تقارير

سياسات أردوغان والانهيار الاقتصادي لتركيا

ما بين تخبُّط السياسة الاقتصادية ومغامرات السياسة الخارجية يتهاوى الاقتصاد التركي مسجِّلًا معدلات تضخم مرتفعة وتراجعًا في النمو وكل المؤشرات الاقتصادية الرئيسية.

وتزداد حدة الأزمة الاقتصادية التركية في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان تعقيدًا بفعل التسلط الذي يمارسه، وفرض رؤاه اللا منطقية، ضاربًا بآراء الخبراء المتخصصين عرض الحائط، كما أن سياساته التي أفقدت أنقرة حلفاءها وجلبت المزيد من الخصوم تشكل عائقًا أمام أي حلول سريعة فعالة تسهم في دعم الاقتصاد المأزوم.

وفي هذا الإطار، رصدت مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تقرير موسع واقع الاقتصاد التركي المتهاوي وأسباب ذلك الانهيار الذي تشهده الأسواق التركية، معتبرة أن “أردوغان” هو جوهر مشكلات تركيا ولا حلول لتلك المشكلات إلا برحيله.
وضع حد لمغامرات السياسة الخارجية متطلب رئيسي لتجاوز الأزمة الراهنة
ووفقًا لمجلة فورين بوليسي الأمريكية، لا يخفى على أحد سبب عدم الاستقرار الاقتصادي في تركيا -فهي السوق الناشئة الأسوأ أداءً هذا العام إلى حد بعيد- فالأسواق تتفاعل بشكل إيجابي في ظل السياسات الواضحة وتنهار في مواجهة العشوائية.

وإن كان الاقتصاد التركي يتحسن أحيانًا عندما تظهر أخبار إيجابية، ولكن من غير المحتمل أن تؤدي تلك الأخبار إلى فوائد فعلية، ولذلك لم يكن مفاجئًا بلوغ الليرة التركية إلى أعلى سعر لها مقابل الدولار منذ شهر تقريبًا، عقب تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 11 نوفمبر الماضي بوضع تركيا على طريق اقتصادي جديد.

وقد جاء حديث أردوغان في أعقاب هزة في الجهاز الاقتصادي التركي، تضمنت إقالة محافظ البنك المركزي واستقالة وزير المالية بيرات البيرق (صهر أردوغان)، وعلى الرغم من أن المستثمرين استقبلوا هذه الأخبار باحتفاء كبير، وقام كل من بنك سيتي وبنك سوسيتيه جنرال بتحسين توقعاتهما بشأن الليرة لأول مرة منذ فترة طويلة، فإن هناك سببًا للحذر.

وتشير المجلة الأمريكية إلى أن الطريق لإعادة الاقتصاد التركي إلى مساره سيكون طويلًا بالفعل، ويتطلب سياسة اقتصادية متماسكة لا يحركها توجيه أصابع الاتهام التى تشير للمؤامرات وسياسات القوة، كما هو الحال في السنوات القليلة الماضية.

ويتطلب ذلك أيضًا حكومة تسيطر على المغامرات في السياسة الخارجية، ولا سيما العدوان التركي في شرق البحر المتوسط، الذي أضر بشدة علاقات أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري لتركيا، فضلًا عن أنه نتيجة لانتهاكات تركيا لالتزاماتها بموجب اتفاقية الاتحاد الجمركي مع  الاتحاد الأوروبي، انخفضت حركة أنقرة التجارية مع التكتل الأوروبي بشكل كبير.

وفي الوقت ذاته، أدت القرارات ذات الصلة بالسياسة الخارجية التركية إلى إحجام واسع عن استثمار الأموال في السوق التركية، حيث حذر تقرير استثماري حديث صادر عن مجموعة “سانتاندر-Santander” (رابع أكبر مؤسسة مالية في العالم)، من قرب تركيا من الصراعات في سوريا والعراق ممَّا يعزِّز المخاطر الأمنية، إلى جانب “زيادة الاضطرابات والصراع السياسي في تركيا”.

وتؤكد “فورين بوليسي” أن التغييرات الكبيرة والملموسة فقط هي التي ستعيد ثقة المستثمرين في قدرة تركيا على وضع حل لعجزها المالي الحاد وإعادة الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تحتاج إليه البلاد.

 فهم عبثي لأساسيات الاقتصاد وأعداء وهميون وسياسة استبدادية

وبعدما كان الاقتصاد التركي في يوم من الأيام خيارًا جذابًا للمهتمين بالأسواق الناشئة، إلا أن 17 عامًا من سوء إدارة أردوغان دفعت الأموال الأجنبية للفرار. وكان ذلك واضحًا بشكل خاص في تقرير البنك المركزي التركي لشهر يونيو، حيث أظهرت الإحصائيات سحب أكثر من 8 مليارات دولار من الاستثمار الأجنبي من الأسهم التركية بين يناير ويونيو. ليبلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي في البورصة التركية حاليًّا ربع المبلغ المسجل في عام 2013.

وعلى الرغم من أن جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” شجعت هروب رأس المال، ممَّا دفع المستثمرين إلى البحث عن استثمارات أقل مضاربة، فإن السياسة الاقتصادية التركية أيضًا لم تساعد بالتأكيد على بقاء المستثمرين.

وقد اتخذت السلطات التركية حزمة إجراءات أدت إلى تآكل ثقة المستثمرين، منها حظر البيع على المكشوف، وإقراض الأوراق المالية الذي يعتبر جزءًا لا يتجزأ من عملية البيع على المكشوف، وترافق مع ذلك مخاوف مبررة بشأن احتمالية تأميم الشركات الخاصة، فضلًا عن وضع قيود على السيولة، وكلها أمور تسهم في إحجام المستثمرين.

وبصرف النظر عن هذه الإجراءات التي تقوِّض السوق الحرة، فإن لهجة أردوغان العدائية المتزايدة تجاه التدخل الأجنبي في الاقتصاد التركي منذ توطيد سلطته في 2018، فضلًا عن البيانات الاقتصادية المتهورة، لم تساعد أيضًا على تحسن الاقتصاد التركي، ففهم أردوغان للمبادئ الاقتصادية الأساسية قد وصل إلى حد العبث، بالإضافة إلى إثارة الجدل من خلال الاشارة إلى أعداء وهميين لتركيا مثل “لوبي أسعار الفائدة”، وهو المسمى الذي أطلقه أردوغان على المصرفيين الذين يدعون إلى رفع أسعار الفائدة وإصدار السندات الحكومية وخفض قيمة العملة وغيرها من السياسات النقدية المقبولة عمومًا التي تستخدمها البلدان التي تسعى إلى خفض معدلات التضخم.

وعلى الرغم من الحاجة الملحة للقيام بذلك (يبلغ معدل التضخم في تركيا نحو 12%) فقد وقف أردوغان في طريق تلك الخطوة، ويعني كل هذا أنه لا يمكن التحمس لأي تصحيح للمسار في جعبة أردوغان الآن، فبكل المقاييس والاحتمالات لن تعكس أي خطوة يتخذها احتياجات تركيا الفعلية.

وبشكل عام يمكن القول بأن الأسواق الحرة لا تتعايش مع الاتجاهات الاستبدادية التي أظهرتها سياسات أردوغان مرارًا وتكرارًا، ومنها التلاعب الاقتصادي، والسجن واسع النطاق للصحفيين الذين ينتقدون سياساته، وفصل من يعتبرهم منشقين من الخدمة المدنية والأوساط الأكاديمية والقضاء.

ولا يمكن لبلد أن يسير على طريق الإصلاح الحقيقي طالما أن استقلال مؤسساته تقوضه المحسوبية، ومواطنيه يكدسون مدخراتهم بالعملة الأجنبية خوفًا من فقدان العملة المحلية لقيمتها بين عشية وضحاها، ويبلغ الدين الخارجي له أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي.

الاقتراض من صندوق النقد الدولي والأموال الصينية والقطرية خيارات أمام أنقرة

إن استعادة الثقة في الاقتصاد التركي ستستغرق أكثر من مجرد خطاب أو استبدال بعض الأصدقاء بآخرين (محافظ البنك المركزي المعين حديثًا ناجي أغبال، ووزير المالية لطفي علوان، كلاهما من المقربين من أردوغان وهم أعضاء في الحزب الحاكم “حزب العدالة والتنمية”).

وتشير “فورين بوليسي” إلى أن الأمر يتطلب تدابير قد تضر بالفخر الاقتصادي التركي على المدى القصير -مثل ربط الليرة باليورو أو الدولار والتعبير عن الاستعداد للنظر في خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي– لكن ستؤدي بالتأكيد إلى إعادة الاقتصاد التركي إلى مساره الصحيح.

ولن يحدث أيٌّ من ذلك قبل رحيل أردوغان، ولا سيما قبول أموال الإنقاذ الدولية التي تتطلب من الرئيس التركي أن يضع حدًّا لاقتصاده الذي يركز على المحسوبية.

وعلى الرغم من أن الفترة الرئاسية الثانية لأردوغان من المفترض أن تنتهي في عام 2023، فإن التفسيرات المطاطة للدستور التركي قد تمدد بقاءه، ممَّا يؤخر الإصلاح الاقتصادي المؤثر في المستقبل المنظور.

وتتطلب إمكانية حصول تركيا على قرض كبير من صندوق النقد الدولي الالتزام بمتطلبات الشفافية، والقضاء على البيروقراطية الحكومية المفرطة، والقيود الائتمانية، وكلها ستكون غير مقبولة لأردوغان وقاعدة مؤيديه، التي أصبحت تنظر إلى الغرب باعتباره مسؤولًا عن المشكلات الاقتصادية لبلادهم.

كما قد يكون أحد المصادر البديلة للتمويل هو التدفق النقدي من دول مثل الصين أو قطر، لكن على الرغم من خطابه المعادي للغرب، يتفهم أردوغان الدوافع “غير الاقتصادية”، والطريقة التي سيؤثر بها الاتجاه شرقًا سلبًا على علاقة تركيا المتوترة بالفعل مع الحلفاء في بروكسل وواشنطن.

ويرى شلومو رويتر جيسنر، الرئيس والمؤسس المشارك لمنتدى كامبريدج للشرق الأوسط وشمال إفريقيا أنه قبل ثلاثمئة عام، وصف مونتسكيو الإمبراطورية العثمانية بأنها “جسد مريض لا يدعمه نظام غذائي معتدل ومنتظم، ولكنْ علاج قوي يستنزفها باستمرار”، ومن هذا المنطلق لن يتحقق التغيير الاقتصادي الحقيقي في تركيا إلا عندما يبلغ هذا الإرهاق ذروته.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن سوء إدارة أردوغان للحكم في تركيا أدت إلى سلسلة من الأزمات التي باتت تطوِّق البلاد في جميع المجالات ومن كل الاتجاهات الاستراتيجية، فضلًا عن أنها حدَّت من هوامش الحركة اللازمة للتغلب على الأزمة الاقتصادية المتفاقمة خلال العامين الأخيرين، فأصبح الاعتماد الأساسي على استنزاف الأموال القطرية التي تعد بمثابة مسكنات، كان آخرها إعلان صندوق الثروة السيادي التركي توقيع مذكرة تفاهم مع جهاز قطر للاستثمار لإتمام صفقة محتملة تشتري الدوحة بموجبها 10% من بورصة إسطنبول.

زر الذهاب إلى الأعلى