تعد “صحافة البيانات-Data Journalism” نموذجًا للمزج بين البيانات الرقمية والتكنولوجيا الحديثة في ظل التدفق الكبير للبيانات والمعلومات التي يتم التعامل معها من خلال الحاسب الآلي من أجل تقديم تغطية متعمقة وسريعة، وأصبح استخدام البيانات جزءًا لا يتجزأ من الصحافة الاستقصائية، إذ يحتاج الصحفيون على نحو متزايد إلى معرفة كيفية الحصول على الأرشيف المتنامي من المعلومات الرقمية وتنقيته وتحليله وتوظيفه في الأخبار والتقارير والقوالب الصحفية المختلفة التي يتم إنتاجها.
ويبرز هذا النمط من الصحافة المتخصصة الدور المتزايد للبيانات الرقمية والمرسومة في إنتاج قصص خبرية تضم عرضًا مرئيًا مبسطًا للبيانات يسهل على الجمهور فهمه واستيعابه، وهو ما يتخذ أشكالًا عدة مثل الإنفوجراف الثابت أو المتحرك أو التفاعلي أو حتى الفيديوجراف، فكل هذه الأنواع تعبر عن أساليب تطويع البيانات الرقمية وتقديمها في صورة مرئية.
وقد زاد الاهتمام محليًا وعالميًا بصحافة البيانات لتصبح جزءًا من المؤسسات الصحفية، تُنشأ لها مواقع متخصصة على الإنترنت، كما توجد لها أقسام وصحفيون قائمون على تصميم وتطوير وإنتاج صحافة البيانات سواء في الصحف المطبوعة أو الإلكترونية.
ما “صحافة البيانات –journalism Data“؟
يوجد ثمة قدر من اللبس حول مفهوم صحافة البيانات حتى بين الصحفيين أنفسهم، فبينما يرى البعض أنها لا يمكن أن تصنف بحال ضمن الأنواع الصحفية، يرى آخرون أنها بداية لعصر جديد في عالم الصحافة، ويتداول البعض مسميات عديدة لمفهوم واحد منها “صحافة البيانات- Data Journalism” أو “الصحافة المدعومة بالبيانات- Data driven journalism” أو “صحافة قواعد البيانات- Data base journalism” أو “الصحافة المحوسبة- Computational journalism” أو “الصحافة بمساعدة الحاسب- Computer assisted reporting”، وأخيرًا التمثيل البصري للبيانات- Visualization Data”.
وتعد صحافة البيانات مصطلحًا شاملًا يضم مجموعة متزايدة من الأدوات والتقنيات بغرض توفير المعلومات والتحليلات التي تساعد على كتابة تقارير صحفية ومواد إخبارية مبتكرة.
ويمكن تعريف صحافة البيانات بأنها صحافة متخصصة أو تخصص جديد في الصحافة لإبراز الدور المتزايد للبيانات الرقمية والمرسومة في إنتاج ونشر المعلومات في عصر الثورة الرقمية، وهي تعكس التفاعل المتزايد بين منتجي المحتوى الصحفيين، والمتخصصين في عدد آخر من المجالات مثل التصميم الفني وعلم الكمبيوتر والإحصاء. أما من وجهة نظر الصحفيين فإن صحافة البيانات تمثل مجموعة متداخلة من المهارات المستخدمة في المجالات المختلفة لعرض البيانات بصورة مبسطة في قالب رسومي جذاب لجمهور القراء.
وفي هذا الإطار، يبرز التعريف الذي قدمه أليكس هوارد زميل مركز تاو للصحافة الرقمية في جامعة كولومبيا لصحافة البيانات بأنها “جمع البيانات وتنقيتها وتنظيمها وتحليلها ونشرها لدعم العمل الصحفي”، فيما أشار باحثون آخرون إلى أنها تعني ببساطة استخدام البيانات كمصدر بالإضافة إلى البشر.
ويثار هنا تساؤل حول مراحل إنجاز صحفي البيانات لقصة صحفية؟ والإجابة ببساطة تتمثل في سلسلة من الخطوات وهي العثور على البيانات، التحقق من البيانات، تحليل البيانات، ثم اختيار عرض البيانات المناسب، ويلي ذلك تصميم الجرافيك، وأخيرًا كتابة القصة الصحفية من خلال العرض البصري للبيانات.
ماذا عن أهمية صحافة البيانات؟
منذ نشأة الصحافة وحتى الآن كانت ولا تزال البيانات جزءًا رئيسيًا من مكونات العمل الصحفي، إلا أن صحافة البيانات اكتسبت أهمية كبيرة في عصر تدفق المعلومات. ولا تعد صحافة البيانات بديلًا عن الصحافة التقليدية لكنها إضافة إليها فهي تخدم غرضين مهمين، حيث تعمل على إيجاد مواد إخبارية فريدة بعيدًا عن الطريقة التقليدية، كما تساعد الصحافة على أداء دورها كإحدى أدوات الرقابة الجماهيرية على السياسات الحكومية.
ولخصت ورقة بحثية بعنوان “صحافة البيانات ودورها في نشر الإحصاءات الرسمية” للباحثة أمل خيري أمين، أهم أسباب اللجوء إلى صحافة البيانات فيما يلي:
تصفية البيانات المتدفقة:
فبعد أن كان الصحفي يعاني من شح المعلومات، أصبحت المعلومات وفيرة ومتدفقة على شبكة الإنترنت بفضل تطور شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما ساهم في تدفق البيانات بشكل سريع فأصبح على الصحفي أن ينتقي من هذه المعلومات ويقوم بعملية تصفية وتدقيق.
معالجة البيانات لاستخلاص تقارير صحفية جذابة:
تساعد صحافة البيانات على سرد تقارير صحفية أكثر ثراءً، فلم تعد مهمة الصحفي قاصرة على جمع المعلومات وصياغة تقرير خبري، بل أصبح يتعين عليه أن يقوم بمعالجة البيانات وتحليلها مستفيدًا من التكنولوجيا الرقمية لسرد قصة صحفية مميزة.
زيادة مصداقية وموثوقية التقارير الصحفية:
تقوم صحافة البيانات على تحليل بيانات حقيقية من مصادر محددة يذكرها الصحفي، مما يزيد من مصداقية المعلومات التي يتضمنها تقريره الصحفي فبدلًا من أن ينسب معلومات التقرير لمصادر مجهولة أو مصدر مطلع أو مصدر رفض ذكر اسمه وغير ذلك، فإنه يذكر مصدر بياناته من جهة رسمية حكومية أو دولية كالبنك الدولي أو منظمة الصحة العالمية أو جهاز الإحصاء الوطني في الدولة أو وزارة المالية.. وغيرها، مما يضفي على تقريره الدقة والموثوقية، ويمكن للقارئ المتشكك أن يرجع لهذه البيانات ليتأكد من صحتها.
إثارة الاهتمام لدى الرأي العام بقضايا المجتمع:
تساعد صحافة البيانات على استكشاف العلاقات غير الواضحة بين البيانات، ومساعدة القارئ في الحصول على المزيد من المعلومات التي يصعب عليه الوصول إليها أو فهمها واستخلاص معلومة تفيده منها، ومن أمثلة ذلك ما قام به الصحفي ستيفن دويغ في مجال استخدام وتحليل البيانات بمساعدة الحاسوب، والذي عمل على تحليل بيانات إعصار أندرو الذي ضرب جنوب ولاية فلوريدا عام 1992، وقام برسم خريطة لحجم الضرر الذي وقع بمحيط الإعصار، وخريطة أخرى تبين سرعة الرياح، مما كشف عن أن المنازل الجديدة كانت أكثر عرضة للضرر من جراء العاصفة، ما يعني أن قوانين البناء في الولاية وغياب الرقابة والتفتيش على الوحدات السكنية الجديدة تسببت في تزايد حجم الضرر. وقد فاز دويغ بجائزة “بوليتزر” المرموقة في عام 1993 عن هذا التقرير، الذي يعد بمثابة مصدر إلهام كبير لما يمكن الوصول إليه عن طريق البيانات.
ربط القارئ بالبيانات على المستوى الشخصي:
تسهم صحافة البيانات في توثيق الصلة بين التقرير الصحفي والفرد على سبيل المثال يقوم موقع “بي.بي.سي”، وصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية بعمل الميزانية بأسلوب تفاعلي، حيث يستطيع المرء معرفة تأثير الميزانية عليه بشكل شخصي وليس بشكل عام.
كما تعالج صحافة البيانات مشكلة عدم القدرة على استيعاب تدفق المعلومات والتعامل معها بالسرعة نفسها والكم الذي تصل به، إذ إن المعلومات المأخوذة من وسائل الإعلام، سواء المطبوعة أو المرئية أو المسموعة، تؤثر على اختيارات المواطنين وسلوكهم، لذلك تعتبر صحافة البيانات عاملًا مساعدًا للفرد في اتخاذ قراراته.
اجتذاب جمهور أوسع من القراء:
تتعامل صحافة البيانات مع حقيقة التغيير الذي طرأ على جمهور القراء؛ ففي عصر التكنولوجيا والسرعة الفائقة، لم يعد القارئ لديه الوقت أو المثابرة على قراءة صحيفة كاملة أو تقرير صحفي مطول يعتمد على السرد اللفظي فقط، بل أصبح الكثير يتصفح عناوين الصحف عبر هاتفه المحمول، وتتدفق عليه التقارير الصحفية عبر تطبيقات الأخبار، لذا فإن صحافة البيانات ظهرت لتتماشى مع هذا التطور، وتغير السرد الصحفي إلى صور ورسوم وخرائط تفاعلية وعناوين جذابة.
هل صحافة البيانات عمل فردي أم جماعي؟
يمكن أن تكون صحافة البيانات عملًا فرديًا مثلما يمكن أن تكون عملًا جماعيًا، فبعض الصحفيين قادر على تطوير مهاراته التكنولوجية، فيما يلجأ البعض الآخر إلى التعاون مع مصممي الجرافيك من أجل نشر قصصه الصحفية أو مع مطوري البرمجيات من أجل الحصول على البيانات. ويتوقف النمط الذي تتبعه الصحيفة بقدرتها المالية فبدلًا أن تشغل مصمم جرافيك ومهندس مونتاج وغيره، يمكنها أن تكتفي بالصحفي الشامل وهو ذلك الصحفي القادر على القيام بكل هذه التفاصيل بمفرده.
وبعض الوسائل تلجأ إلى الاعتماد على فريق عمل يتألف من الصحفي ومصمم الجرافيك ومطور البرامج، ويكون لكل فرد مهام معينة تتماشى مع اختصاصه، وفي هذه الحالة يكتفي الصحفي بالبحث عن البيانات وجمعها والتحقق منها وتنقيتها وتحليلها ووضع سياق القصة الصحفية.
أما مصمم الجرافيك فيقوم برسم الأشكال البيانية على الحاسوب ويختار الألوان والرموز، فيما يحاول مطور البرمجيات تطوير برامج تساعد الصحفي على الحصول على البيانات أو مصمم الجرافيك لتقديم عرض جيد للبيانات أحيانًا عبر كتابة كود خاص.
ويعتبر مطورو البرامج والمصممون جزءًا مهمًا من العملية للعثور على القصص وتقديمها وتصميم كيفية تفاعل المستخدمين معها، ولذا يجب أن يكون العمل تشاركيًا ومبنيًا على التعاون بين جميع الأطراف.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التطور الهائل في وسائل الاتصال وثورة البيانات وتدفقها الكبير والمعقد شكّل تحديًا كبيرًا في طرق عرض ونشر البيانات بالقوالب الصحفية التقليدية، ولذلك برزت أهمية صحافة البيانات في عصر التكنولوجيا الرقمية، كما ساهم تدفق المعلومات في ظل اتجاه الحكومات حول العالم إلى الرقمنة وإتاحة البيانات في توافر الأساس الذي يقوم عليه هذا النمط من الصحافة.
وأخيرًا، يتمثل الفرق بين صحافة البيانات والصحافة التقليدية في اعتماد الصحفي بشكل أساسي على قواعد البيانات لخلق قصص خبرية تثير الرأي العام. وقد شهدت صحافة البيانات تطورًا واضحًا خلال السنوات الأخيرة مع انتشارها بالساحة الإعلامية، بل إنها أصبحت تدرس في كليات ومعاهد الصحافة حول العالم.