بعد سنوات من الجدل حول طبيعة استخدام الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب منصات التواصل الاجتماعيّ؛ لمشاركة محتوى مضللّ وإثارة تأجيج الملايين من مُتابعيه، اتّخذ عمالقةُ وسائل التواصل الاجتماعيّ فيسبوك وتويتر وسناب شات أخيرًا موقفًا واضحًا، تمثّل في قرار تويتر وسناب شات حظْرَه بشكل دائم، بينما قام فيسبوك بحظْر حساب الرئيس الأمريكيّ المنتهية ولايتُه على الموقع لأجَل غير مُسمى.
وتدفع تلك التطوراتُ إلى طرح سلسلة من التساؤلات؛ منها هل يمكن أن يشير هذا إلى نقطة تحوّل في كيفية تعامل شركات وسائل التواصل الاجتماعي مع المحتوى الضار المحتمل مشاركتُه على منصاتها؟ وهل يمكن أن تبشر بحقبة جديدة من الإصلاحات لوسائل التواصل الاجتماعيّ من خلال السياسات الحكومية والتنظيم الذاتي؟
انقسامٌ حول قرارات حظْر المِنصات لحسابات ترامب
ووفقًا لمجلة “هارفارد بزنس ريفيو- Harvard Business Review”، فإن حظْر ترامب بالنسبة لكثيرين كان مطلبًا طال انتظارُه، بينما شجَب آخرون هذه القرارات؛ باعتبارها تُمثّل انتهاكًا لحرية التعبير.
وهُنا تجدرُ الإشارةُ إلى أن التعديل الأوّل من الدستور الأمريكيّ (الجانب المتعلق بمنع صياغة أي قوانين تحدُّ من حرية التعبير) لا يحمي سوى خطاب الأفراد من اضطهاد الحكومة الأمريكيّة، فلا يوجد شيء غير قانوني في قيام شركة خاصة بمراقبة الأشخاص على منصتها.
ولكن حتّى لو لم تكن هذه مشكلة قانونية فيما يتعلق بالتعديل الأول، فإن السؤال عن متى وكيف يكون مناسبًا للشركات الخاصة حذفُ الأشخاص من نظامها الأساسي – خاصّة الشخصيات العامة البارزة مثل ترامب – لا تبدو إجابتُه واضحةً.
وقد اعتبر كثيرٌ من الأمريكيين أنه بغض النظر عن حريّة التعبير، فإن هذه الإجراءاتِ تُوضّح التحيّزَ المتأصّل الذي يشعرون به في وسائل الإعلام ضد الأصوات المحافظة، بل إنّ المستشارة الألمانية أنجيلّا ميركل أقرّت صحّة هذه المخاوف، حيثُ أشار المتحدث باسمها إلى أنّ “الحقّ في حريّة الرأي له أهميّة أساسيّة، معتبرةً أن تعليق حسابات الرئيس الأمريكي بشكل دائم يُمثّل إشكاليةً.
في الوقت نفسه، يقرّ أولئك الذين يعتقدون بأن الحظْر كان قراراً مناسبًا، بأنّ مجرّد حظْر حساب واحد ليس حلًّا مناسبًا لمعالجة القضايا عميقة الجذور، التي أدت إلى أحداث اقتحام الكونجرس.
ولا شكّ أنّ منشورات ترامب كانت عاملًا مهمًّا في تلك الأحداث، ولكنْ يجب أيضًا معالجةُ الميْل الأوسع لمنصّات التواصل الاجتماعيّ للترويج لنظريات المؤامرة وتضخيمها والمجموعات الهامشية، وغير ذلك من أنماط المحتوى الإشكاليّ.
تأثيرُ الاختلافات بين الإعلام التقليديّ والجديد على الجهود التنظيميّة
إنّ أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل من الصعب للغاية حلّ هذه القضايا، هو أن وسائل التواصل الاجتماعيّ تختلف اختلافًا جوهريًّا عن وسائل الإعلام التقليديّة (الصحف والإذاعة وشبكات البث)، وبالتالي فإن الأساليب التقليدية لتنظيم منصات التواصل الاجتماعيّ فشلت إلى حد كبير.
وبحسبِ ديبايان جوش، المدير المشارك لمشروع المنصّات الرقميّة والديمقراطيّة بكُليّة هارفارد كينيدي فإن النقطة الأولى من بين تلك الاختلافات تتمثّلُ في أنّ الأخبار الكابليّة التقليديّة تكون في نطاق تردُّديّ محدود، فهُناك عدد محدود من وسائل الإعلام الإخباريّة، ومن النوافذ والعناوين الرئيسية التي يمكن من خلالها التأثيرُ على أكبر عدد مُمكن من الجمهور.
في المقابل، توفّر منصات التواصل الاجتماعيّ نطاقًا تردديًّا غير محدود مع ملايين الحسابات، التي يمكن لكل منها استهداف جمهور أضيق.
أمّا الاختلافُ الثاني فيتعلق بطبيعة إنتاج المحتوى، فالمحتوى الإخباريّ التقليدي يتم إنتاجه بإشراف تحريري، حيث تحدد مجموعة من المنتجين يرأسهم مديرون تنفيذيون الشخصيات التي يتم استضافتها، ووجهات النظر التي سيتم بثُّها عبر شبكاتهم أو منحهم مساحة نشر، وهذا يعني أنه من الأسهل على الشركات الإشراف على المحتوى الذي تتم مشاركته على أنظمتها الأساسية، وبالتبعية أيضًا مساءلة الجهات الخارجية لتلك الشركات، وهذا على النقيض تمامًا من وسائل التواصل الاجتماعيّ، فالأنظمة الأساسية تُعَدُّ مجرّد قنوات للمحتوى الذي ينشئه المستخدم، والذي يخضع لإشراف أقلّ بكثير.
ويتعلّق الاختلافُ الثالث، بمدى القدرة على اختيار المحتوى، فمستهلكو وسائل الإعلام التقليديّ يقومون باختيار المحتوى بشكل استباقي – سواء كان ذلك عرضًا يختارون مشاهدتَه أو مقالًا يختارون قراءتَهُ -، لكنّ مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعيّ لا يملكون أيَّ سيطرة تقريبًا على المحتوى الذي يرونه، فالأنظمةُ الأساسية للمنصّات تستخدم خوارزميات معقدةٍ؛ لخدمة المحتوى الذي يعتقدون أنه سيُبقي المستخدمين يتصفحون المنصة.
والأهمُّ من ذلك، فإنّ منصات التواصل الاجتماعيّ وكثيرًا من شركات الوسائط التقليدية مدفوعة بالأرباح وهذا أمر طبيعي، لكنّ استراتيجياتهم لتحقيق أقصى قدر من الأرباح تختلفُ اختلافًا جوهريًّا، وبالتالي فإنّ تطبيق الأطر التنظيمية نفسها عبرهما غير منطقيّ.
وفي حين أنّ نموذج أعمال وسائل الإعلامية التقليدية يُمكن أن يؤديَ إلى استقطاب كبير، فإنّ النطاق التردديّ المحدود والإشراف التحريري بشكل عام يُحفز هذه الشركات على محاولة الوصول إلى أسواقٍ واسعةٍ، مما يمنعُها من نشر محتوى هامشيّ.
أمّا نموذج أعمال منصّات التواصل الاجتماعيّ فيقوم على الاستفادة من بيانات المستخدمين الفرديين لدفع محتوى عالي التخصيص من أجل زيادة وقت التمرير إلى أقصى حد، وتحفيز المحتوى الأكثر تخصيصًا، وهو ما قد يكون محتوى أكثر تطرفاً.
ويُشكّل هذا النوع من الاستقطاب المفرط تهديدًا خطيرًا بشكل فريد، وقد أوضحت أعمال العنف في مبنى الكابيتول (مقر الكونجرس) ذلك الخطر بشكل واضح، ما قد يمكن أن يكون بمثابة نقطة تحوّل حقيقية في الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى حلّ.
متطلباتُ الإصلاح الفعّال والمنهجيّ لوسائل التواصل الاجتماعيّ
ويُشير الحظر غير المسبوق الذي فرضه فيسبوك وتويتر على الرئيس ترامب إلى أن حقبة جديدة من تنظيم وسائل التواصل الاجتماعيّ قد تكون في متناول اليد، لكنّ هناك عددًا قليلًا من المجالات الرئيسية التي يمكن توقع رؤية إصلاح فعّال ومنهجيّ بشأنها في الأسابيع والأشهر القادمة، بحسب مجلة “هارفارد بزنس ريفيو”.
وفي هذا الإطار، تُبرز الإجراءات التطوعيّة التي اتّخذها فيسبوك وتويتر وغيرهما من منصّات التواصل الدور المهم للتنظيم الذاتيّ من داخل الصناعة، فعلى سبيل المثال أجرى تويتر عددًا من التغييرات الإضافية بجانب حظر ترامب تمثّلت في حظر أكثر من 70 ألف حساب مرتبط بمجموعة نظرية المؤامرة “كيو آنون- QAnon”، بينما بدأ فيسبوك في حظر المشاركات بعبارة “أوقفوا السرقة”.
كما أزال موقع يوتيوب ما اعتبرها مقاطع فيديو مُحرِّضة على العنف على حساب ترامب وفَرَضَ حظرًا لمدة أسبوع عليه، بينما أغلق تطبيق سناب شات حساب ترامب نهائيًّا، وتوقفت شركة المدفوعات الرقمية “ستريب- Stripe”، عن معالجة المدفوعات لموقع حملة ترامب على الإنترنت.
ومع ذلك، فإِنَّ استغراق منصات وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسية مثل فيسبوك وتويتر وقتًا طويلاً لفرض الرقابة على ترامب أثار تساؤلات جدية حول ما إذا كان العنف الذي شهده العالم خلال اقتحام الكونجرس كان بالإمكان تجنّبُه تمامًا إذا فعلت الشركات المزيدَ من أجل الحماية من “الاستقطاب السياسيّ الخوارزميَ- algorithmic political polarization”.
لقد اعتبر البعض أن الإجراءات الأخيرة لهذه الشركات ليست أكثر من مجرّد خُطوة للحفاظ على الذات، ومحاولة للفوز بدعم الإدارة الديمقراطيّة القادمة التي من المحتمل أن تكون أكثر صرامة بشأن تنظيم وسائل التواصل الاجتماعيّ، أي أنّ تلك الإجراءات لا تعبر عن اعتراف حقيقيّ بالضرر الذي يمكن أن تسببَّه منصّاتُها.
وعلى هذا النحو سيكون من الضروريّ ألّا تستخدم شركات منصّات التواصل والإدارة الأمريكيّة الجديدة ذلك الوضع الراهن كفرصة حزبية لإسقاط جهة فاعلة بعينها أو تعزيز قضيّة سياسيّة محددة، وبدلًا من ذلك لا بد أن يتمَّ سَنَّ إصلاحات لمعالجة الأسباب الجذريّة للمشكلة، ولتحقيق هذه الغاية سيكون التنظيم الذاتيّ مُكوّنًا مهمًّا، ومن المؤكد أنّ الدعم الحكوميّ سيكون مطلوبًا أيضًا من أجل تحقيق تغيير حقيقيّ.
وتشير الأحداث الأخيرة بالإضافة إلى المخاوف المستمرة المتعلقة بالاحتكار إلى أنّه في وقت مبكر من إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن من المتوقّع إجراءُ دراسة لكيفيّة تكييف اللوائح؛ لحماية الجمهور بشكل أفضل من المحتوى الضارّ.
فعلى سبيل المثال قد يدفع الكونجرس من أجل إلزام منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ بالوفاء بمعايير معينة تتعلّق بالشفافيّة وحماية البيانات من أجل التأهّل للحماية بموجب المادة 230 من قانون آداب الاتصالات، وتوجد بالفعل مقترحات من الحزبَيْن الديمقراطيّ والجمهوريّ في هذا الشأن. ويمكن للكونجرس أن يقترح عدة بنود لتعزيز المسؤولية في إطار المادة 230، بحيث يمكنُ تحميل شركات وسائل التواصل الاجتماعيّ المسؤوليةَ عن المعلومات المضلّلة التي ينشئها المستخدمون أو المحتوى البغيض.
وبعد فوز الديمقراطيين بالرئاسة والسيطرة على الكونجرس بغرفتَيْه (النواب والشيوخ)، من المحتمل أن توجد إصلاحات قويّة في مجالات تنظيم التكنولوجيا، بما يشمل الخصوصية والمنافسة في السوق وشفافية الخوارزميات.
وفي حين أن اقتراح الخصوصيّة الأساسيّ لإدارة الرئيس الأمريكيّ السابق باراك أوباما كان توقَّفَ فعليًّا في الكونجرس الذي سيطر عليه الجمهوريون آنذاك، فإن إدارة بايدن ستحظى بدعم الأغلبيّة الديمقراطيّة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، مما سيمكّن على الأرجح من تعزيز لوائح الخصوصيّة الشاملة.
ومن المتوقع تمرير مشروع قانون شفافيّة الإعلانات السياسيّة الرقميّة الذي سبق وأن قُدِّم برئاسة السيناتور مارك وارنر، لكنّ الكونجرس الجمهوريّ أعاقه، وستمثّل تلك الخطوة فوزًا سريعًا محتملاً لمناصري الخصوصية.
نخلصُ ممّا سبق إلى أنّ كيفيّة عمل شركات التواصل الاجتماعيّ والجهات التنظيميّة اليومَ ستحدد مستقبلَ الخطاب العام؛ لذا يجب على شركات التكنولوجيا الكبرى اتّخاذ قرار حاسم، هل تستمرّ في إشراك جميع العملاء دونَ قيود وتُخاطر بالتدخّل التنظيميّ الصارم، أم أنّها ستواصل بشكل استباقي كبْحَ التطرّف من خلال مزيد من الاعتدال الذاتيّ، مثل الإجراءات التي اتّخذها الكثيرون ضد ترامب وأنصاره؟
قطعًا لا توجد إجابات سهلة، لكنّ أحداث واشنطن الأخيرة أظهرت استحالة استمرار الوضع الراهن في فضاء التواصل الاجتماعيّ على ما هو عليه الآن.