تقارير

الجريمة في زمن كورونا.. من أمل التراجع إلى التكيّف واستعادة النشاط

غيّر انتشار فيروس كورونا كثيراً من الأنشطة بطريقة دراماتيكية، ومنها الأنشطة الإجرامية، فبعد هدوءٍ مُؤقّت للعنف المميت في بعض البلدان، هناك دلائلُ على تَصاعده مرة أخرى، وفي الوقت نفسه تقوم الجماعات الإجرامية عبر الإنترنت بعملياتها مستغلةً تأثيرات الفيروس، مما يُمكّنها من جعل العالم مكاناً أكثر خطورة، لقد وجدتْ تلك الجماعاتُ في الوباء فرصةً فريدة لتحقيق المكاسب، عبر التكيّف مع الأوضاع الجديدة التي فرضها الوباء في مختلف دول العالم.

الإنتربول يُطلق صيحةَ إنذار مبكّرة حول نشاط المنظمات الإجرامية في ظلّ الوباء

مع انتشار كورونا بجميع أنحاء العالم، أصدرت منظمة الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول” تحذيراتها، وبعثت بتقرير حول الفيروس في بداية الشهر الماضي، عن التهديدات المتعلقة بالجرائم والشرطة إلى أعضائها الـ194، وعرض التقرير المستجداتِ الخاصةَ بالجرائم المرتبطة بالوباء لمساعدة أجهزة إنفاذ القانون، موضحاً الصعوبات التي تُواجه الأجهزةَ الشرطية، والإجراءات المثالية اللازمة للحدّ من تلك الجرائم، وعرض التقرير طرقاً مبتكرةً لاستخدام التكنولوجيا، من أجل التكيّف مع التحديات التي أنتجها الفيروس، مثل استخدام الطائرات المسيّرة “الدرونز – Drones”، وتطوّر استخدام البيانات البيومترية والذكاء الاصطناعي.

وعرض التقرير التهديدات المتزايدة المتعلقة بفيروس كورونا، وتمثلت في الآتي:

زيادة ملحوظة في التهديدات السيبرانية، بما فيها البرمجيات الخبيثة وبرامج الفدية.

تزايد استهداف مُقدّمي الخدمات الصحية ومنافذ المنتجات الأساسية بالبنية التحتية الحيوية.

التجارة الاحتيالية والمزيّفة في مُعدّات الحماية الشخصية والمستحضرات الصيدلانية المضادّة للفيروسات.

زيادة تجارة المخدرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات المُشفّرة و”الإنترنت المظلم – The Dark Web”.

تراجع الجرائم التقليدية.. وتزايد مُعدّلات الجريمة الإلكترونية

شَهِدت العديدُ من البلدان بالفعل انخفاضاً في بعض أنواع الجرائم، وزيادات في أنواع أخرى، بعد فترة وجيزة من فرض التباعد الاجتماعي، وحالات الإغلاق لإبطاء انتشار الفيروس، ففي معظم أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية مثلاً، انخفضت نِسَبُ جرائم القتل والاعتداءات العنيفة، حيث بقي الناس في منازلهم، لكن من ناحيةٍ أخرى، ارتفعت معدّلات جرائم العنف المنزلي والعنف الجنسي المُبلّغ عنها، وذلك كما هو متوقّع.

ويقول تيموثي أكيرز، نائب رئيس جامعة مورجان الحكومية في بريطانيا، إن “الوضع الطبيعي الجديد يجعل من الصعب على المحتالين العثورُ على أشخاص يهزمونهم ويسرقونهم”.

سَجّلت بعضُ أكثر دول العالم عُنفاً انخفاضاتٍ كبيرةً في الجرائم، فقد شهدت المدنُ الأمريكية انخفاضات مذهلة في مُعدّلات القتل والسرقة والاغتصاب، فقد سَجّلت مدينة سانت لويس بولاية ميسوري 194 جريمة قتل في العام الماضي، وحتى 24 أبريل الماضي، لم تُسجّل سوى 45 حالة، وتراجعت الجريمة أيضاً في أتلانتا، حيث تقوم الشرطة عادةً بمعالجة 100 إلى 150 تقريراً عن الجريمة في شهر أبريل، ووفقاً لتقارير إخبارية فقد تمت معالجة 47 تقريراً فقط هذا العام.

وفي أمثلة من الدول الأخرى، شهدت السلفادور التي تُصَنّف تقليدياً من بين الدول الأكثر خطورة، انخفاضاً في جرائم القتل من 114 في فبراير من هذا العام، إلى 65 في مارس، وفي جنوب أفريقيا سُجِّلت 94 جريمة قتل فقط في الأسابيع القليلة الأولى من الإغلاق، مقارنةً بـ 326 حالة خلال نفس الفترة من العام الماضي.

ويُمكن الاستنتاج – في ضوء هذه الأرقام – بأن الجرائم تَسير في ناحيتين مختلفتين، فالجرائم التي لها علاقة باحتكاك البشر أو عدم وجودهم في مكانٍ ما تَتراجع، مثل القتل وعمليات السطو المُسلّح على المنازل، في حين تزداد جرائم أخرى مثل الاحتيال عبر الإنترنت وسرقة المصانع أو أماكن العمل التي باتت فارغة.

وقد أصدرت “GI-TOC” Global Initiative – A Network to Counter Networks، وهي شبكة شهيرة مقرّها جنيف، وتضمّ أكثر من 500 خبير في الجريمة المنظمة، تقريراً بعنوان “الجريمة والعَدوى: تأثير الجائحة على الجريمة المنظمة”، قَدّم أمثلةً مختلفة من جميع أنحاء العالم، حول كيفية تعامل الجريمة المنظمة مع كابوس كورونا، واستغلاله في نهاية المطاف.

وفي سويسرا – وهي واحدة من أكثر الدول أماناً في العالم – أفاد التقرير بوجود مجموعاتٍ إجرامية تَتطلّع إلى نهب الممتلكات، بادّعاء أنهم من وكالات الدولة الرسمية، طالبين السماح لهم بدخول العقارات بهدف تعقيمها من الفيروس، كما قام التجار في الصين وجمهورية لاوس، بتسويقِ منتجاتٍ مُصَنّعة من قرون وحيد القرن، بزعم أنها علاجات للفيروس، بحسب مجلة “فوربس” الأمريكية.

وفي ريو دي جانيرو، عُثِرَ على منشوراتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي، تَدّعي أن الجماعات الإجرامية قد بدأت بفرض حظرِ تَجوّلٍ ليلي، ما يُشير إلى أن الجماعات الإجرامية تَسعى لاستخدام الوباء وسيلةً لبناء شرعية لها، وهو ما جَسّده شعارٌ خُطّ على جِدار في أحد الأحياء الفقيرة بالمدينة، وجاء فيه: “إذا لم تفعل الحكومة الشيء الصحيح، فإن الجريمة المُنظّمة ستفعل”، كما أمر قادة عصابات “القيادة الحمراء” الذين يسيطرون على أحد الأحياء الفقيرة، السكانَ، بالبقاء في منازلهم، وتم تداول مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع، يُظهِر مُكبّر صوت يبث التنبيه: “أيّ شخصٍ يُضبَط وهو يَتجوّل في الخارج سَيُعاقب”، وفقاً لصحيفة “جارديان” البريطانية.

وفي هذه البلدان وغيرها، تَقوم مجموعاتُ الجريمة وليس الشرطة، بفرض أوامر الإغلاق في المستوطنات العشوائية والأحياء الفقيرة، كما تُعزّز الفصائلُ الإجرامية والميليشيات والمافيات، قوّتها الناعمة بشكل ملائم في هذه العملية، فتُقدّم بعضُها الخدمات الأساسية، مثل السّلع المعلّبة والمواد الغذائية الأخرى للفقراء والعجزة وكبار السنّ، مما يزيد من جاذبيتهم، في وقتٍ تفتقر فيه القيادة الحكومية إلى تلك الجاذبية.

نشاط ملحوظ لتجارة المخدّرات عبر الإنترنت المُظلِم

رغم الإجراءات المفروضة حول العالم لمكافحة انتشار الوباء القاتل، إلا أن التباعد الاجتماعي وحظرَ التجوّل وأوامر الحجر الصحي، لا توقف نشاط عصابات المخدرات، بل على العكس من ذلك، فإن قلة تركيز عناصر الشرطة في تلك الجرائم، وصبّ تركيزهم على مكافحة الوباء، بالإضافة إلى صدمات العرض والطلب في سوق المخدرات، يؤدي إلى موجات جديدة من العُنف، خاصة في دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وكولومبيا والمكسيك، ويبدو أن تفاقم الوضع الأمني يَتماشى مع الإفراج المُبكّر عن النزلاء من السجون.

ففي البرازيل، تَوقّف تراجع جرائم القتل لمدة ثلاث سنوات، ففي ساو باولو موطنِ إحدى أقوى منظمات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية، ارتفعت جرائم القتل بنسبة 10٪ بين مارس 2019 ومارس 2020، وفي ولاية سيارا الشمالية، ارتفعت الجرائم العنيفة بما في ذلك القتل بنسبة 98٪ في 10 أيام فقط خلال مارس الماضي، كما ارتفعت مستويات العنف المنزلي المُبلّغ عنه في معظم الولايات، بما في ذلك أكثر من 50% في ريو دي جانيرو وحدها.

وشهدت المكسيك أيضاً تصعيداً حاداً في العنف المميت، خاصة في ولايات مثل تشيهواهوا وميشواكان، فضلاً عن جواناخواتو التي تهيمن عليها عصابات المخدرات، وسَجّلت السلطاتُ أكثر من 2500 جريمة قتل في جميع أنحاء البلاد خلال مارس، وهي أعلى حصيلة شهرية منذ بدء الاحتفاظ بالسجلاّت في عام 1997، ومع تَشتّت انتباه القوات المسلحة والشرطة، والانشغال بتدابير مكافحة الأوبئة، تَقاتلت أكثر من 200 مجموعة إجرامية في المكسيك، للسيطرة على طرق المخدرات والصناعات المختلفة.

حتى الانخفاض الملحوظ في نِسَب الجرائم بالسلفادور، حطمته زيادةٌ حادة في عنف العصابات على مدى الأسابيع الماضية، بعد ذَبْحِ عشراتِ الأشخاص خلال عطلة نهاية الأسبوع أواخر أبريل، ما أدى إلى تكثيف الاعتقالات، والسماح باستخدام القوة لوقف إراقة الدماء، ويُمكن أن تؤدّي هذه الإجراءات ذاتُ القبضة الحديدية إلى تفاقم الوضع السيئ، فالعصابات تَتحكّم – بالفعل – بسجون البلاد، كما أن وجود الفصائل العصابية المتنافسة في مكان واحد، قد يؤدي إلى أمور كارثية.

يَعودُ ارتفاع العنف المرتبط بالمخدرات جزئياً إلى التغييرات الجارية في الأسواق العالمية، ويعني التباطؤ في التجارة الدولية، أن لدى العصابات فرصاً أقلّ لنقل بضائعها غير القانونية، من خلال سلاسل التوريد العالمية، سواء عن طريق البرّ أو الجوّ أو البحر، وفي الوقت نفسه يُكافح منتجو المخدرات في بوليفيا وكولومبيا وبيرو والمكسيك، من أجل الحصول على ما يُعرف بـ “السلائف الكيميائية”، لإنتاج الميثامفيتامين والفينتانيل وحتى الكوكايين.

وتؤدّي الأزمة الاقتصادية العالمية إلى صَدمات العرض والطلب على تجارة المخدرات ككلّ، فنتيجة لتوقّع تباطؤ التجارة الدولية بسبب الوباء، كَثّف بعض التجار في أمريكا اللاتينية الشحناتِ في الأشهر الأخيرة، وأفاد مسؤولو إنفاذ القانون الأوروبيون، بزيادةٍ في واردات الكوكايين خلال مارس وأبريل، مع ضبطيات كبيرة في أنتويرب ببلجيكا، أحد أكثر الموانئ ازدحاماً في القارة العجوز، وعلى الرغم من إغلاق العديد من المطارات الدولية، تَرصُد الأقمار الصناعية تدفّقاً ثابتاً من الطائرات التي تَهبط وتُقلع من غينيا بيساو، ما يشير إلى استمرار دورها كمركزِ عبورٍ معروفٍ للكوكايين.

وهناك دلائل على أن المستخدمين أنفسَهم يلجأون إلى البدائل بمجرّد أن يُصبِحَ الحصولُ على المُخدّر الذي يستخدمونه أكثرَ صعوبة، إذ تَحوّلت أعدادٌ متزايدة من مدمني أوروبا، من الكوكايين المصنوع في الخارج، إلى الماريجوانا المحلية، بينما لجأ البعض الآخر إلى تخزين المخدرات، ما يعني زيادةً في الأسعار، ونتيجة لذلك يَتحوّل بعض مستخدمي الهيروين إلى المواد الأفيونية الأكثر خطراً مثل الفنتانيل، وفي جميع أنحاء العالم يُسَرّع انتشارُ فيروس كورونا من شراء المخدرات عبر الإنترنت، وتحديداً عبر ما يُسمّى بالإنترنت المظلم.

ففي أمريكا اللاتينية وأجزاء أخرى من العالم، ستلجأ الجماعاتُ الإجرامية إلى عملياتِ الاختطاف والابتزاز للحفاظ على تَدفّق الأموال، وستَتراجع عملياتُ تهريب البشر بسبب تشديد الإجراءات على الحدود بين الدول، مما يُعرّض الضحايا الذين تتمّ التجارة بهم لخطرٍ أكبر، وفي الوقت نفسه، سَتتوجّه العديدُ من عصابات الجريمة إلى أعمالٍ أكثرَ ربحاً، خاصةً تلك المتعلّقة بالجرائم الإلكترونية، كبرامج الفدية والتصيّد الاحتيالي وسرقة الهوية، والتي شهدت ارتفاعاً حاداً مع التَحوّل المتزايد إلى العالم الرقمي.

الترويج لمنتجات صيدلانية مُزيّفة.. وسوق سوداء لأدوات الحماية الشخصية

لا يَقف الأمر عند هذا النوع من الجرائم فقط، بل إن انتشار فيروس كورونا يؤثر على أشكال أخرى من الجريمة المُنظّمة، على غرار تجارة الحيوانات البرّية المهدّدة بالانقراض، وقد حظرت الصين التجارةَ بالحيوانات البرية خلال وقتٍ مُبكّر من انتشار الوباء، ولكن هذا لا يعني أن ذات النشاط لا يَتحرّك في مكان آخر، إذ كشفت تقارير أن تجاراً في العاصمة الفيتنامية هانوي، يُسوّقون عَظْمَ النَّمِر، وقرون وحيد القرن كعلاج مزعوم لفيروس كورونا.

وفي المكسيك يُعتقد أن العصابة الإجرامية المعروفة “كارتل تيخوانا”، هي بالفعل أحدُ أكبر مورّدي المنتجات الصيدلانية المسروقة والمقرصنة، وهي جزء من سوق سوداء عالمية مزدهرة للأدوية المزيفة أو المسروقة ومُعدّات الحماية الشخصية.

وفي هذا الإطار، حَذّر يورجين ستوك، رئيسُ الإنتربول الدولي، من أنه إذا تمّ تطوير لقاح مضادّ لفيروس كورونا، فمِن المُرجّح أن يَسعَى المجرمون إلى استغلال الطلب الواسع النطاق، بإغراق السوق بالأدوية المزيفة.

ويُشير ستوك إلى أن أدوات الحماية الشخصية غير المعتمدة، مثل الكمامات الطبية أو مُطهّرات اليد المغشوشة، والتي ظهرت مؤخراً، تُعدّ دليلاً على ما يمكن أن يَحدث، فالمجرمون الذين يعملون في جميع أنحاء العالم، تَكيّفوا بسرعةٍ مع هذا الوباء، بمعنى أنهم يَستغلّون مخاوفَ الناس وهمومَهم واحتياجاتِهم الجديدة، لإعادة توجيه أنشطتهم الإجرامية.

وأخيراً.. أدى فيروس كورونا إلى تَحوّل في الجريمة المنظمة، فبالإضافة إلى تأجيج العُنف المتزايد، يُمكن للوباء أن يُعزّز من النفوذ الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي لبعض المنظمات الإجرامية، بنفس الطريقة التي ظهرت بها “المافيا – Mafia” الإيطالية، و”ياكوزا – Yakuza” اليابانية، بعد الاضطرابات الكبيرة في الحرب العالمية الثانية، إذ يَعلَم قادةُ المنظمات الإجرامية، خاصةً في أمريكا اللاتينية، أن أنظمة تطبيق القانون والعدالة الجنائية مُرهَقة بشكل كبير، بالإضافة إلى إدراكهم عِظَمَ حجم الأزمة القادمة، مما قد يزيد من خطر العنف المقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى