ترجماتقراءات

أزمة “كورونا” بين الارتباك الأوروبي.. والإدارة السعودية المُحكمة

تُعرف الأزمة بأنها أيّ تهديد قد يُلحِق الأذى بالأشخاص أو الممتلكات، أو يؤدّي إلى تعطيل سير العمل أو الحياة، ووفقاً لأدبيات علم الإدارة، تمرّ أي أزمة بخمس مراحل، وهي الميلاد والنموّ والنضج والانحسار، وأخيراً التلاشي.

وتقوم إدارة الأزمة على إدارة التوازنات والتكيّف مع المتغيرات المختلفة، وبحث آثارها في كافة المجالات، ولا شك أن تلك الأطر النظرية تنطبق على الأزمة الأخطر التي يواجهها العالم أجمع اليوم، وهي وباء كورونا المستجد (كوفيد-19)، الذي ولد في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي وسط الصين في ديسمبر من العام الماضي، وأخذ ينمو سريعاً ليغزو حالياً 149 دولة وإقليماً حول العالم، وليودي بحياة 5619 شخصاً، ويُصيب أكثرَ من 150 ألفاً.

فيروس كورونا.. أزمة صحية دولية في زمن العولمة

بدا التعامل مع فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) على مدى الشهرين الماضيين وكأنه فيروس صيني محلي ليس متوقعاً انتشاره خارجياً، في حين أن الفيروسات لا تعترف بالحدود كما أثبتت التطورات المتلاحقة.

وأخذت أزمة فيروس كورونا في أوروبا تتزايد، ودائرة انتشار المرض تتسع في أرجاء القارة العجوز، لتجسّد أحد أعراض العولمة التي لا يمكن تلافيها، إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية أن القارة الأوروبية باتت بؤرةَ وباء فيروس كورونا العالمي، محذرةً من نار مشتعلة تأكل القارة.

وسَجّلت السلطات الأوروبية 1610 حالات وفاة بفيروس كورونا، وأكثر من 40 ألف مصابٍ بالفيروس، فيما اعتُبِرت إيطاليا أكثر الدول الأوروبية تضرّراً من كورونا، بواقع 1266 حالة وفاة، و17660 إصابة، تليها إسبانيا التي سجلت 191 حالة وفاة، و6043 إصابة.

في المقابل، فإن المملكة العربية السعودية سجلت 103 حالات مصابة بالفيروس، ولم تسجل أي وفيات، وتحلّ المملكة في المرتبة رقم 37 من حيث عدد الإصابات على مستوى العالم.

تفاعل أوروبي بطيء مع أزمة متصاعدة

طوال أسابيع، دعا المسئولون في بروكسل عاصمةِ الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن العواصم الأوروبية الوطنية، إلى تنسيق أوروبي شامل، ومع ذلك لا تزال طريقة العمل في جميع أنحاء التكتل مجزأةً وقاصرة، وأشبه بكونها مجرّد ردّ فعل على ما يجري، دون وجود رؤية استباقية شاملة.

وعلى الرغم من أنه بات من الواضح أن العواقب الاقتصادية ستكون مدمرة، إلى جانب تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي توقعت إصابة 60 – 70% من الألمان بالفيروس المميت، اختار القادة الأوربيون حتى الآن، بمن فيهم ميركل، الانتظار ومتابعة تطورات الوضع عن كثب، بدلاً من محاولة السيطرة المسبقة على عملية تفشّي الفيروس.

بل إن دولاً أوروبية أخرى كانت في غفلة عن ظهور الفيروس على أراضيها، فلم يلحظ المسئولون الإسبان أول حالة وفاة بكورونا إلا بعد 3 أسابيع من حدوثها، ففي 3 مارس الجاري اكتشفت السلطات في إقليم فالنسيا أن سبب وفاة رجل في 13 فبراير الماضي هو إصابته بالفيروس.

وعلى صعيد المؤسسات الأوروبية، ساهمت خطوات المفوّضية الأوروبية في إبطاء عملية مجابهة الفيروس، فعلى سبيل المثال أدرجت رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، تشكيل فريقها المعني بمواجهة كورونا (يتألّف من 5 مفوضين معنيين بالملف الصحي) في اليوم 93 من جدول أعمالها خلال الـ100 يوم القادمة، وحتى مع فرض حالة عزل في شمال إيطاليا بسبب تفشّي الفيروس، ظلّ تركيز رئيسة المفوضية يَنصبّ على النزاع حول مسألة الهجرة وكيفية التصدي لها، مشيرةً إلى أن المفوضية تعقد اجتماعاتها أسبوعياً فقط.

ورغم تأكيد وزراء الصحة في الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعين في بروكسل الشهر الماضي، عزمهم على التنسيق لمواجهة تلك الأزمة المستفحلة، إلا أن شيئاً لم يحدث، فيما قالت المفوضية إنها تخطط لإجراء مكالمة هاتفية يومية مع وزراء الصحة والداخلية من جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي.

لكن تلك الاتصالات لم تُحرِز تقدّماً يُذكر، والدليل على ذلك قرار فرنسا وألمانيا بتقييد المبيعات الخارجية لأقنعة الوجه (الكمامات)، في خطوة أثارت شكاوى دول أخرى.

كما كان أحد الأهداف الرئيسية للقمّة التي عقدها القادة الأوروبيون عبر الفيديو كونفرانس، منع هذا النقص المحتمل من أن يصبح حقيقة قائمة، لكن بعد أقلّ من يوم واحد من موافقة قادة الاتحاد الأوروبي على تبادل المعلومات حول مخزون المُعدّات، بحيث يمكن نقل الإمدادات الطبية الحرجة بسهولة أكبر، أعلنت رومانيا أنها ستحظر أيضاً تصدير مُعدّات الحماية الشخصية.

وفي معظم أنحاء أوروبا، حتى عندما أصبح التهديد من الفيروس واضحاً، قَدَّمتْ سلطاتُ أجزاءٍ كثيرة من القارة، الاعتباراتِ الماليةَ على المخاوف الصحية.

وانتقد جيوفاني ريزا، مدير إدارة الأمراض المعدية في معهد الصحة الوطني الإيطالي، ذلك التوجّه بقوله، إن “النوادي في باريس كانت مفتوحةً قبل يومين أو ثلاثة أيام مضت، أما في ألمانيا فيفعل الجميع ما يريدون”.

ويتّسم الوضع في ألمانيا بخصوصية، إذ أنها دولة فيدرالية تتألف من 16 مقاطعة ذات سلطات واسعة، وحتى الآن اعتمد نصف تلك المقاطعات تقريباً توصيةَ وزارة الصحة الفيدرالية بإلغاء التجمّعات التي تضمّ أكثر من 1000 شخص.

ويرى السفير الإيطالي لدى الاتحاد الأوروبي، ماوريتسيو ماساري، أن أزمة كورونا تُعدّ اختباراً لتماسك الاتحاد الأوروبي ومصداقيته، لا يمكن تجاوزه إلا من خلال تضامن حقيقي وملموس.

“مناعة القطيع”.. استراتيجية بريطانية ضد كورونا تعكس انفصالاً عن النهج الأوروبي بعد “بريكست”

لجأت بريطانيا إلى اتباع استراتيجية أخرى تُعرف بمناعة القطيع (Herd immunity) كتكتيك لمواجهة فيروس كورونا الذي لا يوجد له لقاح حتى الآن، ما أثار حالة من القلق حتى بين الخبراء المختصّين، تزامنت مع التصريح الصادم لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي قال فيه إن الكثيرين سيفقدون أحباءهم في البلاد بفعل هذا الفيروس.

ومناعة القطيع نوع من المناعة يحدث عندما تُصاب أعداد كبيرة من الأشخاص بالفيروس، لاكتساب مناعةٍ ذاتية جماعية، لكنّ نِسبةً من المصابين – تقلّ أو تكثر – لن تنجو بطبيعة الحال.

وفي حالة كورونا، الذي لا يوجد لقاح ضده، تعتمد مناعة القطيع على أن الأشخاص الذين يصابون بالفيروس ويتعافون منه، سيكونون مُحصّنين – على الأقل في الوقت الحالي – من الإصابة مجدداً، لذلك يرى المستشار العلمي للحكومة البريطانية السير باتريك فالانس، أن الوصول إلى مناعة القطيع يتطلب إصابة حوالي 60% من السكان بالمرض.

وأثارت تلك الاستراتيجية، قلقاً عارماً حتى بين الخبراء المتخصصين ومن بينهم مارتن هيبرد، أستاذ الأمراض المعدية الناشئة في لندن، الذي اعتبر أن السماح للمواطنين بتكوين الحصانة بهذه الطريقة، بدلاً من إجراء اختبارات واسعة النطاق، وعزل الحالات المصابة، وتعقّب اتصالاتها على غرار ما تفعله البلدان الأوروبية الأخرى، يُمكن أن يزيد من المخاطر بالنسبة للفئات الأكثر ضعفاً مثل كبار السنّ، وأولئك الذين يعانون من مشاكل صحية كامنة.

ويَتجاهل الطرح البريطاني المتبنّي لاستراتيجية مناعة القطيع، حقيقةَ تسجيل عدد من الحالات التي هاجمها كورونا مجدداً بعد تعافيها، وربما جاءت تلك الاستراتيجية لتجسّد أولَ مظهر من مظاهر القطيعة مع الاستراتيجيات والسياسات الأوروبية في مرحلةِ ما بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”.

إجراءات سعودية حاسمة وآليات سريعة لتحجيم “كورونا” في المملكة

في الثاني من مارس الجاري، أعلنت وزارة الصحة السعودية تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا لمواطن سعودي قادم من إيران عبر البحرين، ومنذ ذلك الحين اتبعت المملكة نهجاً متدرّجاً في القرارات والإجراءات الاحترازية، للتعاطي مع تلك الأزمة العالمية وتحجيم تداعياتها.

واستغلت السعودية مخزوناً كبيراً من خبراتها المتراكمة في التعامل مع المخاطر ذات الصلة بالأوبئة والأمراض القادمة من الخارج، رَسّخته عقودٌ من التعامل مع الحشود الكبيرة وآلاف الزائرين للأراضي المقدّسة، وقدرةٌ فائقة في كافة المنافذ الحدودية والموانئ والمطارات بشتى أنحاء المملكة، على التفاعل مع أي مستجدات أو طوارئ صحية، وتوفّر أحدث الإمكانات والتجهيزات اللوجستية، والاهتمام المستمر بالاستثمار في العنصر البشري ورفع كفاءته عبر برامج تدريبية مختلفة.

وعكست جهودُ التصدّي لفيروس كورونا في المملكة تناغماً متناهياً بين كافة الأجهزة الحكومية خلف هدف واحد، هو الحدّ من انتشار الفيروس، كما اتسمت إدارة الأزمة بأعلى قدر من الشفافية، ومن مؤشراتها الأساسية إصدار بيانات رسمية يومية حول آخر المستجدات، سواءً فيما يخصّ عدد الإصابات، أو الوضع الصحي للمصابين.

واتخذت المملكة سلسلةً من الإجراءات الاستثنائية غير المسبوقة لمكافحة كورونا، بعضها كان حتى قبل تسجيل أول حالة إصابة، ومن أبرز تلك الإجراءات تعليق الدخول إلى المملكة مؤقتاً لأغراض العمرة وزيارة المسجد النبوي الشريف، وتعليق الدخول إلى المملكة بالتأشيرات السياحية للقادمين من الدول التي شهدت انتشاراً للفيروس، وتعليق العمرة وزيارة المسجد النبوي للمواطنين والمقيمين مؤقتاً، وذلك لتفادي تفشّي الفيروس.

كما ألزمت الدولة جميعَ المسافرين القادمين إلى المملكة بالإفصاح عن البيانات الصحية المطلوبة، أو التعرّض لغرامة مالية ضخمة تصل إلى نصف مليون ريال، وصولاً إلى قرارها تعليق الرحلات الجوية الدولية لمدة أسبوعين، اعتباراً من 15 مارس الجاري.

كما شملت القرارات أيضاً تعليقَ الدراسة مؤقتاً في جميع مناطق ومحافظات المملكة حتى إشعار آخر، وتعليق الدروس العلمية والبرامج الدعوية والمحاضرات وحلقات تحفيظ القرآن في جميع الجوامع والمساجد، فضلاً عن إيقاف تصدير المنتجات الطبية والمخبرية المستخدمة للكشف عن “كورونا” أو الوقاية منه.

واعتباراً من يوم الاثنين 16 مارس الجاري، علّقت المملكة الحضورَ إلى مقرات العمل في كافة الجهات الحكومية، لمدة 16 يوماً، باستثناء القطاعات الصحية والأمنية والعسكرية ومركز الأمن الإلكتروني، ومنظومة التعليم عن بُعد في قطاع التعليم.

وشملت القرارات الاحترازية إغلاق الأسواق والمُجمّعات التجارية المغلقة والمفتوحة، ومحلات الحلاقة الرجالية، وصالونات التجميل النسائية، عدا الصيدليات والمحالّ التموينية الغذائية، بشروط تتضمّن الالتزام بتعقيم عربات التسوّق بشكل دوري، وبمراقبة مكثفة من الجهات المختصّة.

قراءة مستقبلية لتأثيرات أزمة كورونا على أوروبا

أجرت أوروبا بعضَ التغييرات الكبيرة استجابةً لتفشّي الأمراض والأوبئة في السابق، منها تأسيس المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها (مقرّه في ستوكهولم) في عام 2005، بعد تفشّي وباء متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد “سارس”.

ولا شك أن أزمة كورونا توفّر دعماً قوياً للأصوات التي تُنادي بمزيدٍ من المركزية فيما يتعلق بإدارة الملفات المتصلة بقطاع الصحة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أيضاً أن تُشكّل دفعةً لتصاعد أسهم القوميين المشككين في الاتحاد الأوروبي وجدواه، عبر توظيف سياسي لأزمة كورونا، فعلى سبيل المثال عندما طلبت السلطات الإيطالية إمداداتٍ طبيةً عاجلة بموجب آلية أزمة أوروبية خاصة، لم تَلْقَ استجابةً من أيّ دولة من دول الاتحاد الأوروبي، ما دفعها لمناشدة الدول الصديقة والحليفة لروما، وجاءت الاستجابة سريعاً من بكين التي أوفدت فريقاً طبياً صينياً متخصّصاً لدعم القطاع الطبي الإيطالي في تلك الأزمة، فضلاً عن إرسال 31 طناً من الإمدادات بما في ذلك أجهزة تنفس صناعي.

لمزيد من التحليلات يمكنهم الضغط على هذه الصورة

زر الذهاب إلى الأعلى