تقارير

آليات تعامل المنصات الإلكترونية مع الشائعات.. قراءات أكاديمية

شهد الإعلام الرقمي تطورًا ملحوظًا في السنوات القليلة الماضية في مجال اتساع نطاق تداول الأخبار والمعلومات، حيث أصبح مجالًا لتبادل الأخبار والمعلومات بين مستخدمي الإنترنت، دون أن يكون هناك إمكانية من التحقق من دقتها وصحتها، ومع التزايد الملحوظ في معدلات الاستخدام أصبحت المنصات الإلكترونية أداة خصبة لترويج الشائعات والأخبار المزيفة والكاذبة والتي باتت إحدى أدوات الحروب الحديثة، وتندرج ضمن ما يسمى بحروب الجيل الرابع، حيث إنها لم تعد مجرد أخبار كاذبة أو معلومات مزيفة ينشرها شخص ما بهدف التضليل أو إحداث البلبلة داخل المجتمع، بل أصبحت أداة لمؤسسات متخصصة ووسائل إعلام احترفت استثمار التقنية والتلاعب بالمعلومات، وتقديمها بهدف إضعاف الجبهة الداخلية في أي دولة.
وقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن من الأسباب الرئيسية لانتشار الشائعات ضعف الوعي الفكري للجمهور وغياب الشفافية ونقص المعلومات وتأخر التصريحات الرسمية وغياب السياسات الحكومية الواضحة لمواجهة الشائعات، إضافة إلى عدم الشفافية والوضوح في تناول المعلومات.
وفي هذا الإطار، سعت دراسة نشرتها مجلة البحوث الإعلامية إلى رصد وتحليل الاتجاهات البحثية التي تناولتها الدراسات المعنية بتعامل المنصات الإلكترونية مع الشائعات، من خلال تتبع الدراسات الحديثة التي أجريت خلال الفترة من عام 2015 إلى 2020، بهدف تقديم رؤية تحليلية متعمقة للتوجهات البحثية في مجال الدراسة، وذلك بالكشف عن أهم القضايا التي تناولتها الدراسات، والمداخل الفكرية والأطر النظرية التي انطلقت منها، والأدوات المنهجية، وكذلك أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسات.
طبيعة وعينة الدراسة
تنتمي الدراسة إلى الدراسات الوصفية التحليلية من المستوى الثاني Secondary Analysis، التي تستهدف رصد وتوصيف وتحليل بحوث ودراسات عربية وأجنبية عن نشر الشائعات عبر المنصات الإلكترونية المنشورة من عام 2015 حتى عام 2020، واعتمدت في منهجيتها على “منهج المسح التحليلي – Analytical Survey” لإجراء تحليل نقدي لمضمون البحوث والدراسات، وكذلك المنهج المقارن لرصد مدى الاتفاق والاختلاف في الاتجاهات البحثية من حيث مجالات الاهتمام، والمناهج والأدوات المستخدمة والأطر النظرية والتطبيقية في كل البحوث والدراسات التي أجريت في الدول العربية والأجنبية خلال الفترة الزمنية للدراسة.
وبلغ إجمالي عدد الدراسات (73) دراسة عملية منها (22) دراسة عربية بواقع (14) دراسة في مصر و(8) دراسات أجريت في كل من السعودية والعراق والأردن والجزائر وفلسطين وليبيا، فيما بلغ عدد الدراسات الأجنبية (51) دراسة من بينها (24) دراسة في الصين و(8) دراسات أجريت في الولايات المتحدة و(4) دراسات في أستراليا و(15) دراسة أجريت في كل من كندا والمملكة المتحدة وسنغافورة وكوريا والهند وبولندا وإسبانيا واليابان وإيران.
وتعد هذه الدراسة من الدراسات الوصفية، التي تندرج تحت نوعية البحوث التوثيقية واعتمدت على أسلوبي التحليل الكمي والكيفي في تفسير النتائج، كما وظفت الدراسة “أسلوب التحليل الكيفي من المستوى الثاني- Meta Analysis” للدراسات والبحوث المنشورة، بوصفه الأسلوب المناسب منهجيا للاستخدام في التقييم الكيفي للمجالات البحثية المعنية بها الدراسة، وذلك لضمان القدرة على استقراء البيانات والمعلومات للخروج بمؤشرات ونتائج.
الرؤية النقدية لبحوث ودراسات نشر الشائعات عبر المنصات الإلكترونية
قدمت الدراسة رؤية نقدية للبحوث والدراسات العربية والأجنبية الخاصة بنشر الشائعات عبر المنصات الإلكترونية من خلال العناصر الآتية:
مجالات الاهتمام البحثي
تشير الدراسة إلى أن المدرسة الآسيوية ركزت على قياس نشر الشائعات من خلال تحليل تغريدات الجمهور على موقع تويتر، بينما ركزت الدراسات العربية على قياس مدى انتشار الشائعات بالمجتمعات العربية من خلال موقع فيسبوك.
كما يلاحظ اهتمام المدرسة الآسيوية بتناول قياس نشر الشائعات من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي باختبار أنواع مختلفة من النماذج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي للكشف عن الشائعة وتتبعها، ولكن لا يوجد اهتمام نهائي بتوظيف تلك النماذج في الدراسات العربية مقارنة بالدراسات الأجنبية.
ونوهت الدراسة إلى اهتمام الدراسات الأجنبية برصد طرق وأساليب تناول الجمهور للشائعات عبر المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية، حيث سهلت وسائل الإعلام الجديد سرعة نشر الأخبار والمعلومات الزائفة وغير الدقيقة، وأصبحت تلك الأخبار تصل للمستخدمين بشكل أكثر سرعة عبر الشبكات الاجتماعية، وهي من سمات وخصائص الإعلام الجديد والتكنولوجيا الحديثة ويستطيع المستخدم إجراء التعليقات والتغريدات حول الشائعة وإعادة نشرها، بينما اهتمت الدراسات العربية بقياس استخدام الجمهور للشبكات الاجتماعية في استقاء الشائعة وقياس تأثيراتها على المستوى الأمني، والأمن المجتمعي، ووعي الجمهور بمشكلات وقضايا مجتمعاتهم.
ولفتت إلى أن الدراسات الأجنبية ركزت على تناول المجال العام في قياس تفاعل الجمهور مع التغريدات المتعلقة بالشائعات، وتناولت المجال العام من خلال منطلقات فكرية تركز على الواقع الافتراضي كفضاء للتفاعل الاجتماعي، وأيضا اهتمت الدراسات العربية بالمجال العام عبر المنصات الإلكترونية لقياس أساليب تفاعل الجمهور مع الشبكات الاجتماعية في استقاء الأخبار وعلاقته بمشاركة التغريدات المتعلقة بالشائعات.
كما اتجهت الدراسات الأجنبية للبحث في ارتباط تفاعل المستخدمين مع مواقع التواصل الاجتماعي بمدى مصداقية الأخبار لديهم، ومن ثم يصبح المستخدمون عبر مصادر المعلومات الرقمية منتجين ومستهلكين لتغريدات الشائعات، حيث أشارت الدراسات الأجنبية إلى أنه من الأهمية البحث في تقسيمات الجمهور وأنواعه، بينما لم تهتم الدراسات العربية بتأثيرات تقسيمات الجمهور على تداول الشائعات عبر الشبكات الاجتماعية.
الأدوات البحثية المستخدمة
أشارت الدراسة إلى تعدد الأدوات البحثية في الدراسات الأجنبية حيث تم استخدام أكثر من أداة بحثية مثل تحليل التغريدات باستخدام الخوارزميات، والاستقصاء، والملاحظة، حيث اتجهت الدراسات الأجنبية إلى توظيف أكثر من منهج وأداة بحثية، بينما ندرت الدراسات العربية التي استخدمت في إجراءاتها المنهجية أكثر من أداة بحثية، إلا بعض الدراسات التي اعتمدت على أداتي الاستقصاء والمقابلة المتعمقة، وهي الدراسات التي اعتمدت على الأسلوبين الكمي والكيفي في جمع البيانات وتفسير النتائج، حيث خرجت بنتائج أكثر عمقًا وموضوعية وهو ما وظفته أيضًا العديد من الدراسات الأجنبية التي تناولت نشر الشائعات.
المناهج المستخدمة
رصدت الدراسة التشابه أحيانًا والاختلاف أحيانًا أخرى بين الدراسات العربية والأجنبية في الاعتماد على الإجراءات المنهجية المستخدمة، حيث اتضح التشابه في اعتماد الدراسات العربية والأجنبية على منهج المسح الإعلامي في معظم الدراسات، سواء الدراسات التي أجريت في الدول العربية أو الدراسات التي أجريت في الصين والولايات المتحدة وبريطانيا.
بينما اتضح الاختلاف بين كل من الدراسات العربية والأجنبية في اعتماد الدراسات الأجنبية بصفة عامة والصينية منها بصفة خاصة، على المنهج التجريبي في معظم الدراسات التي أجريت في المجالات البحثية التي تناولت نشر الشائعات عبر الشبكات الاجتماعية، وفي هذا الصدد تم رصد بعض الدراسات الأجنبية التي وظفت أداة تحليل المحتوى للتغريدات في ظروف تجريبية، خاضعة للتحكم من خلال خوارزميات محددة، بينما لم تهتم الدراسات العربية بتوظيف المنهج التجريبي في قياس انتشار الشائعات عبر الشبكات الاجتماعية.
نوع الدراسات
وجدت الدراسة أن معظم الدراسات العربية والأجنبية – عينة الدراسة – تندرج تحت الدراسات الكمية، وإن كانت الدراسات الأجنبية أكثر اهتمامًا بالدراسات الكيفية، فركزت على دراسة تغريدات مستخدمي تويتر وبعض المواقع الإلكترونية، واستطاعت التوصل إلى نتائج أكثر عمقًا حول الظواهر الإعلامية.
نوع وحجم العينات
خلصت نتائج الدراسة إلى أن أغلبية الدراسات العربية- عينة الدراسة- تقوم بتحديد نوع وحجم العينة، وكانت إما صغيرة أو متوسطة الحجم. بينما لم تهتم الدراسات الأجنبية بتحديد نوع العينة وكيفية اختيارها، ولكنها حرصت على تحليل أعداد كبيرة من التغريدات، مما يشير إلى تركيزهم على الأبحاث التي يشترك فيها أكثر من باحث، وذلك بعكس الباحثين العرب الذين يفضلون العمل الفردي.
الرؤية المستقبلية لبحوث نشر الشائعات عبر المنصات الإلكترونية
قدمت الدراسة رؤية مستقبلية للاتجاهات البحثية لنشر الشائعات عبر المنصات الإلكترونية في عدة محاور، أبرزها:
إجراءات مواجهة الشائعات:
– حتمية وضع ضوابط وإجراءات لتأمين المنصات الإلكترونية بتوظيف عدد من استراتيجيات التصدي للشائعات باستخدام برامج كشف الشائعات، مثل “Sina” و”Snope” و”Politifact” و”Weibo”، وكذلك توظيف استراتيجيات إدارة الشائعات من خلال المدخل التنظيمي والمدخل الوقائي والمدخل العلاجي.
– ضرورة توفير بيئة عمل إعلامية تتسم بالشفافية وإتاحة المعلومات من مصادرها الموثوقة.
– الاهتمام بوضع الضوابط القانونية لمواجهة الشائعات المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتم من خلال وضع استراتيجية أمنية شاملة بمنهج متكامل لتتبع الشائعات ونشر الحقائق للجمهور، وذلك من خلال دور وسائل الإعلام في التصدي للشائعات والأجهزة الأمنية من جهة والمؤسسات التشريعية والقضاء من جهة أخرى.
– تطبيق نماذج لتتبع سرعة انتشار الشائعات من خلال بعض المواقع الأكثر استخدامًا لدى المستخدمين مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب.
– استمرارية تطوير وتغيير المفاهيم والظواهر الإعلامية الجديدة التي ترتبط بالإعلام الرقمي في السنوات المقبلة، فضلا عن التطور السريع في التكنولوجيا وما ترتب على ذلك من كثافة اعتماد الجمهور على التطبيقات الجديدة.
الأجندة البحثية:
– إجراء مزيد من الدراسات حول المنصات الإلكترونية ومعايير نشر الشائعات بالشبكات الاجتماعية.
– التركيز على الدراسات التي تهتم بقياس استخدام القوى السياسية المختلفة لمواقع التواصل الاجتماعي وتأثيراتها في نشر الشائعات بما يخدم أهدافها وتوجهاتها في المجتمع.
– إجراء مزيد من الدراسات لفهم أسباب التضليل الإعلامي، ونظرية المؤامرة وارتباطها بمخرجات الاتجاهات والسلوك وعلاقاتها بنشر الشائعات.
– الاهتمام بإجراء الدراسات المشتركة بين أكثر من باحث للاستفادة من مميزات العمل الجماعي في البحث العلمي، فضلًا عن أهمية إجراء الدراسات البينية التي تجمع بين بعض التخصصات كالمجال الإعلامي والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وتأثيراتها على الإعلام الرقمي.
– إيجاد منطلقات فكرية وبحثية للبحوث والدراسات الإعلامية المرتبطة بالإعلام الرقمي بشكل عام وبحوث ودراسات نشر الشائعات على وجه الخصوص، تتعلق بترتيب أولويات الجمهور وتشكيل اتجاهاته ومواقفه.
– التنوع في تناول الدراسات العربية لموضوعات ترتبط بتكنولوجيا الاتصال وعلاقاتها بسرعة نشر الشائعات، والتركيز على قياس نشر الشائعات من خلال نماذج بحثية مختلفة.
– إجراء البحوث البينية والمشتركة والتعاون مع المدارس الأجنبية المختلفة، وهو الأمر الذي تفتقد إليه البحوث العربية بنسبة كبيرة حتى الآن.
– إجراء مزيد من الدراسات التي تتناول الشائعات وآثارها السلبية على بنية المجتمعات وتماسكها.
– الاهتمام بالدراسات الكيفية نظرا لأهميتها في تقديم رؤى وتفسيرات دقيقة أكثر عمقا حول الظواهر الإعلامية مما يسهم في تقديم أبعاد جديدة للمشكلات الإعلامية.
الأطر النظرية والمنهجية:
– محاولة التنوع في حجم العينات، حيث تعتمد الدراسات العربية على العينات الصغيرة أو متوسطة الحجم، لذلك لا بد من التنوع في حجم العينات والاعتماد على العينات الكبيرة لكي يكون هناك إمكانية لتعميم نتائج الدراسة.
– إجراء العديد من الدراسات التي تستخدم أكثر من أداة بحثية في الإجراءات المنهجية في مجال قياس تداول الشائعات عبر الشبكات الاجتماعية، خاصة في الدراسات التي تعتمد على الأسلوبين الكمي والكيفي في جمع البيانات وتفسير النتائج، وذلك من أجل استخراج النتائج بشكل أكثر عمقًا وموضوعية.
– الاتجاه إلى توظيف الدراسات العربية للمنهج التجريبي في تحليل تغريدات المستخدمين وتطبيق الخوارزميات والمعادلات الرياضية في ظروف تجريبية، خاصة في الموضوعات التي تسعى لقياس ارتباط نشر الشائعات بتفاعلية الجمهور عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
– حتمية اهتمام الدراسات العربية بتوظيف نظريات ومداخل غير تقليدية في قياس تأثيرات الشائعات على الجمهور مثل نظرية إدارة المزاج العام، ومدخل نشر المعلومات.
 المقررات الدراسية والعملية التعليمية:
– تطوير مقررات دراسية تتناول أخلاقيات النشر الإلكتروني وضوابطه.
– تنمية وعي طلاب الإعلام في التعامل مع مصادر المعلومات الرقمية المختلفة وطرق تقييمها.
– الاهتمام بوضع مقررات دراسية توضح الخلل المعلوماتي وما يشتمله من مصطلحات ومفاهيم بداية من الأخبار الزائفة والمغلوطة وصولا للشائعات وتأثيراتها على مصداقية الوسيلة الإعلامية.
– تطوير مقررات مناهج البحث الإعلامي بهدف تعريف الطلاب بالأدوات البحثية والمناهج المستخدمة في تحليل المنصات الإلكترونية وتعريفهم بالخوارزميات والمعادلات الحسابية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن استنتاج وجود فجوة بين الدراسات العربية والأجنبية الخاصة بالتعامل مع الشائعات على المنصات الإلكترونية من حيث المناهج المستخدمة، فضلاً عن محدودية العينات موضع التحليل في الدراسات العربية.
وفيما يخص قضية الشائعات، يبقى القول إن من أهم الآليات اللازمة لمواجهتها هي توظيف المؤسسات الحكومية لمواقعها الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي من خلال إتاحة المعلومات والبيانات التي تمتلكها بشفافية ووضوح، وبشكل يسهل على المواطن اللجوء إليها للحصول على المعلومة الصحيحة من مصدرها الرسمي، إضافة إلى اعتماد بعض الدول لتوظيف برمجيات الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الشائعات وتتبعها.

زر الذهاب إلى الأعلى