في واحدة من أخطر الأزمات التي تتعرض لها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، تقدم كل من المدير العام للهيئة تيم ديفي، والرئيسة التنفيذية للأخبار، ديبورا تورنيس، باستقالتهما على خلفية فضيحة تحريف خطاب للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ألقاه قبل أكثر من 4 سنوات، مما فتح المجال أمام العديد من التساؤلات حول مدى التقيد بقواعد المهنية وعدم الانحياز والتحلي بالنزاهة في التغطيات والمواد الإخبارية والوثائقية، إذ دعا وزير الثقافة والإعلام البريطاني الأسبق، السير جون ويتنجديل إلى إجراء تغيير جذري لتعزيز الإشراف على المعايير التحريرية عبر مزيد من المشاركة المستقلة أو لجنة معايير أقوى.
وفي هذا الإطار، نشر موقع ذا كونفرزيشن الإخباري مقالا لدينيس مولر زميل باحث أول في مركز تطوير الصحافة بجامعة ملبورن الأسترالية، نستعرضه على النحو التالي:
- تحريف خطاب ترامب
تُثير استقالة المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” والرئيسة التنفيذية للأخبار بسبب التحرير غير النزيه لخطاب ألقاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2021، العديد من التساؤلات المقلقة، التي تتعلق بفعالية ونزاهة الإجراءات التحريرية الداخلية لهيئة الإذاعة البريطانية للتحقيق في الشكاوى، والضغوط التي تمارسها القوى السياسية والإعلامية المحافظة في المملكة المتحدة على الهيئة.
بدأ الجدل حول ترامب من خلال تحرير فيلم وثائقي على قناة بي بي سي بانوراما بعنوان “ترامب: فرصة ثانية؟” عُرض قبل أسبوع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، وتضمن إعادة عرض لمقاطع من الخطاب الذي ألقاه ترامب أمام أنصاره قبيل اندلاع أعمال شغب في واشنطن في 6 يناير 2021.
في الخطاب، قال ترامب في إحدى فقراته: “سنسير إلى مبنى الكابيتول، وسنشجع أعضاء وعضوات مجلس الشيوخ والنواب الشجعان”. وبعد خمسين دقيقة، قال في الخطاب نفسه: “سأكون معكم. وسنقاتل. سنقاتل بشراسة”. ووفقًا لرواية بي بي سي، تم دمج هذين الاقتباسين ليصبحا: “سنسير إلى مبنى الكابيتول وسأكون هناك معكم. وسنقاتل. سنقاتل بشراسة”. وكان الهدف من ذلك إعطاء انطباع بأن ترامب يحرّض مؤيديه على العنف.
- مشاكل التحيز التحريري في “بي بي سي”
في ذلك الوقت، كان صحفي يُدعى مايكل بريسكوت يعمل مستشارًا خارجيًا مستقلًا للجنة معايير التحرير في هيئة الإذاعة البريطانية. ووفقًا لصحيفة “جارديان” البريطانية، فإن تعيين بريسكوت في هذا المنصب جاء بدفع من عضو مجلس إدارة هيئة الإذاعة البريطانية، روبي جيب، الذي كان مستشارًا إعلاميًا لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة المحافظة تيريزا ماي، وأسهم أيضًا في تأسيس قناة “جي بي نيوز” اليمينية.
وقد غادر بريسكوت هيئة الإذاعة البريطانية في يونيو الماضي، ولكن خلال فترة عمله هناك، كتب رسالة إلى مجلس إدارة الهيئة يلفت انتباههم إلى ما اعتبره مشاكل تحيز تحريري “خطير ومنهجي” داخل الهيئة. وكان التحرير غير النزيه لخطاب ترامب أحد الأمثلة التي ساقها لدعم وجهة نظره. وكتب أنه عندما أُبلغ مديرو التحرير “رفضوا الاعتراف بوجود خرق للمعايير”. ووصلت هذه الرسالة إلى صحيفة “ديلي تلغراف” اللندنية المحافظة التي نشرت في 3 نوفمبر الجاري، قصة تحت عنوان: “حصري: بي بي سي تُحرّف خطاب ترامب، وفقًا لتقرير داخلي”. وجاء في العنوان الفرعي: “قامت الشركة بتحرير لقطاتٍ في برنامج بانوراما لإظهار الرئيس وكأنه يُشجّع على أعمال الشغب في الكابيتول”.
ووصف متحدث باسم ترامب هيئة الإذاعة البريطانية بأنها تبث “أخبارًا كاذبة بنسبة 100%” و”آلة دعاية”. ونشر الرئيس الأمريكي على حسابه بمنصته للتواصل الاجتماعي “تروث سوشيال” أن “أشخاصًا غير نزيهين للغاية حاولوا التدخل في الانتخابات الرئاسية”، مضيفًا: “وعلاوة على كل شيء، هم من دولة أجنبية، دولة يعتبرها الكثيرون حليفنا الأول. يا له من أمر مروع للديمقراطية!”.
- ترامب يلوّح بمقاضاة “بي بي سي” وطلب تعويضًا بمليار دولار
توقعت خدمة البث البريطانية “توك تي في” التابعة لشركة “نيوز كوربوريشن” أن يقاضي ترامب هيئة الإذاعة البريطانية،- في وقت لاحق- أفادت “بي بي سي نيوز” بأن الرئيس الأمريكي بعث برسالة إلى “بي بي سي” يهدد فيها باتخاذ إجراء قانوني. وأعلنت هيئة الإذاعة البريطانية أنها تلقت الرسالة وسترد عليها في الوقت المناسب. لكن وسائل إعلام أمريكية أفادت بأنها حصلت على نسخة من رسالة قيل إنها من الفريق القانوني لترامب مُرسلة إلى “بي بي سي”، تضمنت منح الأخيرة مهلة نهائية حتى يوم الجمعة المقبل، لسحب البرنامج وتقديم اعتذار رسمي، وإلا سيتم رفع دعوى قضائية ضدها للمطالبة بتعويض بمليار دولار.
وتأتي تلك التطورات بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان هيئة الإذاعة البريطانية أن هيئة تنظيم البث البريطانية “أوفكوم” قد وجدت أن فيلمًا وثائقيًا آخر لهيئة الإذاعة البريطانية عن الحرب في غزة، قد تضمن “خرقًا خطيرًا” لقواعد البث بعدم إبلاغ الجمهور بأن الراوي في الفيلم الوثائقي هو نجل وزير الزراعة في حكومة حركة حماس الفلسطينية.
وخلصت “أوفكوم” إلى أن الفيلم المسمى “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب؟”، كان مضللًا بشكل جوهري لعدم الكشف عن تلك الصلة العائلية.
- الضغط السياسي على “بي بي سي”
لا شك أن هذه أخطاء فادحة، ويجب محاسبة الصحفيين الذين ارتكبوها. لكن استقالة المدير العام والرئيس التنفيذي للأخبار تُعدّ ردًا غير متناسب لدرجة أنها تثير تساؤلات حول طبيعة الضغوط التي مورست على “بي بي سي” ومن مارسها.
لقد ركزت صحيفتا “ديلي تلغراف” و”ديلي ميل” بشدة على قصة ترامب لمدة أسبوع، مما ولّد ضغطًا من لجنة الثقافة في مجلس العموم لاستخلاص تفسيرات من هيئة الإذاعة البريطانية.
من الناحية السياسية، كان التوقيت غير ملائم بالتأكيد. تُوشك هيئة الإذاعة البريطانية على بدء مفاوضات مع الحكومة بشأن تمويلها المستقبلي، وربما رُصد أن هذه المفاوضات قد تُثمر أكثر مع مدير عام جديد ورئيس جديد لقسم الأخبار بعد سلسلة من الجدل على مدار العامين الماضيين. وفوق كل ذلك، كان عامل ترامب هو العامل الأهم. هل كانت هناك ضغوط دبلوماسية على الحكومة البريطانية من البيت الأبيض؟ لقد أكد كل من ديفي وتورنيس أن أخطاءً قد ارتُكبت، وأن المسؤولية تقع عليهما، وأنهما يستقيلان من حيث المبدأ.
ربما يكون الأمر كذلك، لكن مصادر الضغط – البيت الأبيض، ومجلس العموم، ووسائل الإعلام المحافظة – تدعو إلى التدقيق في أسباب رحيلهما. كما بدا أنهما عاجزان عن الرد بفاعلية على الهجوم الشرس الذي شنته صحيفتا “ديلي تلغراف” و”ديلي ميل” على مدى أسبوع، سواء بالدفاع عن الصحفيين أو الاعتراف بالأخطاء التي ارتُكبت واتخاذ خطوات تصحيحية.
يُذكر هذا هيئات البث العامة، مثل هيئة الإذاعة الأسترالية (إيه بي سي)، بأنها في ظل المناخ السياسي الحالي تُعدّ أهدافًا ذات أولوية عالية لوسائل الإعلام والسياسيين اليمينيين. وقد واجهت هيئة الإذاعة الأسترالية أزمتها مع قضية أنطوانيت لطوف (المذيعة التي طردت في ديسمبر 2023 لتعبيرها عن آراء داعمة لفلسطين)، والتي كلّفتها أكثر من 2.5 مليون دولار لفشل إدارتها في الدفاع عن صحفييها في وجه الضغوط الخارجية.
ولحسن الحظ، تزامن ذلك مع المغادرة المُخطط لها لرئيس مجلس الإدارة والمدير الإداري، مما أتاح لها فرصة انطلاقة جديدة. وستحصل هيئة الإذاعة البريطانية على فرصة مماثلة. ومن الواضح أن هيئات البث العامة بحاجة إلى تطبيق معاييرها التحريرية بفاعلية أكبر، وأيضًا إلى الدفاع عن موظفيها عندما يُستهدفون ظلمًا.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن الشفافية مع الجمهور والأمانة في نقل الأحداث والدقة في تحرير المواد الصحفية سواء كانت مكتوبة أو مرئية هي طوق النجاة الذي يجب على جميع الإعلاميين والصحفيين كأفراد والمنافذ الإعلامية من صحف وشبكات تلفزة ومحطات إذاعية كمؤسسات التمسك به لتجنب السقوط في أزمات تؤدي إلى اهتزاز الثقة والمصداقية، لا سيما وأنها الرهان الرئيسي لوسائل الإعلام التقليدية في منافستها للإعلام الجديد الذي وفّر فضاء رقميًّا مفتوحًا يستوعب بل ويروج لكثير من المحتوى المضلل أو المفبرك.



