تقارير

قضية الأويغور.. تُسقط قناع أردوغان

الارتباك والتناقض بين الأقوال والأفعال والمتاجَرة بالدين واللعب على وتر الاحتياجات الإنسانية سماتٌ أساسية تميِّز سلوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لا يتوانى في أي ظهور إعلامي عن ارتداء عباءة الدين والأخلاق والإنسانية، التي سَرْعان ما يقوم بخلعها، بل ودهسها تحت أقدامه عندما يجدها تقف حائلًا بينه وبين تحقيق مآربه وأهدافه.

ومنذ صعود أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002 سعى لتقديم نفسه كزعيم للمسلمين المضطهدين في العالم والداعم الأكبر لقضاياهم، لكن المتتبِّع لمواقفه يجد أنه نموذج صارخ للنفاق، فأردوغان الذي يدَّعي مناصَرة القضية الفلسطينية يرتبط بعلاقات تعاوُنٍ استراتيجية وطيدة مع إسرائيل، وأردوغان المُرحِّب باللاجئين السوريين في عام 2014، هو ذاته متخِذ قرار طَرْدِهم في مارس 2020 إلى حدود اليونان، وأردوغان الذي اعتبر أن مسلمي الأويغور يتعرضون لإبادة جماعية، لم يخجل من أن يطلق تصريحات من قلب بكين بأن الأويغور يعيشون حياة سعيدة في إقليم شنغيانغ، رغم أن تركيا يجب أن تكون أكثر الدول دفاعًا عن الأويغور، لما يربطها بهم من روابط تاريخية وثقافية.

الخوف والقلق يلاحقان 45 ألف شخص من الأويغور في تركيا

لطالما كانت تركيا ملاذًا لعشرات الآلاف من أقلية الأويغور المسلمة، حيث تعود أصولهم إلى الشعوب التركية (تركستان الشرقية)، ويعتبرون أنفسهم أقرب عرقيًّا وثقافيًّا لأمم آسيا الوسطى. وهم يشكلون نحو 45% من سكان إقليم شنغيانغ (غرب الصين)، في حين تبلغ نسبة الصينيين من عرقية الهان نحو 40%.

وبحسب تقارير أممية ومنظمات حقوقية دولية، تحتجز الصين ما يصل إلى مليون شخص من أقلية الأويغور وأقليات مسلمة أخرى في مراكز “إعادة تأهيل” في شنغيانغ تشبه السجون، إلا أن “بكين” تتهم الدول الغربية

بـ”الإضرار وتشويه سمعة” المراكز، وما تؤدِّيه من عمل في “مكافحة الإرهاب والتشدد”، بحسب الرؤية الصينية.

ووفقًا لمنظمات الأويغور، يعيش نحو 45 ألف من الأويغور في تركيا حاليًّا، منهم ما يُقارب الـ10 آلاف بصفة لاجئ، أما الآخرون فتمَّ منحُهم الإقامة المؤقتة أو الدائمة، أو في بعض الحالات الجنسية التركية.

وبين عامي 2014 و2015، حصل مئات من لاجئي الأويغور الذين عبروا الحدود الصينية بشكل غير قانوني إلى ميانمار وفيتنام وتايلاند وماليزيا، على وثائق سفر تركية من السفارة التركية في كوالالمبور، إلا أن هناك قلقًا وخوفًا متزايدًا بين مجتمع الأويغور في تركيا حاليًّا بسبب تغيُّر موقف أنقرة من الأوضاع في إقليم شنغيانغ، وأيضًا تبنِّيها نهجًا متشددًا ضد الأويغور في المنفى، فمنذ عام 2017 لم تعد مظاهرات وأنشطة الأويغور السياسية داخل تركيا تحصل على التراخيص، كما تم اعتقال عدد من الأويغور.

حكومة أردوغان.. من التنديد بإبادة الأويغور إلى بيع القضية

وخلال حكمه رئيسًا لوزراء تركيا تبنَّى رجب طيب أردوغان خطابًا داعمًا لقضية الأويغور، فعلى سبيل المثال حثَّ أردوغان في عام 2009 “بكين” على وضع حدٍّ لما سمَّاه بـ”التنكيل بالأويغور المسلمين”، منددًا بـ”فظاعات”، وواصفًا ما يحدث لهم بأنه نوع من “الإبادة الجماعية”، معتبرًا أن أنقرة لا يمكنها السكوت عمَّا يجري، سواء كانوا أتراكًا أو أويغورًا أو صينيين.

وبعد عقد تقريبًا على ذلك الموقف الذي حدَّد من خلاله الخطوط الرئيسية للسياسة التركية تُجاه تلك القضية التي اعتبرها مسألة أخلاقية وإنسانية، انقلب أردوغان الرئيس على ذلك الموقف، إذ صرَّح من قلب العاصمة الصينية بكين بأن المقيمين من مختلف الإثنيات- من بينهم الأويغور- يعيشون بسعادة في إقليم شنغيانغ، مشددًا على أن تركيا لن تسمح لأحد بدق إسفين في علاقاتها مع الصين وأن أنقرة مستعدة لتعزيز الثقة السياسية المتبادلة والتعاون الأمني مع بكين للتصدي للتطرف.

كما قلَّل أردوغان من أهمية قضية الأويغور في وسائل الإعلام التركية التي تهيمن عليها الدولة، والتي أصبحت تنقل الآن قصصًا قليلة جدًّا عن معاناة الأويغور، وعلى المستوى الرسمي رفضت الحكومة التركية في أكتوبر الماضي الانضمام إلى 23 دولة في بيان مشترك لدعوة الصين إلى إنهاء الانتهاكات ضد مسلمي الأويغور.

إن التحوُّل في موقف أردوغان إلى النقيض ليس بجديد على سلوكه البراجماتي الذي لا يتقيد بأي اعتبارات دينية أو إنسانية أو أخلاقية، فهذه الاعتبارات يوظِّفها فقط في خطابه من أجل استمالة الجماهير.

ويمكن رصد جملة من الأسباب التي تقف خلف ذلك التحوُّل الكبير تجاه قضية الأويغور، وهي كالتالي:

 أولًا: الوضع الاقتصادي المتردِّي في تركيا والرِّهان على استثمارات الصين

دفع تدهور الأوضاع الاقتصادية التركية وتصاعد الخلافات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، إلى اتجاه تركيا نحو الاستثمار في صداقات أخرى وخاصة مع الصين، حيث ارتفع حجم التجارة بين البلدين من 1.1 مليار دولار في عام 2001 إلى 23.6 مليار دولار في عام 2018، وفقًا لبيانات وزارة الخارجية التركية، ومن المتوقع أن يبلغ 100 مليار دولار خلال العام الحالي.

كما وسَّعت الصين علاقاتها الاقتصادية مع تركيا من خلال مشاريع الاستثمار المختلفة في البنية التحتية، مثل السكك الحديدية عالية السرعة والجسور ومحطات الطاقة النووية، وبلا شك فإن هذه الاستثمارات تجعل تركيا أكثر اعتمادًا على الأموال الصينية تدريجيًّا.

ويَزيد النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين في تركيا من مخاوف المسؤولين الأتراك من اتخاذ أي موقف قوي حتى مع تصعيد الصين حملتها ضد الأويغور في شنغيانغ، لأن ذلك الموقف سيكون مكلفًا للغاية بالنسبة للاقتصاد التركي.

وفي هذا الإطار، يرى سييت تامورك، رئيس الجمعية الوطنية لتركستان الشرقية (مقرُّها في مدينة قيصري التركية) أن استسلام تركيا بشأن قضية الأويغور يرجع إلى الاحتياجات الجيوسياسية والاستراتيجية التي يغذِّيها الغموض السياسي والاقتصادي بعد محاولة الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016، والتوتُّر المتصاعد الذي يسود العلاقات بين أنقرة وواشنطن.

كما اتهم البرلماني التركي المعارض، عمر فاروق جرجرلي أوغلو، حكومة حزب العدالة والتنمية وحليفها حزب الحركة القومية بأنهما باعا حقوق الأويغور ذوي الأصول التركية مقابل صفقة اقتصادية ضخمة مع الصين تقدَّر بنحو 50 مليار دولار.

ثانيًا: خيبة أمل تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي وتبنِّي سياسة التوجُّه شرقًا

في ظل الأفق المسدود لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، أظهرت القيادة التركية اهتمامًا متزايدًا بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين، وكانت أنقرة قد حصلت على صفة “شريك في حوار المنظمة” خلال قمة المجموعة التي عُقدت في بكين عام 2012، كما تولت رئاسة نادي الطاقة لمنظمة شنغهاي خلال عام 2017، ممَّا جعل تركيا أول دولة ترأس ناديًا في المنظمة دون حصولها على العضوية الكاملة.

واتصالًا بذلك الجانب يرى مصطفى أكيول، الباحث في معهد كاتو، بواشنطن أن “صمت أنقرة تمامًا بشأن ما يجري مع الأويغور، يعود إلى تصوُّر القيادة التركية المناهض للعالم الغربى، وارتباطها بالقوى غير الغربية وفي مقدمتها روسيا والصين”.

ثالثًا: التعاون مع التحقيقات الصينية من أجل غسل سمعة تركيا كملاذ للإرهابيين

تُلزم الاتفاقيات الثنائية مع وزارة العدل الصينية، السلطات التركية بالتحقيق في الشكاوى التي تقدِّمها الصين ضد الأويغور الموجودين في تركيا، وقد قدَّمت وزارة الأمن العام الصينية إلى أنقرة وثائق صادرة عن المخابرات الصينية كجزء من طلبات التسليم تُشير إلى أن هؤلاء الأشخاص مشتَبَهٌ بأنهم إرهابيون.

وفي حين سافر عدة مئات من الأويغور إلى سوريا للانضمام إلى الجماعات الإرهابية الأويغورية، تُركز طلبات التسليم على نقطة الهوية الأويغورية فقط. وقد قضى عشرات من الأويغور أشهرًا في مراكز الاعتقال والترحيل في أنحاء تركيا بدون تهمة نتيجة المطالب القضائية الصينية، التي تنسجم مع رغبة أنقرة في تحسين صورتها أمام العالم فيما يتصل بالتعاون في مكافحة الإرهاب، وغسل سمعتها كحاضنة للإرهابيين وممر آمن لعبورهم، بعدما سهَّلت للإرهابيين الأجانب الطريق إلى سوريا خلال الحرب الأهلية السورية.

تركيا تسلم الأويغور إلى الصين عبر طرف ثالث

وعلى الرغم من أن تركيا تتبنَّى في العلن سياسة عدم ترحيل الأويغور إلى الصين، نظرًا لمخاوف من تعرض هؤلاء الأفراد إلى خطر الاحتجاز أو الموت، كشف تقرير لصحيفة “صنداي تليجراف” البريطانية عن أدلة تفيد أن تركيا قامت بترحيل الأويغور إلى دول ثالثة، من بينها طاجكستان، لتتمكن الصين من استعادتهم من خلالها.

ويقول إبراهيم إرجين، المحامي التركي المتخصص في قضايا الترحيل، إن تحسُّن العلاقات بين الصين وتركيا، كان خسارة للأويغور، لافتًا إلى أن الإحاطات الاستخباراتية المرسلة كجزء من طلبات التسليم غالبًا ما تحتوي على شهادات ملفَّقة، فعلى سبيل المثال استندت واحدة من تلك الإحاطات إلى خمس شهادات، لكن ثلاثة من الشهود المزعومين أُعدموا في المعسكرات الصينية.

وبحسب إرجين، تتلقى الحكومة التركية سيلًا من طلبات التسليم وأوامر التوقيف من الصين، بعضها يأتي مباشرة من بكين، والبعض الآخر من خلال منظمة الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول”، ويشتبه بأن طلبات أخرى تمرِّرها الصين عبر دول ثالثة نيابةً عنها.

وبذلك تُمثل قضية مسلمي الأويغور برهانًا جديدًا على المتاجرات الانتهازية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وادعاءاته الأخلاقية والإنسانية في الدفاع عن حقوق المستضعفين حول العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى