في خطوة ذات تأثيرات استراتيجية واسعة على مسار الصراع الليبي، أصدر مجلس النواب الليبي مساء الإثنين الموافق 13 يوليو 2020م بيانًا يُخوِّل للقوات المسلحة المصرية التدخُّلَ لحماية الأمن القومي الليبي والمصري، إذا دعت الحاجة لذلك.
دلالات البيان:
حمل البيان العديد من الدلالات الكاشفة لتطورات الوضع على الأرض، وتحولات المواقف الداخلية والخارجية، ومن أهم هذه الدلالات ما يلي:
1- صدر البيان بعد ساعات من إعلان تركيا استعدادها لعملية عسكرية في مدينتَي سرت والجفرة، ممَّا يعني أنه جاء ردًّا واضحًا وحاسمًا من جانب المجلس الوحيد المنتخب في ليبيا والذي يمتلك الشرعية الشعبية على المخططات التركية.
2- وصف البيان التدخل التركي في ليبيا بـ”المحتل الغازي”، وهو تأكيد على عدم الاعتراف بالاتفاقية الأمنية الموقَّعة بين ما تسمى بحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج وأنقرة.
3- أكد أن الاحتلال التركي لليبيا يُمثل تهديدًا وخطرًا على دول الجوار وبخاصة مصر، ممَّا يجعل لها الحق في الدفاع عن نفسها.
4- تسمح تلك الدعوة لمصر وقواتها المسلحة بحرية تقييم الموقف، وَفْقَ تقديراتها، كما أن الدعوة لم تشترط قيام ميليشيات الوفاق والعناصر التركية المسلحة القيام بعملية عسكرية، كي تتدخَّل القوات المسلحة المصرية، وإنما أتاحت لها إمكانية اتخاذ إجراءات استباقية لمجرد الشعور بخطر وشيك.
5- تأكيد البيان أهمية الحفاظ على ثروات ومقدَّرات الشعب الليبي من الأطماع التركية، وضرورة ضمان التوزيع العادل للعائدات النفطية على الشعب الليبي، ومنع العبث بها لصالح ميليشيات الوفاق المسلحة الخارجة عن القانون.
التحركات الميدانية:
يعكس هذا البيان أن مجلس النواب الليبي تكوَّنت لديه قناعة بأن تحركات تركيا وميليشيات الوفاق تتجه نحو الاستمرار في التصعيد العسكري، خاصة في ظل التطورات الحاصلة على أرض الواقع، ومنها:
أولًا- على المستوى العسكري:
– تقوم كل من تركيا وما تسمى بحكومة الوفاق بحشد المزيد من الميليشيات المسلحة والمرتزقة وتدريبهم استعدادًا لعملية عسكرية وشيكة.
– تستعد تركيا لتنفيذ مناورة بحرية قبالة السواحل الليبية خلال الأيام المقبلة، وذلك عقب قيام مصر بإجراء مناورة عسكرية غرب البلاد، حملت اسم “حسم 2020”.
ثانيًا- على المستوى السياسي:
- أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، قبيل ساعات من صدور بيان مجلس النواب الليبي أن الإعلان عن وقف إطلاق النار في ليبيا الآن، وعلى امتداد خطوط القتال الحالية لن يكون في مصلحة حلفائنا “حكومة الوفاق الوطني الليبية”، متابعًا بأنه لا بد من انسحاب قوات المشير خليفة حفتر من مدينة سرت قبل موافقتها على وقف إطلاق النار والجلوس على طاولة المفاوضات.
وأضاف أوغلو في مقابلة مع قناة (تي آر تي) الحكومية أن قوات الوفاق لديها تحضيرات لاستعادة سرت.
وتُظهر هذه التصريحات أن الوضع مُرشح للتصعيد، خاصة أن “سرت” تُعد ضمن الخط الأحمر الذي وضعته مصر وأكدت أن تجاوُزَه قد يضطرُّها إلى التدخل عسكريًّا لحماية أمنها القومي والحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الليبية.
- قيام المستشار عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبي، بعدد من الزيارات الرسمية، شملت إيطاليا وروسيا ومصر، إضافةً إلى جنيف، وذلك من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية، وفقًا لإعلان القاهرة الذي جاء متوافقًا مع مخرجات مؤتمر برلين.
كما التقى ستيفاني وليامز، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة وطلب منها استمرار بعثة الأمم المتحدة في عملها والتأكيد على وقف إطلاق النار.
وتستهدف هذه الزيارات أيضًا حشد المجتمع الدولي من أجل الضغط على الجانب التركي لوقف تصعيده العسكري، وإجبار حكومة الوفاق على الجلوس على طاولة المفاوضات.
وأكد المستشار عقيلة صالح أن إعلان القاهرة هو الحل الوحيد، لأنه لا يوجد به أي تهميش ولا خسارة لأحد، ويَلقى تأييدًا دوليًّا ومحليًّا واسعًا، ويمكن قبول مبادرات لدعمه. إلا أن الجانب التركي، ومن خلفه حكومة فايز السراج، يرفض هذا الأساس.
- بدوره أكد الاتحاد الأوروبي استعداده لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لوقف الانتهاكات والتحركات التركية في شرق المتوسط، والتي من شأنها زيادة التوتر بين أنقرة والتكتل الأوروبي، داعيًا أنقرة إلى ضرورة احترام القِيَم والمصالح الأوروبية من أجْلِ علاقاتٍ أفضلَ، واحترام حظر السلاح المفروض على ليبيا، والمساهمة في دفع جهود إحلال السلام في المنطقة.
- روسيًّا.. أكَّد القائم بأعمال رئيس البعثة الدبلوماسية الروسية لدى ليبيا أن بلاده تدعو للحفاظ على سيادة ليبيا ووحدتها، وحل جميع الخلافات بالوسائل الدبلوماسية، مشيرًا إلى دعم روسيا مبادرة رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح.
إلا أن الموقف الروسي دائمًا ما يتسم بالغموض، خاصة أنه يحتفظ بعلاقات ومباحثات خلفية وتفاهمات مع الجانب التركي في ملفات أخرى، من أبرزها الملف السوري، ولذلك فإن الموقف النهائي ستحدده المكاسب الروسية من هذه الأزمة.
- الأمر نفسه ينطبق على الموقف الأمريكي، حيث تُؤيد الولايات المتحدة رسميًّا التوصُّلَ إلى حل سياسي للأزمة، وترفض تدخل دول خارجية فيها، إلا أنها في الوقت ذاته لا تُمارس الضغط الكافي على تركيا، الشريك في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لوقف تدخلها العسكري في ليبيا.
يتضح ممَّا سبق أن تطورات الوضع في ليبيا قد تتجه إلى أحد خيارين:
1- التصعيد العسكري، والذي يُعد الخيار الأقرب، وَفْقَ المعطيات الراهنة، ويُعزِّزه مجموعة من المؤشرات، منها:
– بيان مجلس النواب الليبي عَكَسَ استشعارًا بالخطر وكَشَفَ عن أن التحركات الميدانية من جانب الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق وتركيا عازمة على المُضِيِّ قُدُمًا في القيام بعمل عسكري من أجل السيطرة على مدينة سرت التي تُعد خطًّا أحمرَ بالنسبة للقاهرة، وقد أكد ذلك تصريحات وزير الخارجية التركي تشاووش أوغلو.
– يُعد هذا البيان مَطْلَبًا ليبيًّا من المجلس الشرعي الوحيد المنتخب في ليبيا لتدخُّل القوات المسلحة المصرية، وهذا المطلب كان ضروريًّا للرئيس السيسي قبل أي تدخل محتمل.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التدخل المصري، إذا حدث، فمن المرجح ألا يكون حربًا عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، وإنما على الأرجح سيتخذ شكل عمليات عسكرية نوعية، تهدف إلى تثبيت الوضع على الأرض عند الخط الفاصل، وضمان عدم تخطِّيه من جانب الميليشيات التابعة لأنقرة والسراج.
– تركيا لن تُوافق على الحل السياسي وَفْقَ الوضع الراهن، لأنها ستخسر هدفها الرئيسي وهو الاستفادة من الثروات في منطقة الهلال النفطي الليبية، والتي تُعد مدينة سرت بوابة الوصول إليها. ولذلك تسعى أنقرة إلى الحل العسكري من أجل السيطرة على هذه المدينة، أو تحقيق انتصارات ميدانية ترفع من سقفها التفاوُضي على أقل تقدير، خاصة أن المكاسب النفطية ضرورية جدًّا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يُعاني من تراجع اقتصادي في بلاده أثَّر في شعبيته ومكانة حزبه الانتخابية، فضلًا عن أن العائدات النفطية ستُوفِّر السيولة المالية اللازمة للإنفاق على المرتزقة والميليشيات المسلحة التي تستقدمها تركيا إلى ليبيا، والتي تأثرت مؤخرًا نتيجة المشكلات الاقتصادية التركية، ممَّا جعل الأخيرة تستعين بقطر للمساهمة في هذا الاتجاه.
– من الأمور التي تُعزِّز التصعيد العسكري في ليبيا أيضًا، طريقة تفكير أردوغان، والتي تطغى عليها العقلية العثمانية الاستعمارية.
2- أمَّا الخيار الآخر فهو مرهون بمدى توفُّر الإرادة السياسية والموقف الموحَّد للمجتمع الدولي تُجاه الأزمة الليبية، ويتمثل في قيام المجتمع الدولي بالضغط على تركيا من أجل وقف التصعيد العسكري، وإقناع حكومة السراج بالجلوس على طاولة المفاوضات السياسية، خاصة أن زيادة التوتر في ليبيا سوف تؤثر على الدول المتوسطية الأوروبية، كما أن من مصلحة المجتمع الدولي تهدئة الوضع الليبي وتهيئة الأجواء لإعادة إنتاج النفط.
إلا أن فرص تحقيق هذا الخيار تظل ضعيفة، خاصة أن بيان مجلس النواب الليبي صدر عقب الجولات والمباحثات التي قام بها رئيس مجلس النواب الليبي في عدد من العواصم الغربية، مما يُدلِّل على أنه لم يحصل على الضمانات الكافية لمنْع انزلاق الوضع نحو المواجهة العسكرية.