تقارير

حركة أنتيفا تثير إشكالية تصنيف الإرهاب المحلي في الولايات المتحدة

بَعْدَ خَمْسِ ليالٍ من الاحتجاجات التي اجتاحتِ الولايات المتحدة، على عنفِ الشرطةِ ضدَّ الأمريكيين ذَوِي الأصلِ الإفريقيِّ بعد حادثِ مقتلِ جورج فلويد على يدِ شرطيٍّ أبيضَ خلالَ محاولة اعتقاله في مينيابوليس بولاية مينيسوتا، وإلقاءِ الرئيسِ الأمريكيِّ دونالد ترامب باللَّوْم على حركة “أنتيفا-Antifa” اليسارية المتطرفة المناهضة للفاشيَّة بشأن أعمال الشَّغَبِ والسَّلبِ والنَّهْبِ  والفوضى والتخريبِ، جاء إعلانُهُ عَزْمَهُ تصنيفَ الحركةِ منظَّمةً إرهابيَّةً، غيرَ أنَّ تلك الخطوةَ تصطدمُ بتحدِّيَيْن رَئِيسِيَّيْنِ وهما عدمُ وجود قانونٍ يسمحُ بتصنيفِ الحركات المحلية كمنظماتٍ إرهابيةٍ، أمَّا التحدِّي الآخَرُ فيتَّصلُ بطبيعة الحركة التى ليس لديها هيكلٌ تنظيميٌّ أو قيادةٌ معلومةٌ.

جذورُ الحركةِ وسِماتُ أعضائها وآلياتُ عملِها

تعود أصول حركة “أنتيفا-Antifa” إلى المعاركِ ضدَّ الفاشِيِّين الأوروبيِّين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بينما ظهرتِ الحركةُ بشكلها الحديث في الولايات المتحدة في الثمانينيات عبرَ مجموعةٍ تسمَّى “العمل المناهض للعنصرية”، وقد واجه أعضاؤه حليقو الرؤوس، النازيِّين الجددَ في الغرب الأوسط الأمريكيِّ وأماكنَ أخرى وبحلول أوائلِ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت حركة أنتيفا خامدةً في الغالب، واستمرَّ ذلك حتى وصولِ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وصعود التيار اليمينيِّ.

وتعارِضُ الحركةُ كُلًّا من النازيِّين الجددَ والفاشيَّةَ الجديدةَ والعنصريَّةَ البيضاءَ وحركةَ “اليمين البديل-Alt-right”، ومثل الحركات الاحتجاجية الأخرى التي يعود تاريخُها إلى الأناركيين الألمان في حِقبة الحرب الباردة، غالبًا ما يرتدي أنصار أنتيفا اللونَ الأسودَ، وأحيانًا يغطُّون وجوههم بالأقنعة أو الخوذات حتى لا يتمَّ التعرُّفُ عليهم من قِبَلِ الجماعات الأخرى أو الشرطة، وهو تكتيكٌ مخيفٌ -يُعرفُ باسم “الكتلة السوداء”- والذي يسمح لهم أيضًا بالتحرُّك معًا كمجموعةٍ مجهولةٍ. وفي بعض تظاهراتهم، حَمَلَ ناشطو الحركة رذاذ الفلفل وسكاكينَ وحجارةً وسِلَالًا.

ويسعى أعضاء الحركة إلى إيقاف ما يرونه مجموعاتٍ فاشيةً وعنصريَّةً ويمينيَّةً متطرِّفةً من الحصول على منصةٍ للترويجِ لآرائهم، بحجة أن المظاهراتِ العامَّةَ لهذه الأفكارِ تؤدي إلى استهدافِ الأشخاصِ المهمَّشين، بما في ذلك الأقلياتُ العرقيَّةُ والنساءُ.

وتلجأ الحركة إلى تعطيل فاعليات اليمين البديل عَبْرَ مجموعةٍ متنوعةٍ من التكتيكات، بما في ذلك الصُّراخُ والهُتافاتُ وتشكيلُ السلاسلِ البشريةِ لمنعِ المتظاهرين اليمينيِّين، فضلًا عن مراقبةِ النشطاء اليمينيِّين على وسائل التواصل الاجتماعيِّ.

كما يقومون بنشر معلوماتٍ شخصيةٍ عن خصومهم عَبْرَ الإنترنت.

ويقول مارك براي، المحاضرُ في التاريخ بكلية دارتموث ومؤلفُ كتابِ “أنتيفا: مكافحةُ العنصريةِ.. الكُتَيِّبُ الفاشيُّ” إن العديد من أعضاء الحركة يشاركون في أشكالٍ أكثرَ سلميةً من التنظيم المجتمعيِّ، لكنهم يعتقدون أن استخدامَ العنفِ له ما يبرِّره، إذ يقولون إنه إذا سُمِحَ للجماعات العنصرية أو الفاشية بالعمل والتنظيم بحريَّةٍ، فسوف يؤدي ذلك حتمًا إلى العنف ضدَّ المجتمعاتِ المهمَّشة.

ومن المستحيلِ معرفةُ عدد الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم أعضاء في حركة أنتيفا، حيث إنها حركةٌ سريَّةٌ، بدون قادةٍ رسميِّين ومنظمةٌ في خلايا محليةٍ مستقلةٍ، وهى واحدةٌ فقط في كوكبةٍ من الحركات الناشطة التي اجتمعت في السنوات القليلة الماضية لمعارَضَة أقصى اليمين.

ويقوم أعضاء الحركة بحملةٍ ضدَّ الأفعالِ التي يَرَوْن أنها استبداديةٌ أو تنطوي على عنصريةٍ أو كراهيةٍ للأجانبِ، وعلى الرغم من أنهم ينتمون إلى اليَسار فإنهم يعملون أحيانًا مع شبكاتٍ لنشطاءَ محليِّين آخرين تجمَّعوا حولَ نفس القضايا، مثل حركة “احتلُّوا وول ستريت”.

تَصَاعُدٌ في دَوْرِ الحركةِ مع وصولِ ترامب إلى البيت الأبيض

وبدأ المزيدُ من الأشخاص في الانضمامِ إلى حركة أنتيفا في الولايات المتحدة بعد انتخاب الرئيس ترامب عام 2016 لمواجهة التهديد الذي يشكِّلُه ما يسمَّى “اليمين البديل”.

وإحدى المجموعاتِ الأولى في الولايات المتحدة التي استخدمت الاسم أنتيفا كانت مجموعة “روز سيتي أنتيفا Rose City Antifa”، التي تأسست في عام 2007 في بورتلاند ولديها عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصلِ الاجتماعيِّ، حيثُ يتشارَكون المقالاتِ الإخباريةَ وتسعى في بعض الأحيانِ إلى الكشفِ عن المعلومات الشخصيةِ لرموز اليمين.

واكتسبتْ حركةُ أنتيفا مزيدًا من التأثير في عام 2017 بعد سلسلةٍ من الأحداث التي سلطتِ الضَّوءَ على المتظاهرين المناهضين للفاشيَّة، بما في ذلك إلغاءُ خطابٍ للناشط اليمينيِّ ميلو يانوبولوس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، والاحتجاجاتُ في شارلوتسفيل بفيرجينيا التى تحولتْ إلى أحداثِ عنفٍ.

اتهاماتٌ فيدراليَّةٌ واسعةٌ للحركة باستغلال حادث مينيابوليس لنشر الفوضى

في البداية، كانت الاحتجاجاتُ في مينيابوليس سلميَّةً عندما خرج المواطنون إلى الشوارع، اعتراضًا على وحشيةِ الشرطة ضدَّ الأمريكيين من أصلٍ إفريقيٍّ، والتى كان آخِرها مقتل جورج فلويد.

ومع تنامي الغضب، لم يتَّضِحْ سببُ تحولِ الاحتجاجاتِ إلى أعمالِ شغبٍ، ومع ذلك في الأيام الأخيرة، قدَّم المسؤولون الفيدراليُّون ومسؤولو الولاية ادعاءاتٍ، دونَ تقديمِ أيِّ دليلٍ. وأطلق الرئيسُ الأمريكيُّ دونالد ترامب تغريدةً تعليقًا على موجة العنف قائلًا: “إنها أنتيفا واليسارُ الراديكاليُّ. لا تُلْقِ اللَّوْمَ على الآخَرين!”.

كما اتهم وزيرُ العدلِ الأمريكيِّ وليام بار أنتيفا و”محرضين” آخرين باختطاف الاحتجاجات التي تجتاح الولاياتِ المتحدةَ، ووصفَه بأنه “إرهابٌ محليٌّ” سيتمُّ التعاملُ معه على هذا الأساس، بينما أبدى وزير الخارجية الأمريكيُّ مايك بومبيو نبرةً أكثرَ حذرًا. وفي ظهوره على قناة “فوكس نيوز”، وصف المتظاهرين بأنهم “يشبِهون أنتيفا”، لكنه شدَّد على أنه يجب التحرِّي بدقَّة حولَ كيفَ اتخذتِ الاحتجاجاتُ السلميَّةُ مَنْحًى شريرًا.

وأكد المدَّعي العامُّ في ولاية مينيسوتا كيث إليسون أن لدَيْه أدلةً على تورُّط أشخاصٍ من خارجِ مينيابوليس في أعمال العنف. في وقتٍ ذكرتْ فيه السُّلطاتُ في ولاية مينيسوتا أن أشخاصًا من خارج الولاية يمثِّلون نَحْوَ 20٪ من المعتقلين على خلفية أعمال العنف.

ومع تفاقُمِ الصِّدامِ وأعمالِ الشغب، طالب الرئيسُ ترامب، بنشرِ الحرسِ الوطنيِّ في شتَّى مدنِ الولاياتِ المتحدةِ، ودعا حكامَ الولايات الديمقراطيِّين إلى التحرك ضدَّ حركة “أنتيفا”، معلنًا أن الولاياتِ المتحدةَ ستعلنُ أنتيفا منظمةً إرهابيَّةً.

غيابُ القيادةِ والهيكلِ التنظيميِّ والفراغُ التشريعيُّ تحدِّيَان أمامَ تصنيفِها حركةً إرهابيَّةً

وتشير صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيةُ إلى أن حركة أنتيفا ليست منظمةً، فليس لديها قائدٌ أو هيكلٌ مركزيٌّ محددٌ، فهي حركة غامضة تشملُ أشخاصًا يشتركون في تكتيكاتٍ وأهدافِ احتجاجٍ مشتركةٍ.

والأهمُّ من ذلك، حتى لو كانت الحركةُ منظمةً ذاتَ وجودٍ حقيقيٍّ، فإن القوانين التي تسمح للحكومة الفيدراليَّة بتصنيف الكِيَاناتِ إرهابيةً وفرضِ عقوباتٍ عليها تقتصر على الجماعات الأجنبية، فلا يوجدُ قانونٌ يتعلَّق بالإرهاب المحليِّ، على الرغم من المقترحات الدوريَّةِ لسَنِّ قانونٍ.

وتقول ماري مكورد، الرئيسةُ السابقةُ لقسم الأمن القوميِّ بوزارة العدلِ الأمريكية إنه “لا توجد سلطةٌ بموجب القانون للقيام بذلك، وإذا تم تمريرُ مثلِ هذا القانون، فسيواجِه تحدياتٍ تتَّصِلُ بالتعديلِ الأوَّلِ للدستورِ، ولكنْ في الوقت الحاليِّ، فإن السلطة الوحيدة للتصنيف تتعلق بالمنظمات الإرهابية الأجنبية”.

الأمرُ ذاتُه أكَّده كارل توبياس، أستاذُ القانون في جامعة ريتشموند بقوله: “لا يوجد قانونٌ خاصٌّ بالإرهاب للمجموعات المحلية، ولا توجد سلطة لتسمِيَة أيِّ منظَّمَةٍ محليَّةٍ منظمةً إرهابيةً في القانون الأمريكيِّ”.

فعلى سبيل المثال حين القيامِ بتحقيقاتٍ تتصلُ بقضايا إرهابٍ محليٍّ ترتكبُها المنظماتُ النازيَّةُ الجديدةُ، يتعاملُ مكتبُ التحقيقاتِ الفيدراليُّ “إف.بي.آي” معها كمنظماتٍ إجراميَّةٍ.

وفي عام 2019، قدَّم أعضاءُ مجلسِ الشُّيوخِ الجمهوريُّون قرارًا غَيْرَ مُلْزِمٍ يهدفُ إلى إعلان أعضاء حركة أنتيفا أنهم “إرهابيُّون محليُّون”، وسَبَقَ أنْ أبدى ترامبُ في يوليو من العامِ ذاتِه عَزْمَهُ تصنيفَ الحركةِ كجماعةٍ إرهابيَّةٍ.

زر الذهاب إلى الأعلى