قراءات

زيارة أردوغان إلى قطر.. قراءة في الدلالات

ملفات عديدة يحملها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ثاني زيارة له إلى قطر، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، إلا أن خيطًا ناظمًا يجمعها، وهو الرغبة في الحصول على المزيد من الأموال القطرية لتمويل مشروعاته التوسعية في المنطقة ومغامراته العسكرية المتواصلة، بعدما تحولت الدوحة في ظل التحالف مع أنقرة إلى خزنة أموال يهرع إليها أردوغان في ظل فجوة أخذت في الاتساع ما بين الرغبة والطموح الذي يحرِّكه، وتراجع حاد في القدرة -لا سيما المالية- اللازمة للسعي نحو تحقيق تلك الأهداف المرتبطة بالمشروع العثماني الجديد.

وقد باتت قطر في ظل استمرار أزمتها مع دول الرباعي العربي لمكافحة الإرهاب (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، خاضعة للابتزاز التركي، فهي لا تملك قرارها مطلقًا في ظل تغلغل وسيطرة سياسية تركية على صانع القرار القطري، وعسكرية على الأرض عبر قاعدتين عسكريتين تركيتين، بما يمثل أقصى أشكال انتهاك السيادة.

ووفقًا للإعلام القطري، فقد استمر اللقاء بين  أمير قطر تميم بن حمد، والرئيس التركي في قصر البحر بالعاصمة القطرية، لمدة ساعة و10 دقائق، كما رافق أردوغان خلال الزيارة صهره وزير الخزانة بيرات ألبيرق، ووزير الشباب والرياضة محمد قصاب أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، ورئيس دائرة الاتصال في الرئاسة فخر الدين ألطون، ومتحدث الرئاسة إبراهيم قالن.

ويمكن رصد عدد من الملاحظات حول تلك الزيارة:

اكتفاء الوكالات الرسمية ووسائل الإعلام القطرية والتركية بتغطية خبرية محدودة للزيارة دون الخوض في أي تفاصيل حول الملفات المطروحة، وإن كان يتضح من تشكيل الوفد المرافق لأردوغان غَلَبَة القضايا الاقتصادية والأمنية على جدول أعمالها.

المدة الزمنية القصيرة التي استغرقتها المباحثات بين أردوغان وتميم، حيث استمرت لنحو ساعة و10 دقائق، أعقبها غداء عمل وفقًا لوكالة الأناضول التركية، بينما شهدت آخر زيارة أجراها أردوغان إلى الدوحة في 2 يوليو الماضي أكثر من جلسة بين أردوغان وتميم، من بينها لقاء مغلق استغرق وحده قرابة الـ3 ساعات.

عدم صدور تصريحات رسمية من أيٍّ من البلدين أو مسؤولَيْهِمَا عقب الزيارة حول ما تم مناقشته خلال المباحثات أو نتائجها، وهو صمت غير معتاد على الأقل من جانب تركيا وتحديدًا أردوغان.

غياب الاحتفاء الإعلامي القطري بأردوغان، ومن مظاهره إدلاء الرئيس التركي بتصريحات لصحيفة “ذا بينينسولا” القطرية الناطقة بالانجليزية وهى مسألة تحمل دلالات عميقة، إذ دأبت السلطات القطرية علي الاحتفاء بأردوغان عبر إطلالة على المنصة الإعلامية الأبرز لقطر وهي قناة الجزيرة، لكن أن يجري الحوار مع صحيفة قطرية ناطقة بالانجليزية فهي خطوة مستغربة وتثير العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقة الراهن بين البلدين.

متغيرات داخلية وإقليمية ودولية تحيط بالزيارة

تأتي زيارة الرئيس التركي إلى الدوحة بعد نحو 3 أشهر من زيارته السابقة للعاصمة القطرية، التي كانت أول وجهة خارجية لأردوغان منذ تفشِّي فيروس كورونا، في ظل عدد كبير من المتغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية، وكذلك وسط ضغوط متصاعدة في الداخل التركي الذي بات يئنُّ تحت وطأة أزمة اقتصادية لا تلوح في الأفق أي بادرة تحسُّن بشأنها، بل إنها مرشحة لمزيد من التفاقم.

ويمكن استعراض تلك المتغيرات على النحو التالي:

الوضع الاقتصادي المتأزِّم في تركيا

تشير التقارير الاقتصادية الدولية إلى آفاق قاتمة أمام الاقتصاد التركي الذي بات يمر بمرحلة خطيرة للغاية تعكسها المؤشرات الاقتصادية الكلية، إذ حذرت مؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس للاستشارات الاقتصادية من خطورة الوضع في تركيا في ظل معدلات التضخم المرتفعة، وتزايد القروض. كما خفضت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، تصنيفها للاقتصاد التركي إلى درجة سلبية (BB-)، نظرًا إلى تراجع الاحتياطي النقدي للبلاد وضعف الثقة بسياسة أنقرة المالية، حيث لجأ بنك تركيا المركزي إلى احتياطي النقد الأجنبي من أجل كبح خسائر الليرة التي تشهد هبوطًا مستمرًّا منذ سنوات. وتراجع احتياطي النقد الأجنبي في تركيا إلى 45.5 مليار دولار في الرابع عشر من أغسطس الماضي، بينما كان عند مستوى 81.2 مليار دولار في نهاية السنة الماضية.

وتقول مؤسسة موديز للتصنيفات الائتمانية إن تركيا تجازف بحدوث أزمة في ميزان المدفوعات بعد انخفاض قيمة الليرة بنحو 25% هذا العام.

وبلا شك يعد الملف الاقتصادي أحد أبرز القضايا التي حملها أردوغان خلال زيارته، وقد كان حاضرًا بقوة خلال الزيارة السابقة، التي أسفرت عن تلقِّي البنك المركزي التركي عشرة مليارات دولار كجزء من اتفاق مبادلة عملة بقيمة 15 مليار دولار أبرمته تركيا مع قطر، ممَّا قدَّم بعض التمويل الخارجي الذي تشتد الحاجة إليه لتعزيز الاحتياطيات المستنزفة ودعم الليرة التركية.

الحرب في ناغورنو كاراباخ ومغامرة عسكرية جديدة في سوريا

تلعب أنقرة حاليًّا دورًا كبيرًا في تأجيج المعارك الدائرة بين أذربيجان وأرمنيا في إقليم ناغورنو كاراباخ، ويشكل ذلك الوضع أولوية استراتيجية وضرورة باهظة الثمن تعزِّز استراتيجية أردوغان القائمة على استعراض القوة العسكرية في الخارج للحفاظ على التأييد الشعبي في الداخل، بل إنه وصف دعم أذربيجان بأنه جزء من سعي تركيا لنيل “المكانة التي تستحقها في النظام العالمي”، على حد تعبيره.

وفي الوقت الذي تتصدر فيه الطائرات المسيرة التركية الصنع الآن الهجمات الأذربيجانية، لجأ أردوغان إلى جلْب المرتزقة الذين تستخدمهم تركيا في بؤر الصراع في منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة القتال في الإقليم، وهو ما يستلزم تكاليف مالية ضخمة لعملية النقل ودفع رواتب هؤلاء المرتزقة، وتعوِّل أنقرة دومًا على الأموال القطرية في تحمُّل تلك النفقات، في ظل شراكة استراتيجية بين البلدين ترمي إلى زعزعة الاستقرار ودعم الإرهاب في مسعًى لحلم تركيا بإحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة، ورغبة الإمارة الصغيرة في لعب دور أكبر من حجمها في الساحتين الإقليمية والدولية.

ويضاف إلى الرغبة في تمويل التحركات العسكرية في ناغورنو كاراباخ أيضًا تلويح أردوغان بشن غزو عسكري جديد في شمال سوريا تحت ستار المزاعم الواهية التي يستخدمها في كل مرة متحدثًا عن دواعٍ تتصل بالحفاظ على الأمن القومي التركي، وحماية الأشقاء السوريين!

عقوبات أوروبية مرتقبة ضد تركيا على خلفية الوضع في شرق المتوسط

كما تأتى تلك الزيارة بعد أيام قليلة من تلويح الإتحاد الأوروبي “التكتل” بفرض عقوبات على تركيا، إذا ما واصلت استفزازاتها في منطقة شرق المتوسط، وفي ظل انزعاج تركي من مشاركة قطر عبر تحالف يجمع شركة إكسون موبيل النفطية العملاقة لاستكشاف حقول الغاز في المنطقة، وهي خطوة أثارت حفيظة المسؤولين الأتراك، وفقًا لتقارير صحفية.

خلاصة القول.. إن تلك الزيارة حملت سمات مغايرة لسابقاتها، إذ بدت زيارة صامتة، لم تشهد تصريحات تركية أو قطرية حول نتائجها على الأقل خلال الزيارة وحتى الساعات القليلة التي تلت اختتامها بمغادرة أردوغان للدوحة، كما أنها لم تحظَ باهتمام من وسائل الإعلام في البلدين، التي لطالما ركزت خلال السنوات الماضية على طبيعة الشراكة الاستراتيجية بين أنقرة والدوحة، واحتفت بلقاءات أردوغان وتميم، ممَّا يفتح الباب أمام تساؤلات حول الطبيعة الراهنة للعلاقة بين البلدين وقيادتَيْهِمَا، وإلى أي مدًى قد تتحمل الدوحة فاتورة التحركات العسكرية التركية ودعمها للاقتصاد التركي الذي بات على حافة الهاوية.

زر الذهاب إلى الأعلى