تقاريردراسات

دوافع وأدوات التغلغل التركي في منطقة القرن الإفريقي

يعد الدور التركي المتزايد في منطقة القرن الإفريقي خلال السنوات الماضية، انعكاسًا لنظرية العمق الاستراتيجي التي صاغها رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، التي تقوم فلسفتها الرئيسية على أن تركيا متعددة الأحواض القارية، الأمر الذي يدفع تركيا للبحث عن موطئ قدم في القارة السمراء. وقد أدت التطورات الاقتصادية والأمنية في القرن الإفريقي إلى زيادة أهمية المنطقة كموقع جيواستراتيجي، يطل على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، ويمكن لمن يسيطر عليها أن يتحكم في مضيق باب المندب، الذي يعد واحدًا من أهم الممرات المائية في العالم، تجاريًّا وعسكريًّا، وأدى ذلك إلى انتشار القواعد العسكرية الأجنبية، المصحوبة في كثير من الأحيان بمقاربات القوة الناعمة مثل استثمارات الشركات الأجنبية.

وفي هذا الإطار سعت تركيا إلى زيادة انخراطها في منطقة القرن الإفريقي وفي القارة السمراء بوجه عام، من خلال أدوات متعددة سياسية واقتصادية وعسكرية، حيث زادت من عدد بعثاتها في البلدان الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، فبعدما كان لديها 12 سفارة في إفريقيا عام 2012، أصبح لديها 42 سفارة في 2020، كما لجأت إلى استخدام مدخل العمل الإنساني والتنموي في التغلغل داخل القارة، واستخدمت أيضًا القوة الصلبة ممثلة في القواعد العسكرية، فلدى تركيا قاعدة عسكرية في الصومال هي كبرى قواعدها العسكرية في الخارج، كما توصلت إلى اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية  في جيبوتي.

الدائرة الإفريقية في السياسة الخارجية التركية

وتشير دراسة نشرتها مجلة متابعات إفريقية، الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية إلى أن تركيا بدأت استراتيجيتها الجديدة نحو إفريقيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، الذي حرص على إعادة تفعيل الدور التركي في الدائرة الإفريقية وترتيب التحالفات ومراكز القوى، خاصة بعد الفشل في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، حيث اتجهت تركيا إلى القارة الإفريقية للبحث عن دور جديد يتيح لها موطئ قدم على البحر الأحمر والاستفادة من مزايا القارة، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الجغرافية.

وقد أطلقت تركيا سياسة “الانفتاح على إفريقيا” في عام 2005 وهدفت إلى تعزيز الحضور الدبلوماسي والتجاري التركي في أرجاء القارة. وشملت المبادرة افتتاح عشرات السفارات الجديدة ورحلات للخطوط الجوية التركية ومؤتمرات قمة تركية إفريقية اعتيادية، وفقًا لمعهد بروكينغز للدراسات.

ورصدت الدراسة أبرز بواعث الاهتمام التركي بالقارة الإفريقية بوجه عام ومنطقة القرن الإفريقي تحديدًا، حيث تمثلت في رغبة أنقرة في تعزيز الأوراق التي تملكها في بعض الملفات الإقليمية لمواجهة تنامي نفوذ بعض القوى الإقليمية والدولية، مثل إيران وإسرائيل والصين، ومحاولة تطويق ومحاصرة تحركات بعض القوى الأخرى، مثل الإمارات، ومصر في إطار التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في المنطقة، إضافة إلى سعي تركيا نحو تقديم نفسها بديلًا إقليميًّا جاهزًا لتحقيق وحماية مصالح وأهداف القوى الغربية والولايات المتحدة في المنطقة.

أمَّا عن الأدوات التي استخدمتها في تحقيق أهدافها في منطقة القرن الإفريقي، فقد تنوعت على النحو التالي:

  • أدوات سياسية ودبلوماسية: والمؤشر الأكثر وضوحًا هنا هو وصول عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى 42 سفارة، من بينها 27 سفارة تم افتتاحها بعد عام 2009، فضلًا عن الزيارات العديدة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدول القرن الإفريقي، كما عيَّنت تركيا مبعوثًا خاصًّا للصومال عام 2018، وهذه خطوة تجري للمرة الأولى في السياسة الخارجية التركية، وأوعزت إليه تجديد الجهود للمصالحة بين حكومة الصومال الاتحادية وإقليم صوماليلاند الانفصالي.
  • الأدوات الاقتصادية: إذ تعوِّل تركيا على آليات اقتصادية ثلاث لتعزيز نفوذها في المنطقة، هي تقديم مساعدات اقتصادية، والسعي إلى رفع مستوى التبادل التجاري، وتشجيع رجال الأعمال والمستثمرين على استكشاف فرص الاستثمار في المنطقة، وعلى سبيل المثال تتركز نصف الاستثمارات التركية الموجهة إلى إفريقيا في إثيوبيا، وتقدر الاستثمارات التركية في أديس أبابا بـ5.2 مليار دولار، بحسب بيانات لجنة الاستثمار الإثيوبية في عام 2020.

وتعد أنقرة من أهم الشركاء الاستراتيجيين لإثيوبيا، وتعمل في مجالات حيوية ومشروعات استراتيجية، يأتي على رأسها مشروع السكك الحديدية، الذي تهدف إثيوبيا من خلاله إلى ربط البلاد بشبكة من السكك الحديدية السريعة. وتشكل الاستثمارات التركية في إثيوبيا نصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة، عبر 350 شركة تركية أتاحت نحو 10 آلاف فرصة عمل.

  • استغلال الأبعاد الدينية والإنسانية لإحياء الحلم العثماني: قامت تركيا باستغلال ورقة الدين كأحد مصادر تعزيز دورها في منطقة القرن الإفريقي، فمعظم سكان القرن الإفريقي ليسوا مسلمين فحسب، بل ينتمون إلى المذهب الحنفي، الذي يرجع لتركيا الفضل في نشره فيها إبان تبعية السودان والصومال وإريتريا لها.

وتقوم أنقرة حاليًّا باستخدام أدواتها الناعمة ممثلة في المساعدات الإنسانية والمدارس والمنح الدراسية وبناء المساجد ومنظمات الإغاثة، ففي منطقة القرن الإفريقي، وبخاصة الصومال والسودان، يوجد نشاط مكثف لعدد من الوكالات والمؤسسات التركية التي تقدم المساعدات والإغاثة، كوكالة التعاون والتنسيق “تيكا”، ومؤسسة “ديانيت” التي توفر المنح العلمية للدراسات الإسلامية للطلاب من إفريقيا في تركيا، إلى جانب هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات.

العلاقات التركية مع دول منطقة القرن الإفريقي

ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن القرن الإفريقي يتم تعريفه على أنه المنطقة، التي تضم إريتريا، وجيبوتي، والصومال، وإثيوبيا، لكن من الناحية العسكرية، فإن القرن الإفريقي، يشير إلى فضاء أمني، يضم، إضافة إلى الدول الأربع، كلًّا من كينيا، وسيشيل، وجنوب السودان، والسودان.

وسلطت دراسة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أيضًا الضوء على العلاقات بين أنقرة وباقي دول منطقة القرن الإفريقي، حيث استعرضت واقع العلاقات التي تجمع تركيا بالسودان، حيث تنظر أنقرة إليها على أنها بوابة لإفريقيا تساعدها في زيادة حضورها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي عبر القارة، وقد تضاعف دور تركيا عقب زيارة أردوغان إلى  السودان عام 2017، حيث استثمر العلاقة الوثيقة والتوافق الأيديولوجي الإخواني مع الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير، في عقد العديد من اتفاقيات التعاون، ولعل أبرزها تسليم السودان جزيرة سواكن على البحر الأحمر شرقي السودان لتركيا كي تتولَّى إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية لم تحدد، بجانب خطط لزيادة التعاون العسكري وتشييد مرسى للسفن الحربية والمدنية في سواكن، لكن تلك الشراكة التركية السودانية تواجه صعوبات غير متوقعة وباتت في وضع خطير بعد عزل البشير في مطلع العام الماضي.

أمَّا عن جيبوتي، فقد وقعت تركيا اتفاقية معها لإنشاء منطقة تجارة حرة تبلغ 12 مليون متر مربع مع قدرة اقتصادية محتملة بقيمة تريليون دولار في سبتمبر 2017، وتتطلع تركيا حاليًّا لتتولى إدارة ثاني أكبر ميناء استراتيجي في القرن الإفريقي الموجود في جيبوتي، الذي لعب منذ فترة طويلة دورًا مركزيًّا في التجارة الإقليمية.

ولم يَغِب توظيف البعد الديني عن جهود التغلغل التركي، إذ افتتحت تركيا العام الماضي أكبر مسجد في جيبوتي “مسجد عبد الحميد الثاني”، الذي زيَّنت جدرانه بمخطوطات عثمانية كلاسيكية.

وبالنسبة لإريتريا، فإن الانخراط التركي يعتبر متواضعًا، وربما يعود ذلك بسبب العلاقة الوطيدة التي تربط إريتريا بدول الخليج، التي ساندت جهود رفع العقوبات الأممية عن أسمرة بعد توقيعها اتفاقًا للسلام مع إثيوبيا في عام 2018.

وفيما يخص كينيا استمرت العلاقات الثنائية بين كينيا وتركيا في التطور مع افتتاح الأولى لسفارتها في أنقرة عام 2012.

مساعي أنقرة لاستهداف الأمن المائي المصري

وتطرقت الدراسة إلى انعكاسات ذلك الانخراط التركي في منطقة القرن الإفريقي على الأمن المائي المصري، بالنظر إلى ما تمثِّله تلك المنطقة من أهمية جيوسياسية للدولة المصرية، وقد أسهمت علاقة تركيا ببعض دول القرن الإفريقي في تهديد مصالح مصر المائية، خاصة إثيوبيا والصومال والسودان، حيث أسهمت تركيا في تأجيج الخلاف بين مصر والسودان أثناء حكم الرئيس السابق عمر البشير ووقوف السودان بشكل غير مباشر إلى جانب إثيوبيا في مفاوضات سد النهضة.

وفي الصومال فإن النفوذ التركي المتزايد سوف يجعلها فاعلًا أساسيًّا في جميع الترتيبات داخل الصومال وفي القرن الإفريقي أيضًا، كما أن إدارة تركيا لمواني مقديشيو وبربرة وسعيها للوجود الفاعل في ميناء جيبوتي ومزاحمة شركة دبي للمواني ربما يتيح لها نفوذًا قويًّا في منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وهو ما قد يهدد المصالح المائية المصرية.

كما أشارت الدراسة إلى دعم تركيا لإثيوبيا عبر نقل تجربتها في بناء السدود إلى الجانب الإثيوبي، ولعل اللقاء المفاجئ الذي جمع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والممثل الخاص لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في أنقرة، بالتزامن مع تلويح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالتدخل عسكريًّا في ليبيا، إذا تجاوزت تركيا وميليشياتها المسلحة في ليبيا الخط الأحمر “محور سرت الجفرة” ذا الأهمية الاستراتيجية، خير دليل على التنسيق السياسي بين أنقرة وأديس أبابا.

وختامًا.. يمكن القول إن توجُّه تركيا تحت حكم أردوغان نحو منطقة القرن الإفريقي يعد جزءًا من مشروع العثمانيين الجدد الساعي إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة عبر التغلغل في كل المناطق التي كانت خاضعة لحكمها سابقًا.

ويمكن تقسيم دور تركيا في القرن الإفريقي إلى قسمين، الأول ذو طبيعة اقتصادية تنموية، والثاني يغلب عليه الطابع الجيوسياسي، وعلى الرغم من وجود تداخل كبير بين الجانبين، يبدو أن تركيا ركزت بشكل أساسي على الأول منذ دخولها الصومال في عام 2011 ثم تحولت تدريجيًّا نحو الشق الجيوسياسي في السنوات التالية والتي ارتبطت بتحولات السياسة الخارجية التركية في ظل رغبة أردوغان في استغلال موجة الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط كفرصة سياسية مواتية لإطلاق مشروعه العثماني.

وتسعى تركيا إلى الوجود في تلك المنطقة الاستراتيجية من أجل جَنْي مصالح اقتصادية ومزاحمة الوجود الخليجي الآخذ في النمو هناك، فضلًا عن أن امتلاك أنقرة نفوذًا في هذا الموقع المهم يمنحها مكانة أكبر على الساحة الدولية.

ويُظهر التفاوت في عمق العلاقة التركية مع دول منطقة القرن الإفريقي، المآرب السياسية التي تتوخَّاها أنقرة، فتعزيز العلاقات مع إثيوبيا والسودان لا يمكن قراءته من المنظور الاستراتيجي بمعزل عن حالة العداء التي يكنُّها نظام أردوغان تجاه مصر وقيادتها منذ ثورة 30 يونيو 2013 التي أسقطت مشروعه التوسعي إلى غير رجعة.

زر الذهاب إلى الأعلى