تقارير

تكنولوجيا الإعلان الرقميّ.. الواقعُ والآفاقُ

وسط غمرة التغيرات التي يشهدها العالَم يُعتبر الإعلان الرقميّ أحد المجالات التي تستمر في التطور مدفوعة بتزايد أهمية القنوات الرقمية في ظل وباء كورونا، حيث يُعول على الرقمنة في لعب دور بارز على طريق التعافي الاقتصادي الكامل.
ويعتمد الفضاء الرقمي تقليديًّا على تبادل القيمة العادلة من خلال الإعلانات، فالمستهلكون يصلون إلى المحتوى مثل النصوص ومقاطع الفيديو والتطبيقات دون أي تكلفة مقابل مشاهدة العروض الترويجية للعلامة التجارية، ولكي يستمر هذا النموذج يجب استمرار تدفق الإعلانات عبر الإنترنت.
والمُلاحظ في الآونة الأخيرة ازدياد تأثير تقنيات مثل حظر الإعلانات، وسياسات ملفات تعريف الارتباط الجديدة على تبادل القيمة، مما زاد من احتمالية وجود مدفوعات صغيرة مقابل المحتوى بهدف تعويض الفاقد من الإعلانات.
الوضعُ الراهنُ للإعلان الرقمي
يخضع الإعلان الرقمي للحصار من برامج “حجب الإعلانات – Ad Blockers”، ومنع التتبع الذكي من أبل (Apple ITP)، ولوائح خصوصية البيانات المتغيِّرة مثل النظام الأوروبي العام لحماية البيانات (GDPR)، كما تعرّض الإعلان الرقمي لضربة إضافية مع إعلان شركة جوجل أنها ستتخلص تدريجيًّا من ملفات تعريف ارتباط الطرف الثالث في متصفح جوجل كروم بحلول العام المقبل 2022؛ إذ ترى أن تلك الملفات تفتح الباب أمام اختراق خصوصية مستخدميها.
ولذلك تسعى جوجل لاختبار رموز ثقة خاصة بها مع المطورين، تهدف إلى تعزيز ثقة المستخدم عبر المواقع دون الاعتماد على بيانات تحديد الهوية المستمرة مثل ملفات تعريف الارتباط للجهات الخارجية، فهي تمنع نظريًّا الاحتيال على الإعلانات القائمة على الروبوت دون ربط البيانات بالأفراد.
من جهة أخرى، يظهر العديد من الدراسات حالة من الضجر لدى المستهلكين من كثافة الإعلانات التي يتعرضون لها، أو عدم ملاءمتها لاهتماماتهم، فعلى سبيل المثال يشير استطلاع لشركة “Harris Poll” الأمريكية لأبحاث السوق إلى أن 90% من المستهلكين يقولون إنهم يتعرضون لإعلانات رقمية تطفلية، كما يقول 73% إنهم لا يحبون الرسائل المتكررة، ويعتبر 42% أن الإعلانات التي يشاهدونها على الوسائط الرقمية ليست ذات صلة باهتماماتهم.
هيمنةُ شركات الإنترنت العملاقة على سوق الإعلان
في سياق متصل، تشير مجلة “فوربس” الأمريكية إلى أن عمالقة الإنترنت يستفيدون عندما يكون من الصعب على العلامات التجارية شراء إعلانات على الإنترنت المفتوح، لأن هذا يعني تدفق أموال المزيد من ميزانيات الإعلانات لتلك الشركات العملاقة، وفي المقابل يكون هذا على حساب الناشرين، وغيرهم من منشئي المحتوى ومقدمي الخدمات الذين يعتمدون في تمويلهم على الإعلانات.
وتُترجَم هذه القيود إلى تدفق أموال أقل لتمويل المحتوى والخدمات الأصلية التي يستفيد منها 5 مليارات شخص موجودين على الإنترنت المفتوح، دون الحاجة إلى الدفع مقابل الوصول، بحسب مجلة “فوربس” الأمريكية.
ونظرًا لأن المُشرعين والجهات التنظيمية والقضاء يُركزون حاليًا في بحث تقنيات الإعلان التي تدعم تشغيل المواقع الإلكترونية، فقد تُصبح مكافحة الاحتكار ساحة معركة رئيسية في الكفاح من أجل الإنترنت المجاني والمفتوح، حيث يمكن للجهات التنظيمية الكشف عن صورة أشمل حول الفوائد التي تعود على حفنة من الشركات العملاقة على حساب الإنترنت المتنوع والعادل والحر والمفتوح.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخطيئة الأساسية للإنترنت تتمثل في غرس اعتقاد سائد بأنه مجاني تمامًا، فصحيح أن المستهلكين والمجتمع ككل يستفيد من كَمٍّ هائل من المحتوى المجاني، لكنّ غالبية هؤلاء المستهلكين يغفلون حقيقة أساسية وهي أن المحتوى المتنوع الذي يستمتعون به ويعتمدون عليه يتم تمويله إلى حد كبير عن طريق الإعلانات.
ولذلك تبرز أهمية الدور غير المباشر الذي يلعبه المستهلكون خلال وضع الخطط والاستراتيجية ذات الصلة بالإعلان الرقمي، وتحديدًا من خلال بياناتهم، حيث يُعد استخدام البيانات بشكل فعّال هو العامل الفاصل بين أفضل استراتيجيات التسويق والإعلان الرقمي.
ويكون الإعلان الأكثر صلةً وجاذبيةً للعملاء، مُستنِدًا إلى كميات كبيرة من البيانات، حيث يصنفها إلى شرائح من أجل استهداف كل من العملاء المحتملين والحاليّين.
ومع ذلك، فإن مخاوف المستهلكين بشأن كيفية التعامل مع بياناتهم إلى جانب تشريعات خصوصية البيانات الأكثر صرامةً تُشكل تحديًّا أمام استخدام تلك البيانات، وتدفع المُعلنين بشكل اضطراري إلى إعادة التفكير في كيفية جمع البيانات وتخزينها واستخدامها.
وقد بات استخدام تلك البيانات لإنشاء خطط إعلانية أكثر وضوحًا وملاءمةً وجاذبيةً، متوقفًا على موافقة العملاء، وأي مُخالَفة لتلك القاعدة يترتب عليها نتيجتان في غاية الخطورة، الأولى تتمثل في تآكل ثقة المستهلك؛ مما يؤدي إلى فقدان الولاء للعلامة التجارية، وخسارة مبيعات محتملة.
أما النتيجة الثانية فهي التعرُّض لغرامات ضخمة نتيجة الفشل في إدارة البيانات بشكل قانوني، ومن أمثلة ذلك فرض مكتب مفوض المعلومات البريطاني في عام 2019 غرامة تُقدر بنحو 300 مليون جنيه إسترليني على شركة الخطوط الجوية البريطانية، وفندق ماريوت بسبب انتهاك اللائحة العامة لحماية البيانات.
ولذلك يمكن القول بأن استخدام البيانات لعرض الإعلانات الرقمية لا يزال هو طريق التقدم والنجاح، الأمر الذي لا بد من أن يقترن باستراتيجية واضحة، وإدارة محترفة تتقيد بالضوابط القانونية، وتلتزم الشفافية في استخدام البيانات.

عودةُ الإعلان السياقي.. وبروزُ أهمية التحسين الإبداعي الديناميكي
وإزاء تلك التطورات ذات الصلة بعملية استخدام البيانات، يسعى المعلنون حاليًا لتقليل الاعتماد على البيانات الشخصية والسلوكية، ما أدى إلى عودة “الإعلانات السياقية-Contextual advertising” بشكل كبير، والتي يتم فيها استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لنشر الإعلانات بناءً على المشاعر والنوايا ” intent& sentiment”، وليس السلوكيات السابقة، وفقًا لموقع ” bannerflow” المتخصص في إنشاء وإدارة الإعلانات الرقمية.
ويمثّل الإعلان السياقي نمطًا من الإعلانات التي تظهر على شبكة الإنترنت أو وسائل أخرى، مثل عرض المحتوى في متصفحات الجوال، حيث يتم اختيار ونشر هذه الإعلانات من قبل نظام أوتوماتيكي يعتمد على المضمون الذي يُعرض على المستخدم، بحيث يقوم أصحاب المواقع بالسماح لمحركات البحث بوضع إعلاناتها التي لها صلة بمحتويات هذه المواقع، ويتم اقتسام الإيرادات الناتجة من هذه الإعلانات بين محركات البحث وأصحاب المواقع.
وفي هذا الإطار، تؤدي القدرة على تخصيص الإعلانات للأفراد إلى زيادة معدلات النقر والتحويل بشكل كبير، ويُمكن تطبيق تلك الاستراتيجية على مواقع الإنترنت عبر تخصيصها للأفراد من خلال “التحسين الإبداعي الديناميكي- Dynamic Creative Optimization” الذي يمنح الموقع القدرة على تقديم رسائل شديدة التخصيص عن طريق استبدال المحتوى العام من خلال مواضع إعلانات HTML5 التي يتم ضبطها وتغييرها اعتمادًا على العارض.
بمعنى آخر، يتم استخدام أساليب للجمع بين المعلومات والإبداع من أجل إنشاء رسائل مخصصة على نطاق واسع تُستخدم للإعلان على الشبكة.
وتأسيسًا على ما سبق.. تتضح محورية الدور الذي تلعبه البيانات في صياغة استراتيجيات الإعلان الرقمي، وكذلك قبضة شركات التكنولوجيا العملاقة على سوق الإعلان الرقمي من خلال الأدوات التكنولوجية والتكتيكات الخاصة بنشر الإعلانات، وهي المسألة التي باتت موضع نقاش وتحركات في الآونة الأخيرة من منظور مكافحة الممارسات الاحتكارية.
وتُحتم الاختلالات التي يشهدها سوق الإعلان الرقمي والعلاقة بين مكوناته، تسارع الجهود إلى صوغ قاعدة جديدة تضبط إيقاع السوق، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تحسين الوعي بأن الوصول الذي لا مثيل له إلى المحتوى المجاني يتم تمويله من خلال الإعلانات التي تعتبر ذات قيمة أكثر للجميع – أي المعلنين والناشرين والمستهلكين- عندما تكون أكثر ملاءمةً، وتُراعي خصوصية الأفراد، ويتم تقاسم عوائدها بشكل عادل.

زر الذهاب إلى الأعلى