يقضي الملايين من الأفراد في الوقت الراهن جزءًا كبيرًا من أوقاتهم في مشاركة البيانات متعددة الوسائط على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام وغيرها، فمن خلال أنشطتهم عبر تلك المنصات يقدم المستخدمون رؤى حول سلوكياتهم وشخصياتهم ووجهات نظرهم ودوافعهم واحتياجاتهم وعواطفهم وحالاتهم النفسية، وهو ما يظهر في ما يقرؤونه وما يحظى بإعجابهم، والمحتوى الذي ينشرونه ويتابعونه.
وقد حفزت هذه الأنماط السلوكية الباحثين في مجال علم النفس ومعالجة اللغة الطبيعية والحوسبة العاطفية على تقديم حلول وأساليب جديدة لاكتشاف علامات الإنذار المبكر لمشاكل الصحة النفسية، إذ تحسن النتائج التي توصلوا إليها اتخاذ التدابير الوقائية والتشخيص الأفضل للشخص المصاب باضطرابات نفسية، وجعل تلك المنصات ضمن محاور العلاج والتعافي.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة نشرتها مجلة “IEEE Transactions on Affective Computing”، عن تطوير فريق بحثي خوارزمية يُمكنها تحديد الاحتياجات الأساسية للمستخدمين ومن ثم وصف حالتهم المزاجية من خلال النصوص والصور التي يشاركونها على الشبكات الاجتماعية.
- نظرية الاختيار لويليام جلاسر
واستندت الدراسة إلى نظرية الاختيار(المعروفة أيضًا باسم العلاج الواقعي) للبروفيسور الأمريكي ويليام جلاسر التي تفترض وجود خمسة احتياجات أساسية لكل السلوك البشري وهي: البقاء والقوة والحرية والانتماء والمرح، مشيرة إلى أن هذه الاحتياجات تحرك اختيارات الأفراد، وإذا لم يتم تلبية تلك الاحتياجات، قد تكون مصدرًا للكثير من التعاسة الشخصية وتؤدي إلى ظهور مشاكل الصحة النفسية.
ووفقًا للنظرية، فإن الانتماء والقوة والحرية والمرح والبقاء تعتبر احتياجات أساسية تميز “ألبوم الصور الشخصية- a Personal Picture Album” وهو مكان محدد لتخزين الصور الذهنية للأشخاص والأماكن والأشياء والقيم والمعتقدات التي تعتبر مهمة بالنسبة للفرد، ويمكن أن تلبي واحدًا على الأقل من احتياجاته الأساسية، لذلك ركزت الدراسة على منصة إنستغرام الخاصة بالصور، والتي تمكّن مستخدميها من عكس صورهم الذهنية من خلال ما يقرؤونه وما يعجبون به وينشرونه ويتابعونه.
وقامت الدراسة بتحليل عينة تضم 86 ملفًا شخصيًا على موقع إنستغرام، حيث تم جمع المحتويات المرئية والنصية لتلك الحسابات باستخدام واجهة برمجة تطبيقات إنستغرام، إذ يحتوي كل ملف تعريف على صور، وسيرة شخصية bio)) وتعليقات توضيحية وعلامات جغرافية (تحدد الموقع الجغرافي)، وقد جاء المحتوى النصي باللغات الإنجليزية والإسبانية والتركية والفارسية.
- توظيف نموذج التعلم العميق
وقد أمضى فريق البحث عامين في العمل على نموذج “التعلم العميق- a deep learning model” الذي يحدد الاحتياجات الخمسة التي وصفها جلاسر، باستخدام بيانات متعددة الوسائط؛ مثل الصور والنص والسيرة الذاتية وتحديد الموقع الجغرافي. وبالاعتماد على الشبكات وقواعد البيانات العصبية، قام الخبراء بتدريب خوارزمية لتحديد محتوى الصور وتصنيف المحتوى النصي عن طريق تسميات مختلفة اقترحها علماء النفس، الذين قارنوا النتائج بقاعدة بيانات تحتوي على أكثر من 30 ألف صورة وتسمية توضيحية وتعليق.
وبحسب الدراسة، ونظرًا لكون الصور ليس لها قيود متعلقة باللغة، فإن تقييم علماء النفس لألبومات الصور على إنستغرام لإدراك الاحتياجات الأساسية للمستخدمين يكون أقل صعوبة من تقييم البيانات النصية، إذ يستطيع الباحث من خلال مشاهدة الصورة تحديد ما إذا كان الأشخاص الذين يظهرون فيها مستمتعين وسعداء أم لا. كما لفتت إلى أن سلوك الإفصاح الذاتي لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عبر المحتويات النصية يبعث بإشارات مهمة لتقييم مواقف المستخدمين واحتياجاتهم وحالاتهم النفسية. وبفضل التقدم الكبير في معالجة اللغة الطبيعية، تمكن فريق البحث من التغلب على التحديات اللغوية واستخدام كلتا الطريقتين في تقييم الملفات عينة البحث.
- نتائج الدراسة
وخلصت الدراسة إلى وجود علاقة قوية بين المحتوى الذي يتشاركه المستخدمون على الشبكات الاجتماعية وحالاتهم النفسية. لكنها أثارت تساؤلًا ألا وهو هل يكشف المستخدمون عن احتياجاتهم الحقيقية وحالاتهم النفسية، أم يحاولون بناء صورة مثالية من خلال ملفاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي للهروب من الحياة الواقعية؟
ونوهت الدراسة أنه لطالما كان هذا القلق موجودًا في مجال الحوسبة العاطفية، فعلى سبيل المثال، يثق الباحث في البيانات المتاحة في نموذج التعرف على المشاعر، بصرف النظر عن حقيقة أن الصورة قد تمثل سعادة حقيقية أم مصطنعة.
وقد ركزت الدراسة على نظرية الاختيار لجلاسر نظرًا لأنها بُنيت على أساس اختيارات الأفراد عند اختيارهم إظهار السعادة أو التظاهر بها، وبالتالي خففت هذه النظرية من التحيز وفتحت بُعدًا آخر لتفعيل بحوث “الحوسبة العاطفية”.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك المنهجية مخصصة للاستخدام بموافقة المريض لمساعدة علماء النفس في تحديد العلامات المبكرة للتعاسة، ومع ذلك، يمكن تكييفها للتعامل مع بحث نفسي متعدد الطبقات، بحيث يتم استهداف بيانات منصات تواصل اجتماعية متعددة.
وتشير الدراسة إلى الحاجة لمعالجة المخاوف الأخلاقية في الدراسات المستقبلية من أجل دمج المزيد من البيانات من مجموعة واسعة من الأفراد على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الاهتمام بالاختلافات الثقافية للمبحوثين من أجل الاستفادة من نتائج هذه الدراسات.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن نتائج تلك الدراسة تكشف عن وجه جديد يمكن من خلاله توظيف التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي من أجل تحسين التدابير الوقائية ذات الصلة بالحفاظ على الصحة النفسية للمستخدمين، من خلال الرصد المبكر وتشخيص المشكلات النفسية في ذلك الفضاء الرقمي الذي يستهلك الأفراد فيها ساعات طويلة من يومهم.