ترجمات

مكافحة المحتوى الضار في الفضاء الرقمي

جلب الإنترنت فوائد اجتماعية وتعليمية واقتصادية كبيرة إلى المجتمعات والأفراد، ولكن هذا العالم الافتراضي بما يحمله من سلوكيات وممارسات جسّد صورة مصغرة لما يحدث في الواقع الفعلي من تفاعلات بشرية تتضمن نسبة ولو ضئيلة من التفاعلات سلبية الطابع.
وارتباطًا بتلك المسألة فرض ملف مكافحة المحتوى الضار والمسيء واللا أخلاقي نفسه على أجندة المشرعين حول العالم، في محاولة منهم لوضع أنظمة ولوائح وقوانين تعمل على التصدي لهذا المحتوى الآخذ في التزايد عبر الإنترنت، لا سيما منصات التواصل الاجتماعي.
وأظهرت التجارب التشريعية الراهنة، سواء من خلال القوانين القائمة أو مشروعات القوانين المقترحة أنها تقوم على ركيزتين أساسيتين هما اللجوء إلى فرض الغرامات والحظر الذي يبقى خيارًا أخيرًا حال عدم استجابة المنصة أو التطبيق لطلبات إزالة المحتوى، وتبقى هناك العديد من التساؤلات التي لم تجد حلولا وافية، ومنها معايير تصنيف المحتوى والجهة القائمة على مراقبة تطبيق تلك المعايير وإلى أي مدى تكون الغرامات سلاحًا فعالًا في مواجهة انتشار المحتوى الضار؟
الغرامة والحظر ركنان أساسيان لمقترح تشريعي بريطاني
وفي 15 ديسمبر الحالي، كشفت الحكومة البريطانية تفاصيل مشروع قانون بموجبه سيتعين على شركات وسائل التواصل الاجتماعي إزالة المحتوى الضار والحد من انتشاره أو مواجهة غرامات بمليارات الجنيهات الإسترليني.
وينص مشروع قانون الأضرار على الإنترنت، الذي اقترحته لأول مرة حكومة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي في أبريل 2019، على إرشادات جديدة صارمة تحكم إزالة المحتوى غير القانوني مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال والمواد الإرهابية وتلك التي تروِّج للانتحار، حيث يتعين على المواقع الامتثال لتلك الإرشادات أو مواجهة الحظر في بريطانيا، بحسب صحيفة “جارديان” البريطانية.
ويتطلب من المنصات الالتزام بقواعد السلوك الجديدة التي تحدد مسؤولياتها تجاه الأطفال، فضلًا عن وضع المواقع الأكثر شهرة الشروط والأحكام الخاصة بها، مع مواجهة غرامات إذا لم تلتزم بها.
ولأول مرة ستخضع المعلومات المضللة عبر الإنترنت لسلطة جهة تنظيم حكومية، في الحالات التي يكون فيها المحتوى قانونيًّا ولكن يمكن أن يتسبب في ضرر جسدي أو نفسي كبير للبالغين.
كما ستتمتع “الهيئة البريطانية لتنظيم الاتصالات- Ofcom”، بالقدرة على فرض غرامات غير مسبوقة تصل إلى 18 مليون جنيه إسترليني أو 10% من حجم التداول العالمي. مما يعني أن شركة مثل فيسبوك قد تدفع غرامة قدرها 5 مليارات جنيه إسترليني عن الانتهاكات الجسيمة.
أمَّا “اللائحة العامة لحماية البيانات في أوروبا–GDPR” فتحدد الغرامات بمبلغ 20 مليون يورو أو 4% من حجم المبيعات العالمي. وسيكون لدى الهيئة البريطانية لتنظيم الاتصالات أيضًا القدرة على حظر الخدمات في بريطانيا تمامًا، بينما تخطط الحكومة البريطانية لإدخال شق متعلق بفرض عقوبات جنائية على المديرين التنفيذيين في حال فشلت الشركات في أخذ القواعد الجديدة على محمل الجد.
ويرى وزير الدولة للشؤون الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة أوليفر دودن أن بريطانيا تضع بذلك معايير عالمية للسلامة عبر الإنترنت من خلال النهج الأكثر شمولًا حتى الآن.
في المقابل، وصف آدم هادلي، مدير مؤسسة Online Harms، المقترحات بأنها “غير فعالة”، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية، مشيرًا إلى أنه من المرجح العثور على جهات فاعلة سيئة مثل الإرهابيين على منصات ومواقع إلكترونية أصغر يدشنونها ويسيطرون عليها، وليس منصات التكنولوجيا الكبيرة التي تستهدفها المقترحات الحكومية.
كما اعتبر هادلي أن فرض عقوبات مالية مرهقة على شركات التكنولوجيا سيساعد على تحفيز الإزالة المفرطة للمحتوى، مما يؤدي إلى إزالة المحتوى غير القانوني، وبذلك قد تدفع أصحاب نظرية المؤامرة إلى منصات مملوكة ذاتيًّا، حيث لا يمكن الطعن في آرائهم أو مراقبتها بسهولة.
وأثار مشروع القانون أيضًا انتقادات من مجموعات الحقوق الرقمية، حيث يرى دوم هالاس، المدير التنفيذي لشركة “Coadec”، التي تمثل قطاع الشركات الناشئة في بريطانيا، أن مشروع القانون سيكون له تأثير غير متناسب على المنافسين، حيث يفيد الشركات الكبيرة التي لديها من الموارد الكافية للامتثال لتلك القواعد، وهو ما تفتقده الشركات الناشئة.
تعريفات إجرائية للمحتوى المسيء والعنيف في مشروع قانون أستراليا
ولم يختلف الوضع في أستراليا، حيث قدمت الحكومة أيضًا مشروع قانون يفرض على مقدمي خدمة الإنترنت وشركات التواصل الاجتماعي وغيرهما من المنصات عبر الإنترنت إزالة المحتوى الضار للغاية أو المسيء أو المتنمِّر في غضون 24 ساعة وإلا سيواجهون خطر الحظر ودفع غرامة.
ويشار إلى أنه وفقًا للقانون المطبق حاليًّا في أستراليا يجب اتخاذ إجراءات بشأن إشعارات الإزالة المتعلقة بإساءة استخدام الصور والتسلط عبر الإنترنت والمحتوى الخطير الضار في غضون 48 ساعة.
وبموجب مشروع القانون، إذا تجاهل موقع إنترنت أو تطبيق إشعارات الإزالة لمحتوى مثل مواد الاعتداء الجنسي على الأطفال، سيطلب مفوض السلامة الإلكترونية من محركات البحث ومتاجر التطبيقات حظر الوصول إلى هذه الخدمات.
وستواجه مواقع الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي غرامات تصل إلى 555 ألف دولار لتجاهل توجيه إزالة مواد التصيد، بينما سيواجه الأفراد غرامات تصل إلى 111 ألف دولار. وتعد هذه العقوبات معمولًا بها بالفعل على التنمر الإلكتروني على الطفل، وسيتم تمديدها لتشمل البالغين.
وتمت إضافة سلطة حظر مواقع الإنترنت على نحوٍ سريعٍ في حال التعرض لأزمات عبر الإنترنت -مثل هجمات كرايستشيرش الإرهابية التي استهدفت مسجدين في نيوزيلندا-، من خلال مطالبة مزوِّدي خدمة الإنترنت بحظر الوصول إلى المحتوى الإرهابي والعنيف لفترة زمنية محدودة.
كما يضيف مشروع القانون، بالإضافة إلى تدابير جديدة جوهرية لحماية البالغين عبر الإنترنت، تدابير أخرى لحماية الأطفال، ويوسع جهود مكافحة التنمر عبر الإنترنت، لتشمل إزالة تلك المواد من الألعاب الإلكترونية أيضًا وليس وسائل التواصل الاجتماعي فقط.
وسيكون مفوض السلامة الإلكترونية الأسترالي قادرًا على كشف الهويات وراء الحسابات المجهولة أو المزيفة المسؤولة عن إساءة الاستخدام عبر الإنترنت أو تبادل المحتوى غير القانوني.
ويصنف مشروع القانون مواد الإساءة الإلكترونية التي تستهدف البالغين على أنها مادة “يمكن أن يستنتج الشخص العادي أنها تهديد أو مضايقة أو تتضمن إساءة مثل مشاركة مواد إباحية بغرض انتقامي.
كما يتم تعريف المحتوى العنيف للغاية بأنه: أي مادة صوتية أو مرئية عنيفة بغيضة تسجل أو تبث، مثل الأعمال الإرهابية أو القتل والتعذيب أو الاغتصاب.
خطوات أوروبية نحو هيكل جديد عابر للقوميات للإشراف على المحتوى
وعلى ذات المنوال، اقترحت المفوضية الأوروبية إصلاحًا طموحًا للفضاء الرقمي، ومجموعة شاملة من القواعد الجديدة لجميع الخدمات الرقمية، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، والأسواق عبر الإنترنت، ومنصات الإنترنت الأخرى التي تعمل في الاتحاد الأوروبي.
ويقدم مشروع قانون الخدمات الرقمية سلسلة من الالتزامات الجديدة المنسقة على مستوى الاتحاد الأوروبي، من أبرزها:
• قواعد إزالة السلع أو الخدمات أو المحتوى غير القانوني عبر الإنترنت.
• ضمانات للمستخدمين الذين تم حذف محتواهم عن طريق الخطأ بواسطة المنصات.
• التزام المنصات الكبيرة باتخاذ إجراءات لمنع إساءة استخدام أنظمتها.
• تدابير شفافية واسعة النطاق، بما في ذلك الإعلان عبر الإنترنت والخوارزميات المستخدمة للتوصية بالمحتوى للمستخدمين.
• صلاحيات جديدة لفحص كيفية عمل المنصات، تتضمن تسهيل وصول الباحثين إلى بيانات المنصة الرئيسية.
• قواعد جديدة بشأن إمكانية تتبُّع مستخدمي المنصات في مجال الأعمال للمساعدة في تعقُّب بائعي السلع أو الخدمات غير القانونية.
ووفقًا لمشروع المفوضية الأوروبية، تعتبر المنصات التي تصل إلى أكثر من 10% من سكان الاتحاد الأوروبي (أي 45 مليون مستخدم) ذات طابع عام، ولا تخضع فقط لالتزامات محددة للتحكم في المخاطر الخاصة بها، ولكن أيضًا لهيكل إشراف جديد.
ويتألف إطار المساءلة الجديد هذا من مجلس من منسقي الخدمات الرقمية الوطنيين، مع صلاحيات خاصة للمفوضية في الإشراف على المنصات الكبيرة جدًّا بما في ذلك القدرة على معاقبتها مباشرة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن المنصات على الإنترنت باتت تلعب دورًا مركزيًّا في حياة الأفراد والمجتمعات، الأمر الذي يستدعي تنظيم تلك المساحة الرقمية، من خلال وضع إرشادات وقواعد والتزامات تقع على عاتق المستخدمين والشركات المالكة للمنصات الرقمية، إلا أن اللافت في الجهود التي تقوم بها الحكومات هو التركيز على عنصر العقوبة، دون أن تُولي اهتمامًا بإيضاح القواعد الأساسية التي يتم من خلالها تصنيف المحتوى بين محتوى نافع وآخر ضار وهو ما قد يمثل بطريقة أو أخرى قيدًا على حرية التعبير في الفضاء الرقمي، فضلًا عن أن الغرامات الباهظة قد تدفع لانسحاب المنصات الكبرى وهو ما يعني فقدان مساحة تخضع لمستوى مقبول من الضوابط المتعلقة بمراقبة المحتوى، واستغلال شركات أخرى لا تتوافر لها نفس القدرات المادية واللوجيستية والتقنية لمتابعة المحتوى الذي يبث من خلالها، مما يمنح فرصة أكبر لرواج المحتوى الضار.

زر الذهاب إلى الأعلى