أدت التطورات الرقمية وتزايد الاعتماد على مواقع التواصلالاجتماعي إلى تسهيل التقارب والتعارف بين البشر وتبادلالآراء والأفكار، وباتت تلك المنصات بمثابة حاضنة بيئيةواجتماعية وتفسيرية تُشكّل رؤية المستخدمين للواقع وثقافتهم، كما أضحت من أهم وسائل تحقيق الاستكشاف المعرفيوالنقاش المجتمعي.
وكان لتنامي استخدام مواقع التواصل الاجتماعي تأثيراتثقافية مباشرة، فقد أسهمت في انحسار تأثير مصادر أخرىللمعرفة؛ كالكتب والصحف والمجلات العلمية، وأضحىاستخدام الوسائل الإلكترونية البصرية والسمعية يتقدم علىالمواد المطبوعة. ولم يقتصر التأثير على مصدر المعرفة، بل إنهامتد ليشمل سلوك الجمهور، إذ تُظهر أبحاث ركّزت علىتحليل سلوك القراءة في البيئة الرقمية أن الانخفاض فيالانتباه أصبح سمة وثيقة الصلة بعمليات التصفح التي يجريهاالأفراد.
تستند قوة وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل ثقافةالجمهور، في اعتماد الأفراد على تلك المنصات من أجل تحقيق مجموعة أهداف، تتمثل في فهم الفرد ذاته، والفهمالاجتماعي للبيئة التي يعيش فيها، والتوجيه سواء توجيه العقلللتصرف أو توجيه التفاعل مع الآخرين، وكذلك التسلية لتحقيقالانسجام الاجتماعي.
وتشمل التأثيرات الناجمة عن اعتماد الجمهور على منصاتالتواصل ثلاثة اتجاهات رئيسية وهي:
وفيما يتعلق بالأثر الخاص بتشكيل الثقافة، يمكن القول بأنالتكنولوجيا المتقدمة يمكنها أن تُوزّع ثقافة متدنية، وهنا تبرزثمة إشكالية مرتبطة بمنصات التواصل وهي انتشار الأخبارالكاذبة والمفبركة التي تتمتع بالقدرة على صناعة واقع كاذبيصدقه الأفراد الذين يتفاعلون معه وينساقون وراءه باعتبارهحقيقة واقعة، خاصة في ظل أن منصات التواصل الاجتماعيأصبحت حاليًا المصدر الرئيسي للأخبار للكثير من فئاتالمجتمع لا سيما الشباب.
ولأن وقف طوفان التضليل والإشاعات ومنشورات ما يسمىبـ“الذباب الإلكتروني” مسألة صعبة بالنظر إلى القدرة علىالهرب والتمدد والتمويه، يكمُن الحل في التثقيف والتوعيةالإعلامية للمستخدمين باعتبارها أولوية قصوى للوقاية منتأثيرات الأخبار الكاذبة في عصر بات فيه الفرد أكثر احتمالًالقبول الادعاء الذي يعتمد على مشاعره ومعتقداته أكثر منالمبني على الحقائق.
يتشكّل في مواقع التواصل الاجتماعي أسلوب مختلف منالخطاب الثقافي، وفي هذا الإطار ينظر إلى النقاشات بينالمستخدمين على أنها تتسم بغياب الحوار العقلاني الرصينالقائم على تبادل الحجج والإنصات للآخر، إذ تسود لغة متدنيةوحالة من العدائية والرفض للرأي الآخر، فكل طرف يرى فينفسه محتكرًا للحقيقة المجردة التي لا يشوبها شائبة.
كما أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير فيصناعة التغير الثقافي، وذلك بالتحوُّل من ثقافة النص إلىثقافة الصورة، وهذا يجعل فعل الاستقبال سريعًا من جهة، وفرديًّا من جهة ثانية، فقد صار الإنسان اليوم في مواجهةمباشرة فردية مع العالم عبر الشاشة الصغيرة التي يتصفحمنها المنصات الاجتماعية في أي وقت وأي مكان، وفي مقابلهذه الفردية والتلقائية والمباشرة فإن الصورة لا تستقر علىحال، وبما أنها سريعة ومتجددة فإنها عاجزة عن الثبات علىعكس ما كانت عليه الثقافة التقليدية المعتمدة على الكلمةالمكتوبة، حيث تثبت الفكرة ربما لقرون وليس سنوات فحسب.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن تحولاتالبيئة الاتصالية التي أنتجتها مواقع التواصلالاجتماعي أسهمت بشكل كبير في تغيير عواملالتلقي والإنتاج الثقافي، وهو ما يتطلب منالمؤسسات الثقافية استغلال منصات التواصل منأجل إنتاج محتوى ثقافي في قوالب تلائم طبيعةتلك المنصات، وتُشبع احتياجات المستخدمين، وتُشكّل دافعًا يقودهم إلى العودة لمصادرالمعلومات التقليدية كالكتب، والابتعاد عن الثقافةالسمعية الرائجة على المنصات الاجتماعية، والمستندة إلى مصادر غير رسمية كالأقران أو آراءالمشاهير والمؤثرين الذين في غالب الأحوال لايكونون على دراية أو معرفة حقيقيّة بالقضايامحل النقاشات، الأمر الذي يؤدي إلى تسطيح فكرالأفراد وبالتبعية العقل الجمعي للمجتمع.
وأخيرًا، يبقى التأكيد على أن الثقافة السمعية هيانعكاس لطغيان روح النقل والتقليد على العقلالجمعي، وتُعد مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة معزّزة لانتشار ذلك النمط من الثقافة بالنظر إلى النزعة الاستهلاكية التي ترسخها تلك المواقع فينفوس المستخدمين.
ويُشكّل الاعتماد شبه الحصري من جانبالمستخدمين على مواقع التواصل كمصدر لتكوينالمعارف والإدراك، خطرًا كبيرًا في ضوء انتشارالأخبار المضللة والأكاذيب عبر تلك المنصات، وهوما يُهدّد استقرار المجتمعات، ويُسهّل من عمليةاختراقها، ويُوفّر فرصة لاحتلال العقول برواياتكاذبة ضمن استراتيجيات حروب الجيل الرابع التي تستهدف في المقام الأول إضعاف وطمس الهوية الثقافية.