على مدى السنوات الماضية، عملت إيران على إنشاء شبكة واسعة من الميليشيات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يستخدمها النظام الإيراني في إطار سلوكه العدواني ومساعيه لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ويوظفها كإحدى الأوراق التي تعوِّل عليها طهران في صراعها مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
وتمثل تلك الاستراتيجية جزءًا من مساعي نظام الملالي لتطبيق مشروعه الخبيث لـ”تصدير الثورة” إلى محيطه الإقليمي، فاعتمدت إيران على البعد الطائفي والأيديولوجي في تشكيل ميليشيات داخل بعض الدول في المنطقة، مستغلة حالة الفوضى والانقسامات السياسية فيها، فأصبحت تلك الميليشيات تدين بالولاء إلى النظام الإيراني دون الولاءات القومية، وهو ما تؤكده ممارسات وتصريحات تلك الجماعات، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني وأمينه العام حسن نصر الله، وميليشيا الحوثي في اليمن بزعامة عبد الملك الحوثي.
الحرب العراقية الإيرانية والتحول نحو الاعتماد على الميليشيات في المنطقة
ووفقًا لوكالة بلومبرج الأمريكية، فإن لجوء النظام الإيراني إلى تمويل وتسليح الجماعات المسلحة في الخارج أصبح نهجًا رئيسيًّا في السياسة الإيرانية بعدما أظهرت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) محدودية قدرة إيران على الانتصار في صراع مفتوح، فالتكلفة الاقتصادية والبشرية كانت مدمرة. ومنذ ذلك الحين تجنَّب قادة إيران الحرب المفتوحة، مفضلين خفض معدلات الخسائر، عبر استخدام العمليات السرية والحروب بالوكالة.
ويشير تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إلى أن “إيران” لا تزال المحرك الرئيسي للميليشيات الشيعية في الشرق الأوسط وداعمها الأكبر، لافتًا إلى أن “استراتيجية الدفاع الوطني” الأمريكية سلطت الضوء على استخدام طهران لأنشطة إرهابية ترعاها الدولة الإيرانية، وشبكة متنامية من الوكلاء، وبرنامجها الصاروخي لتحقيق غاياتها في بسط نفوذها بالمنطقة، كما أشار “تقييم التهديد العالمي” الأمريكي لعام 2019 إلى أن “إيران” ربما ترغب في الحفاظ على شبكة من المقاتلين الشيعة الأجانب في سوريا، وقد شارك وكلاء إيران العاملون حاليا في سوريا والعراق ولبنان في عدد ضخم من الأنشطة الإرهابية.
من جانبه يصف الزميل الأول في معهد الشرق الأوسط، أليكس فاتانكا، الروح التوسعية الإيرانية بأنها جزء مما سمَّاه “الحمض النووي لإيران”، مشيرا إلى أن نجاح استراتيجية طهران يعتمد إلى حد كبير على قدرتها على الاستفادة من فراغات السلطة في الشرق الأوسط، ففي الآونة الأخيرة، سعى نظام الملالي إلى توسيع نفوذه من خلال دعم الميليشيات في اليمن وسوريا اللتين تمزقهما الحرب.
وتقوم إيران بذلك بشكل أساسي من خلال فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي سيطر عليه الجنرال قاسم سليماني، حتى مقتله في غارة أمريكية بالقرب من مطار بغداد مطلع يناير الماضي، حيث يقوم فيلق القدس بتدريب المقاتلين في صفوف الميليشيات المتحالفة مع إيران ويزودهم بالسلاح، بحسب تقرير لمركز صوفان.
وفي هذا الإطار، تناول تقرير أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في سبتمبر الماضي، تفاصيل تتعلق ببرنامج الصواريخ الإيرانية الذي لا يقف عند حدودها فقط، بل يمتد إلى أنصارها من الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، لتواصل بذلك انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي.
ويحذر التقرير من تهديد النظام الإيراني للأمن الإقليمي عبر استخدام الصواريخ الباليستية في هجمات ضد القوات الأمريكية في العراق عام 2020، وأهداف في العراق وسوريا عام 2018، وصواريخ كروز دقيقة ضد منشآت النفط السعودية في سبتمبر 2019.
ونوه التقرير بمواصلة النظام نشر مجموعة من الأنظمة قصيرة ومتوسطة المدى تعمل بالوقود الصلب والسائل، فضلًا عن استمراره في استكشاف مسارات متعددة تسمح له بتوسيع قدراته الصاروخية طويلة المدى.
الميليشيا الحوثية في اليمن الذراع المفضلة لطهران
ورغم أن نيكولاس بلانفورد، الزميل البارز في المجلس الأطلسي يصف حزب الله اللبناني بأنه الأكثر قوة بين وكلاء إيران في الشرق الأوسط، حيث اكتسب من دوره النشط في سوريا تجربة قتالية إضافية، فإن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، ترى أن ثمة العديد من الدلائل التي تشير إلى أن “طهران” تعتقد حاليا أن المتمردين الحوثيين في اليمن يجب أن يكونوا الذراع الإقليمية المفضلة لهم في المواجهة مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى.
وتشير المجلة إلى أن تحوُّل اهتمام إيران من حزب الله إلى الحوثيين لا يعد مفاجأة، فلطالما فكرت طهران بعناية: أيٌّ من الميليشيات المتحالفة معها التي يجب تفعيلها في ظل تصاعد نزاع معين؟ حيث تسعى إيران من خلال استغلال ورقة الحوثيين إلى إثارة مخاطر الصراع وضمان أن يكون أي عمل عسكري تلجأ إليه لا يصل إلى مستوى الحرب التي تكون طرفًا مباشرًا فيها.
وهذا الدور هو ما يقوم به الحوثيون من خلال شن هجمات إرهابية تستهدف المملكة العربية السعودية، في ظل قيادة المملكة للتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن. ويشير مايكل نايتس، الزميل البارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إلى أن “إيران” تستخدم ميليشيا الحوثي، لأن أي رد فعل انتقامي سيقع داخل اليمن وليس في إيران.
كما أن “إيران” تتفهم المخاطر التي ينطوي عليها استخدام كل ميليشيا من ميليشياتها في المنطقة، فإشراك حزب الله في صراعها الحالي مع الولايات المتحدة سيشمل “إسرائيل” حتمًا، وهو ما قد يتسبب في نشوب حرب إقليمية أوسع، وهو احتمال تريد كلٌّ من إيران وحزب الله تجنُّبَه.
وبحسب “فورين بوليسي”، فإن “إيران” ترى أنه لا داعي لإشراك حزب الله في الصراع مع واشنطن، فلديها بالفعل تحت تصرُّفها الحوثيون في اليمن والميليشيات الشيعية الأخرى، لذلك لن يلعب حزب الله دورًا نشطًا إلا إذا كانت هناك حرب شاملة بين الولايات المتحدة وإيران.
العقوبات الأمريكية وتراجُع دعم الميليشيات الموالية لإيران
تأثرت القدرات المالية الإيرانية وتمويلها للميليشيات التابعة لها في المنطقة خلال العامين الماضيين، وتحديدًا منذ أن بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إعادة فرض العقوبات على طهران في عام 2018، وانتهاج إجراءات تستهدف الحرس الثوري، في محاولة لكبح برامج طهران الصاروخية والنووية وتقليص نفوذها في الشرق الأوسط.
وأدت تلك الإجراءات إلى انعكاسات على الدعم الإيراني الكبير للميليشيات الموالية لها في المنطقة، إذ يقدر ناثان سيلز، كبير مسؤولي مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية دعم إيران لحزب الله بنحو 700 مليون دولار سنويًّا، بينما تشير التقديرات الأكاديمية إلى إنفاق إيران على الحرب في سوريا وحدها مبالغ تتراوح ما بين 30 مليار دولار إلى أكثر من 100 مليار دولار حتى الآن.
وقد نقل تقرير لوكالة رويترز للأنباء عن قائد عسكري إيراني القول إنه قبل إعادة فرض الولايات المتحدة للعقوبات، كانت طهران ترسل ما بين 12 إلى 15 مليون دولار شهريًّا إلى ميليشياتها في العراق.
وتبرز حاليا العديد من التساؤلات حول طبيعة تفاعل الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن مع إيران ومدى التغير الذي قد يطرأ في سياسة واشنطن إزاء الملف النووي الإيراني ودعم طهران للميليشيات والأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة، لكن المؤشرات الراهنة تشير إلى أن الاختلافات بين إدارة بايدن وترامب لن تكون اختلافات جوهرية في السياسات ولكنها اختلافات في التكتيكات والأدوات، فقد أدلى بايدن بتصريحات مفصلة بشأن إيران قبل الانتخابات، وتحدث كثيرًا أيضًا عن متطلبات حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وأوضح الخطوط العريضة لسياسته عبر مقالِ رأيٍ نشره على شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية في سبتمبر الماضي أكد فيه الاستمرار في التصدِّي لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والتي تهدد أصدقاء وشركاء الولايات المتحدة في المنطقة. كما أن استعداد بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني مشروط باستعداد إيران للوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن “إيران” بتدخلاتها المستمرة في شؤون دول المنطقة، ودعمها للعديد من الميليشيات المسلحة الإرهابية، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني وميليشيا الحوثي في اليمن، تمثِّل التهديد الرئيسي لأمن واستقرار المنطقة، والعقبة أمام إيجاد حلول للأزمات في لبنان واليمن وسوريا والعراق.
ويستخدم نظام الملالي تلك الجماعات كأدوات لاختبار القدرات الصاروخية التي تعمل على تطويرها تحت ستار برنامج فضائي سلمي. ولذلك يتطلب التصدي للسلوك الإيراني العدائي مزيدًا من التكاتف بين المجتمع الدولي لمحاصرة ذلك السلوك وانتهاج سياسات صارمة للتصدي له، بعدما أثبتت التجربة، عقب الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 فشل سياسة استرضاء طهران، فالنظام الإيراني المتطرف لا يعرف أي لغة غير لغة العنف والإرهاب، وقد استثمر سريعًا ما حصل عليه من أموال بعد رفع العقوبات بموجب الاتفاق النووي، في الدمار والتخريب وهو ما يشهد عليه الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران في اليمن، والممارسة الإرهابية التي تقوم بها تلك الميليشيا.