بالتزامن مع الإعلان عن التوصل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وقطاع غزة قبل أسبوع، بعد تصعيد عسكري استمر على مدى 11 يومًا وأدى لخسائر هائلة في الأرواح وأضرار مادية ضخمة، بدأت حالة من الحراك الدبلوماسي المكثف من أجل إعادة إطلاق مسار المفاوضات المتوقفة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ أبريل عام 2014.
وتأتي تلك الجهود مدفوعة بوصول إدارة أمريكية جديدة تتبنى مقاربة مغايرة عن سابقتها فيما يتعلق بآلية التعامل مع النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وأطرافه وتقديرها لتداعياته، وإن ظل الالتزام بضمان أمن إسرائيل سياسة أمريكية ثابتة لا تتبدل.
وعلى مدى أكثر من 7 عقود، اقترحت عدة إدارات أمريكية “خرائط طريق” لعملية سلام من شأنها أن تؤدي إلى دولتين، بحيث يتم إقامة دولة فلسطينية تعيش بجانب إسرائيل في سلام، لكن آفاق حل الدولتين قد تضاءل في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي طبق عددًا كبيرًا من السياسات المثيرة للجدل فيما يتعلق بالمحاور الأساسية للصراع، ومن أبرزها اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، تاركًا تركة ثقيلة وعراقيل كبرى أمام إحياء عملية السلام.
رؤية أمريكية للتسوية قريبة من مبادرة السلام العربية لعام 2002
وفي أوائل أبريل الماضي، أي بعد ما يزيد قليلًا على شهرين من وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، بدأ في اتخاذ أولى الخطوات تجاه القضية الفلسطينية عبر استئناف تقديم جزء من المساعدات إلى الفلسطينيين كانت جمدتها إدارة ترامب، ولم تكد واشنطن تشرع في المزيد من الخطوات حتى واجهت التصعيد الذي شهدته الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال مايو الجاري، ليكون الاختبار الأكبر للإدارة الجديدة فيما يتعلق بذلك الملف المهم على أجندتها الخارجية.
والتزمت واشنطن على مدى 11 يومًا من التصعيد بدبلوماسية هادئة مع فتح قنوات اتصال متعددة مع مختلف الأطراف لاحتواء الموقف، وتكثيف التواصل مع المسؤولين الإسرائيليين ما بدا في إجراء الرئيس الأمريكي وحده 4 اتصالات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أجل وقف التصعيد، وبمجرد إعلان وقف إطلاق النار، سارع بايدن لعرض رؤيته لمسار تسوية النزاع وتحقيق السلام، والتي تقوم على حل الدولتين والاعتراف بإسرائيل من جانب دول المنطقة.
ويعتبر جوهر التصور الأمريكي الراهن لأسس تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، أقرب ما يكون إلى المبادرة التي طرحتها المملكة العربية السعودية أمام القمة العربية في بيروت عام 2002 والتي تبنتها القمة لتعرف باسم “مبادرة السلام العربية”، وقد هدفت إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، إذ نصت على قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 عاصمتها القدس الشرقية، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، والانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان السورية المحتلة.
ومما لا شك فيه أن الرجوع إلى ذات المرتكزات الواردة في مبادرة السلام العربية رغم مرور نحو عقدين تعددت فيهم الرؤى والأطروحات من مختلف أطراف الصراع، إنما يعكس ما تتمتع به الدبلوماسية السعودية من حنكة وخبرة وقدرة على وضع أسس متينة موضوعية عادلة للتسوية، فبينما سقطت كافة الأطروحات الأخرى على أرض الواقع، تبقى مبادرة السلام العربية الإطار الأمثل لتحقيق السلام والاستقرار.
جولة بلينكن وإعادة بناء العلاقات الأمريكية مع الفلسطينيين
وفي مؤشر على رغبة أمريكية واضحة في الانخراط الفاعل في ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وكسر الجمود وتحريك المياه الراكدة، جاءت جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للمنطقة والتي شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر والأردن، فقد أرادت واشنطن في المقام الأول إظهار الدعم لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة وترسيخه، فضلاً عن تهيئة الأجواء من أجل استئناف العملية السياسية، وهو ما بدا جليًّا في إعلان بلينكن عن قرار بإعادة فتح القنصلية العامة الأمريكية في القدس، والتي كانت مفوضة بالاتصال مع الفلسطينيين رسميًّا وشعبيًّا، وأغلقتها إدارة ترامب في عام 2018.
وحمل البيان الصادر عن البيت الأبيض للإعلان عن جولة بلينكن تمهيدًا لاتخاذ تلك الخطوة، فقد ذكر البيان نصًّا أن بلينكن “سيواصل جهود الإدارة الأمريكية لإعادة بناء العلاقات مع الشعب والقادة الفلسطينيين ودعمهم، بعد سنوات من الإهمال”، وذلك في إشارة إلى فترة رئاسة ترامب.
وبالإضافة إلى قرار إعادة فتح القنصلية الأمريكية، أكد بلينكن على حشد الجهود الدولية من أجل إعادة إعمار قطاع غزة المدمر، مع التشديد على ضمان عدم استفادة حركة حماس الفلسطينية من أموال إعادة الإعمار، ويعني ذلك أن واشنطن تسعى إلى تعزيز وضع السلطة الفلسطينية ليكون لها دور أكبر في غزة وإعمارها، لكن هذا الدور يتطلب وجود فعلي للسلطة الفلسطينية في غزة التي تخضع لسيطرة حماس، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال المسارعة بتنظيم الانتخابات الفلسطينية والتي تعثر مسارها وتأجلت نظرًا لرفض إسرائيل تنظيمها في القدس.
وفي ذات الإطار، انخرطت بريطانيا على غرار الولايات المتحدة في نمط “الدبلوماسية المكوكية- Shuttle Diplomacy”، حيث قام وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب بزيارة إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة التقى خلالها بمسؤولين من الجانبين، وأطلق نفس الرسائل تقريبًا التي جاء بها بلينكن إلى المنطقة والمتمثلة في دعم وقف إطلاق النار، والتأكيد على حل الدولتين، والتشديد على الالتزام بالحفاظ على أمن إسرائيل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطبيق حل الدولتين لن يكون من السهولة بمكان، إذ خلقت التطورات على الأرض صعوبات ضخمة في ظل التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، حيث يعيش حاليًا في الضفة الغربية المحتلة نحو 650 ألف مستوطن إسرائيلي العديد منهم بالقرب من “الخط الأخضر” الذي يفصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد أدى التوسع الاستيطاني إلى زيادة صعوبة تصور حل الدولتين، فكلما زاد نمو المستوطنات، بات من الصعب تفكيكها، فعلى سبيل المثال عندما تم تطبيق خطة فك الارتباط أحادية الجانب التي بموجبها انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، أخلت إسرائيل المستوطنين من القطاع (حوالي 9 آلاف مستوطن فقط) بصعوبة بالغة وبتكلفة سياسية عالية داخليًّا نظرًا لرد الفعل اليميني الشرس، وفقًا لموقع “فوكس” الأمريكي.
التنسيق العربي للدفع نحو مفاوضات جادة.. وتحدي إعادة إعمار غزة
وفي ظل حالة الزخم الدبلوماسي الدولي الراهن بشأن القضية الفلسطينية، تبرز أهمية تنسيق المواقف العربية من أجل حشد كافة أوراق الضغط لاستئناف مفاوضات جادة للسلام تحقق تطلعات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
وقد اتخذ التنسيق عدة مظاهر سواء تحت مظلة الجامعة العربية، حيث تم تشكيل لجنة عربية وزارية ضمت كلاًّ من السعودية ومصر وقطر وفلسطين والكويت وتونس والجزائر والمغرب، للتحرك والتواصل مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وغيرها من الدول المؤثرة دوليًّا، لحثها على اتخاذ خطوات عملية لوقف السياسات والإجراءات الإسرائيلية غير القانونية في مدينة القدس المحتلة.
أو تنسيق ثنائي تجسد في زيارتين أجراهما وزيرا الخارجية المصري والأردني على التوالي إلى رام الله، لعقد مباحثات مع القيادة الفلسطينية، عقب اجتماع بين الوزيرين في العاصمة الأردنية عمان، أكدا خلاله أهمية تثبيت وقف إطلاق النار في غزة.
كما واكب ذلك حراكًا فلسطينيًّا، حيث يبدأ وفد يترأسه رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية خلال أيام قليلة بجولة خليجية من أجل تنسيق الجهود وترجمة الزخم الدولي تجاه القضية الفلسطينية إلى عملية سياسية جادة والعودة للمفاوضات، فضلاً عن متابعة ملف إعادة إعمار القطاع.
وهنا تظهر إشكالية كبرى وهي أن جهود الإعمار لن تكون عملية سهلة على الإطلاق في ظل سيطرة حماس على القطاع، فهي مسألة تختلف اختلافًا كبيرًا عن المساعدة الإنسانية الطارئة التي يتم تمريرها لأهالي القطاع، فغياب وجود حكومة شرعية في غزة، يثير تساؤلات عديدة من أبرزها كيف يمكن للمجتمع الدولي استثمار مليارات الدولارات اللازمة لإعادة الإعمار؟ وما هي الضمانات بأن تلك الجهود لن تضيع هباءً بتصعيد جديد بين إسرائيل وحركة حماس، لا سيما وأن القطاع تعرض قبل جولة التصعيد الأخيرة، لثلاث حروب، الأولى عام 2008 استمرت 21 يومًا، والثانية عام 2012 لمدة 8 أيام، والثالثة عام 2014 واستمرت 51 يومًا.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الحراك الدبلوماسي الذي تشهده المنطقة فيما يخص القضية الفلسطينية، أعاد التأكيد على محورية ومركزية تلك القضية كمفتاح للسلام والاستقرار، كما أن استئناف العلاقات بين واشنطن والفلسطينيين خطوة مهمة للغاية من أجل فتح آفاق أمام عودة مسار المفاوضات بعد جمود استمر لسنوات، لكن استئناف المفاوضات لن يكون عملية سهلة وسريعة، فإسرائيل تمر بأزمة متشابكة فصعوبة تشكيل الحكومة الجديدة تضعها على أعتاب خامس انتخابات في أقل من عامين، بجانب خطورة تداعيات الصدام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث اعتبرت دوائر سياسية إسرائيلية أن ذلك يثير شبح حرب أهلية.
وفي المقابل فإن الجانب الفلسطيني ليس أفضل حالًا فالانقسام ما زال قائمًا، لذا يبقى التأكيد على أن نجاح أي مسار تفاوضي مرتقب يتطلب من الفلسطينيين وحدة الصف وإنهاء الانقسام الذي يفتح المجال أمام مراوغات إسرائيلية عبر التذرع بغياب شريك فلسطيني موثوق لتحقيق السلام، الأمر الذي يستلزم من الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس التحلي بالسلوك المسؤول وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح السياسية الآنية الضيقة.
5 دقائق