على الرغم من كون الرأي العام يُمثّل مقياسًا قويًّا لنبض الجمهور، فإن استطلاعات الرأي تتجاهل السياق الاجتماعي، والتأثير غير المتكافئ للتعبير عن الرأي، وقد ازدادت عيوب تلك الاستطلاعات مع ارتفاع معدلات عدم الاستجابة الناجمة عن عوامل عدة مثل استخدام التكنولوجيا وانعدام ثقة الجمهور في الاستطلاعات.
ولذلك أضحت مواقع التواصل الاجتماعي تُقدِّم طريقة جديدة لتصور وقياس الرأي العام، وتؤدي دورًا مُكمّلًا لاستطلاعات الرأي التقليدية، لا سيما وأن هذه المنصات برزت كساحة معركة رئيسية للخطاب العام، حيث يعلق المستخدمون المنحدرون من خلفيات مختلفة بنشاط على الأحداث الجارية والقضايا العامة، ويسعون جاهدين لممارسة التأثير.
ويتسم الرأي العام في وسائل التواصل الاجتماعي بميزة أخرى، وهي اندماجه في شبكات متجانسة، حيث يتفاعل الأفراد المتشابهون في التفكير مع بعضهم البعض ويعززون آراء بعضهم، لكن توجد تحديات لاستخدام المنصات الاجتماعية كأداة لقياس الرأي العام تتمثل في الافتقار إلى التمثيل الديموغرافي وإمكانية التلاعب بالرأي.
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة “Journal of Computer-Mediated Communication” في عددها الصادر في يناير 2022 إطارًا منهجيًّا يسمى “الهمهمة- murmuration”، يهدف إلى التقاط الخصائص الفريدة للرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعالجة التحديات السالف ذكرها.
- إطار “الهمهمة- murmuration” والقطعان على تويتر
يُركّز إطار “الهمهمة- murmuration” على تحديد مجموعات من الفاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي بناءً على علاقة “من يتبع من”، حيث يجذب هؤلاء الفاعلون أتباعًا متشابهين في التفكير، ومن ثَمَّ دراسة التعبير عن الرأي من قبل تلك المجموعات، وينطلق هذا الإطار من حقيقة أن التشابه على أساس الخصائص المشتركة هو الدافع وراء تكوين الصداقات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالاعتماد على مصطلح “الطيور على أشكالها تقع – Birds of a feather flock together”، تُطلِق الدراسة على مجموعات التركيز اسم “القطعان- Flocks”، وتُعرّف القطيع من الناحية المفاهيمية على أنه مجموعة من حسابات الوسائط الاجتماعية المتشابهة الموجودة في نفس الموقع من الرسم البياني الاجتماعي.
وقامت الدراسة بتحليل بنية الشبكة الاجتماعية والتعبير عن الرأي من خلال أكثر من 193 ألف حساب على موقع التدوينات القصيرة “تويتر” يتابع أكثر من 1.3 مليون حساب آخر، وأظهرت أن العضوية في القطيع تُمكّن من التنبؤ بالرأي العام السائد.
وقد درس فريق البحث بقيادة الدكتورة ييني تشانغ، الأستاذ المساعد في الاتصال بكلية الآداب والعلوم بجامعة بوفالو في مدينة نيويورك، موقع تويتر بسبب إتاحته معرفة “من يتابع من”، وهي معلومات غير متاحة للجمهور على منصات أخرى.
وتشير تشانغ إلى أنه “من خلال تحديد القطعان المختلفة، وفحص كثافة ونمط ومحتوى تعبيرهم، يمكننا اكتساب رؤى أعمق وأبعد بكثير من موقف الليبراليين والمحافظين بشأن قضية معينة، فهذه القطعان هي شرائح من السكان، لا تحددها المتغيرات الديموغرافية، ولكن يتم الوصول إليهم من خلال اتصالاتهم عبر الإنترنت واستجابتهم للأحداث.
وعلى هذا النحو، يمكن ملاحظة الاختلافات في الرأي داخل المعسكر الأيديولوجي، وآراء الأشخاص الذين قد لا يكون لهم عادة رأي في قضايا معينة.
وتنوه الدراسة بأهمية عدم الخلط بين الرأي العام كما تم قياسه من خلال الاستطلاع والرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ توجد نقطتان فارقتان بين النمطين، الأولى تتمثل في أنه ليس كل الأفراد يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، أما الثانية فتشير إلى أن مجموعة فرعية فقط ممن يستخدمون مواقع التواصل، يعبرون بالفعل عن آرائهم على تلك المنصات، ويميلون إلى التمسك بهذا الرأي والتعبير عنه علنًا.
ولفتت الدراسة إلى أن “الهمهمة- murmuration” تُقدِّم رؤى يمكن أن تكمل المعلومات التي تم جمعها من خلال المسح التقليدي للآراء، وتختلف عن التنقيب في وسائل التواصل الاجتماعي عن نصوص من تغريدات محددة، حيث تستفيد “الهمهمة-murmuration” بشكل كامل من الجانب الديناميكي لوسائل التواصل الاجتماعي، فعند إزالة النص من سياقه، يصبح من الصعب تحديد الأسئلة حول ماهية السبب الذي أدى إلى النقاش، ومتى بدأ، وكيف تطور بمرور الوقت، لذا تسمح “الهمهمة- murmuration” بالبحث الذي يستخدم بيانات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أفضل لدراسة الرأي العام كشكل من أشكال التفاعل الاجتماعي والكشف عن الديناميكيات الاجتماعية الأساسية.
- نتائج الدراسة
كشفت نتائج الدراسة أن الشبكات التي تتحدث عن السياسة على تويتر أظهرت اهتمامًا مشتركًا، – وإن كان بمستويات متفاوتة من الشدة-، للأحداث التي قد لا تتوافق حتى مع وجهات نظرهم؛ وحاولوا تأطير تلك الأحداث من زوايا مختلفة بما يتماشى مع قيمهم الحالية.
وقد تنخرط القطعان في مثل هذه الممارسات ليس لإقناع العالم الخارجي بقدر ما تستدعي معتقداتهم الأساسية أو مقدماتهم الأيديولوجية للدفاع عن غرورهم ضد أي دليل تخريبي أيديولوجي. وبدلاً من ذلك، قد ينتهزون الفرص التي تتيحها لهم تلك الأحداث البارزة للتنافس على القوة الخطابية من خلال تقديم تعريفات معينة للقضايا، وتشكيل الاستجابة العامة المقابلة.
وتشير الدراسة إلى أنه من خلال تحديد “قطعان” مختلفة، وفحص كثافة ونمط ومحتوى تعبيرهم، يمكن اكتساب رؤى أعمق وأبعد بكثير من موقف الليبراليين والمحافظين بشأن قضية معينة. وعلى هذا النحو، يمكن رصد اختلافات في الرأي داخل المعسكر الأيديولوجي الواحد، وكذلك آراء أشخاص لا يُفترض عادةً أن يكون لهم رأي في قضايا معينة.
وعلاوة على ذلك، يمكن تتبع كيف يمكن أن تكون كثافة التعبير وتأطير قضايا القطعان المختلفة مرتبطة مؤقتًا بمحاور نقاش الشخصيات السياسية، واهتمام وسائل الإعلام الإخبارية وتغطيتها، مما يمكن أن يُلقي مزيدًا من الضوء على كيفية تدفق المعلومات والاتصالات في نظام إعلامي مختلط.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكنها فقط مساعدة الباحثين في تحديد آراء أكثر دقة، ولكن أيضًا الكشف عن آراء مجموعات سكانية فرعية ذات معرفة متخصصة وتوجهات فريدة تجاه موضوع ما.
ويمكن للنهج المركب الذي طرحته تلك الدراسة تحت اسم “الهمهمة- murmuration“، والذي يجمع بين النصوص وبنية الشبكة الاجتماعية أن يفصل التعبير عن الرأي، ويعطي النصوص معنى أكمل، مما يساعد على اكتشاف أنماط التعبير والتفاعل المرتبطة بالجهات الفاعلة الاجتماعية وشبكاتها. وبالتالي الاستفادة بشكل أفضل من بيانات وسائل التواصل الاجتماعي لدراسة الرأي العام كشكل من أشكال التفاعل الاجتماعي، والكشف عن الديناميكيات الاجتماعية الأساسية.