوخ.
الرد السعودي الحازم يضع أمريكا في موقف حرج
سعت الولايات المتحدة منذ أغسطس الماضي إلى الضغط على تحالف “أوبك بلس” (يضم 13 دولة في أوبك و10 غير أعضاء في المنظمة) الذي تقوده السعودية وروسيا، لزيادة الإمدادات من أجل التخفيف من حدة ارتفاع أسعار النفط، لكن المملكة تمسكت بموقفها الخاص بإبقاء زيادة الإنتاج عند المستوى المقرر له دون تغيير، مؤكدة أن هذا هو “العمل الصحيح والأنسب”، لأن أسواق الطاقة عليها أن تخضع للتنظيم وإلا ستنحرف عن مسارها.
ويعكس الموقف السعودي من تلك المسألة الدور القيادي المسؤول الذي تضطلع به الرياض بصفتها عاصمة القرار النفطي في العالم، فهي تضع المصلحة الوطنية ومصلحة دول أوبك التي تقودهم كأولوية أولى وتستند إلى قواعد العرض والطلب في السوق، ولا ترضخ للضغوط أيًا كان مصدرها، فرفض زيادة الإنتاج يستند إلى قراءة واعية للسوق وتقلباتها، لا سيما مع إمكانية أن يضعف الطلب على النفط على غرار ما حدث عند ظهور المتحور دلتا لفيروس كورونا المستجد، فسوق النفط هشة ولا ضمانات بشأن استقرار الأسعار، ومن المحتمل أن تتخلى الأسعار عن مكاسبها بنفس السرعة التي حققتها بها وفي ذلك سوابق عديدة أبرزها ما حدث في 2018 عندما هبط سعر خام برنت من مستوى أعلى من 85 دولارا في أكتوبر إلى أقل من 50 دولارا بحلول نهاية العام ذاته.
وقد تسبب هذا الموقف السعودي الحازم في حرج بالغ لبايدن دفعه لأن يصرح بشكل علني في 6 نوفمبر الجاري بعد رفض المملكة زيادة الإنتاج بأنه لم يكن يتوقع أن تستجيب مجموعة “أوبك بلس” والمملكة العربية السعودية وروسيا لدعوته إلى ضخ المزيد من النفط في الأسواق العالمية، مشيرا إلى “أدوات أخرى في الترسانة الأمريكية”، لافتا إلى أنه سيتحدث عنها في الوقت المناسب”.
ويبدو أن هذا الوقت قد حل سريعا، فبعد 17 يوماً وتحديدا في 23 نوفمبر الجاري، قرر الرئيس الأمريكي ضخ 50 مليون برميل من مخزون الولايات المتحدة النفطي الاستراتيجي في الأسواق، وذلك بطريقتين، الأولى تتمثل في طرح 32 مليون برميل من خلال نظام “التبادل” (أي القرض) على أن تتم إعادة هذا النفط إلى الحكومة الفيدرالية ليصب في المخزون الاستراتيجي خلال السنوات المقبلة، أما الثانية فتتعلق ببيع 18 مليون برميل على مدى عدة أشهر.
ويرى الكثير من خبراء الاقتصاد والنفط، أن قرار بايدن اللجوء إلى الاحتياطي النفطي قد يكون مسكناً مؤقتاً للألم، ولكنه ليس علاجًا نهائيًا.
وبحسب دامين كورفالين رئيس إدارة أبحاث سوق الطاقة في بنك الاستثمار الأمريكي “جولدمان ساكس جروب”، فإن ضخ الولايات المتحدة 50 مليون برميل نفط من الاحتياطيات الاستراتيجية بالتنسيق مع كبرى الدول المستهلكة للنفط في العالم لن يعطي منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” أي دافع لزيادة إنتاجها.
ويشير كورفالين إلى أنه من منظور أوبك ما زال المسار الأفضل هو الزيادة الحذرة للإنتاج، فلن يكون لدى أوبك حافز لزيادة الإنتاج بشدة، وفي حين أن اللجوء إلى الاحتياطيات الاستراتيجية (للدول المستهلكة) قد يريحها إلا أن الكميات التي تم طرحها من الاحتياطيات أقل مما تتطلبه الأسواق.
اجتماع “أوبك بلس” المرتقب والسيناريوهات الأمريكية المحتملة
وبعيدا عن قرار بايدن الذي فسره البعض على أنه لفتة سياسية لن تصلح النقص في الإمداد بل قد تجعل الوضع أسوأ، تتجه الأنظار حاليا صوب الاجتماع المرتقب لتحالف “أوبك بلس” في 2 ديسمبر المقبل لتحديد سياسات الإنتاج، إذ تسعى لمواصلة جهودها المتعلقة بامتصاص الفائض النفطي وتحسين أسعار النفط في الأسواق العالمية في ظل ضبابية تسود سوق النفط بسبب الإرباك الموجود في الأسواق العالمية، وتزامن ذلك مع ظهور سلالة جديدة لفيروس كورونا في جنوب أفريقيا “متحور أوميكرون” الذى أثار قلقًا عالميًا وأدي لموجة من حظر السفر مع المناطق المنتشر فيها المتحور وعودة شبح الإغلاق مرة أخري، لذلك ستسعى “أوبك بلس” إلى مواصلة برنامجها الذي يهدف للحفاظ على توازن السوق النفطية وإعادة الاستقرار بين العرض والطلب نتيجة الأزمات التي شهدها الاقتصاد العالمي.
وبعد استخدام واشنطن لورقة السحب من المخزون الاستراتيجي من المستبعد أن تعيد الكرة مرة أخرى، الأمر الذي يفرض تساؤلا حول الأوراق التي قد تستخدمها الولايات المتحدة وهنا يبرز سيناريوهان، وهما:
السيناريو الأول: محاولة شق الصف داخل تحالف “أوبك بلس”
قد تسعى إدارة بايدن إلى اختراق “أوبك بلس” إذ يرى خبراء في مجال الطاقة من بينهم بيورنار تونهاوغين، رئيس أسواق النفط في مجموعة “ريستاد إنِرجي” النرويجية للأبحاث أن هذا التحالف بات يمتلك “السكين والكعكة” في سوق النفط خاصة، وأنه يمتلك نصيب الأسد من الإمدادات المتبقية غير المستخدمة في العالم، فهذه الهيمنة تجعل “أوبك بلس” – الذي تقوده السعودية وروسيا- بمثابة اللاعب الوحيد في السوق الذي يمكنه إعادة توجيه ظروف السوق بشكل كبير. وتظهر كافة المؤشرات الراهنة أن سيناريو شق الصف مستبعد، إذ أكدت العديد من الدول الفاعلة في التحالف كالإمارات والكويت والعراق الالتزام الكامل باتفاق إعلان التعاون في تحالف “أوبك بلس”، نافية وجود أي موقف مسبق بشأن الاجتماع المقبل للتحالف.
السيناريو الثاني: دفع كبار منتجي النفط خارج تحالف “أوبك بلس” إلى زيادة الإنتاج
يمكن استشراف هذا السيناريو من بين سطور تصريح بايدن في 6 نوفمبر الجاري حين صرح ردا على رفض “أوبك بلس” زيادة الإنتاج قائلا: “هناك أدوات أخرى في ترسانتنا. التعامل مع دول أخرى، في الوقت المناسب، سأتحدث عنه”، وعلى الأرجح فإن بايدن يلمح إلى إمكانية فتح قنوات للتواصل والتعاون مع دول ليست عضوا في تحالف “أوبك بلس” وهنا تبرز كل من فنزويلا وإيران الخاضعتين لعقوبات اقتصادية أمريكية، وكذلك ليبيا التي تشهد حربا أهلية، وبالرغم من أن الدول الثلاث أعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلا أنها استثنيت من الاتفاق بين دول تحالف “أوبك بلس” (الذي يضم 13 دولة هي إجمالي أعضاء منظمة أوبك بجانب 10 دول أخرى منتجة للنفط من خارج المنظمة) بشأن خفض الإنتاج بسبب الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها تلك الدول الثلاث.
فقد تلجأ إدارة بايدن إلى الانفتاح على تلك الدول من أجل دفعها إلى زيادة كبيرة في الإنتاج مع توجه واشنطن وكبار المستهلكين كالصين واليابان والهند إلى الشراء من تلك الدول، ويتطلب تحقيق هذا السيناريو اتخاذ الولايات المتحدة مبادرات كبرى تجاه طهران وكراكاس وطرابلس، ويبدو الأمر أكثر احتمالية بالنسبة لإيران التي ستستأنف في 29 نوفمبر الجاري محادثات فيينا مع القوى الكبرى حول إحياء الاتفاق النووي للعام 2015، وبالتالي قد تشهد تلك المفاوضات تلاقيا للإرادات بين واشنطن وطهران ينعكس في اختراق بشأن رفع العقوبات الأمريكية ولو بشكل جزئي يشمل قطاعات بعينها كالنفط، مما يمهد الطريق لزيادة إنتاج النفط الإيراني وضخه في الأسواق وهي زيادة أحوج ما يكون إليها النظام الإيراني في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم داخليًا.
أما ليبيا فيرتبط الوضع فيها بالنظام المرتقب الذي ستفرزه الانتخابات الرئاسية المقررة في 24 ديسمبر المقبل وموقف إدارة بايدن من الرئيس الليبي القادم، ومدى قدرة حكومته على السيطرة على الأوضاع في البلاد وفي القلب منها موارد النفط والطاقة، بينما يبدو طريق التواصل مع حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أكثر الطرق صعوبة.
وتأسيسًا على ما سبق، يتضح أن الموقف السعودي وكلمة الرياض تبقى هي الحاسمة والمؤثرة في تحديد حجم الإنتاج النفطي العالمي وبالتالي أسعار النفط، وهي عملية لا تقبل فيها المملكة مساومات ولا ترضخ فيها إلى ضغوط أيا كان مصدرها، ولكنها تتولى بحكم مكانتها الرائدة كأكبر مصدر للنفط في العالم مسؤولية الحفاظ على استقرار ليس فقط أسواق الطاقة بل الاقتصاد العالمي نظرًا لارتباط كافة الأنشطة الاقتصادية بشكل وثيق بأسعار النفط، وتمارس المملكة “الدبلوماسية النفطية” بكل حكمة واقتدار ومسؤولية.