أدت كثافة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم إلى تغيير طريقة رؤية الأفراد للمعلومات وتلقِّيها ومشاركتها، كما أثارت تلك المنصات الكثير من المخاوف مثل فقدان الأشخاص للخصوصية، وتصاعُد معدلات الجرائم الإلكترونية، والترويج للأفكار المتطرِّفة، ودعم الإرهاب، وتهديد بنية الديمقراطية عبر التأثير في سلوك الناخبين.
ودفعت تلك التحديات إلى تنامي الحديث عن أن القانون المحلي ليس قادرًا بشكل كافٍ على الحد من التداعيات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي على التواصل بين الأفراد وسلامة المجتمعات، ممَّا أدى إلى طرح أفكار حول تولِّي الأمم المتحدة بوصفها الهيئة الدولية الجامعة التي تضم تحت مظلتها 193 دولة، عملية سن تشريع ينظم عمل مواقع التواصل الاجتماعي على أن تتكفَّل المنظمة بإنفاذ العقوبات بحق هذه الشركات العابرة للحدود، حال انتهاك تلك القوانين.
الجدل القانوني حول تنظيم عمل مواقع التواصل الاجتماعي
تشير دراسة لكلية ترينتي كامبريدج البريطانيةإلى أن ثمة جدلا قانونيا يصاحب مسألة تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتنازع الأمر ثلاثة تيارات:
تيار مؤيد لوضع ضوابط قانونية يرى أن مواقع التواصل الاجتماعي شكل من أشكال وسائل الإعلام ومثل أي وسيلة إعلامية أخرى، يجب أن ينظمها القانون.
تيار معارض يعتقد أنه من غير المجدي أن تحاول الحكومة تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، وبدلًا من ذلك يجب أن يكون الأمر متروكًا لمنصات التواصل الاجتماعي لتحمل المسؤولية، وكذلك مستخدمو هذه المنصات.
تيار توفيقي يتبنَّى أنصاره مفهوم “التنظيم المشترك”، حيث من الضروري وجود بعض اللوائح وتطبيق تشريعات لتحقيق التوازن بين تعزيز حرية التعبير وحماية المصالح العامة. كما يرى أن التعرف إلى الجمهور الهائل الذي تلبِّي منصات التواصل الاجتماعي احتياجاته، وكذلك كيفية عمل هذه المنصات، خطوة مهمة لواضعي السياسات الذين يسعون إلى تنظيم عمل شركات مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، تقترح سوزان كراوفورد، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، إعادة تعريف مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها مواقع احتكارية، وضرورة تنظيمها بطريقة مماثلة لمزوِّدي الكهرباء والاتصالات.
ولعل ذلك يشير إلى أن المناقشة الحالية بين المشرِّعين لا تتعلق فقط بفهم الإطار الأساسي لكيفية عمل منصات التواصل الاجتماعي، بل إن هناك جدلا أيضًا يتصل بالتحديد القانوني لماهية وسائل التواصل الاجتماعي ممَّا يجعل من الصعب إعداد تشريعات محلية منظمة لعمل الشركات المالكة لتلك المنصات.
ويعد تقييد حرية التعبير، أكبر قضية تتعلق بالتنظيم الحكومي لوسائل التواصل الاجتماعي، فمعظم البلدان الديمقراطية لديها هياكل قانونية تحمي حقوق مواطنيها في حرية التعبير. كما أنه يُنظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها ساحة مفتوحة لمناقشة القضايا، وهو أمر يحفِّز على تعزيز المشاركة المجتمعية.
ويرى مايكل شيرتوف، وزير الأمن الداخلي الأمريكي السابق، المؤلف المشارك لتقرير حوكمة الإنترنت، أن “حرية التعبير هي أحد العناصر الأساسية للإنترنت”.
تحديات وإشكاليات مرتبطة باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي
في المقابل رصدت دراسة لكلية ترينتي كامبريدج وجود العديد من الإشكاليات المرتبطة باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، التي تراوحت ما بين التحريض على العنف ونشر الكراهية وتهديد الخصوصية ودعم الإرهاب، وهو ما يمكن استعراضه خلال النقاط التالية:
التحريض على العنف ونشر الكراهية، يمكن أن تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف تجاه الأقليات، ومن أبرز الأمثلة على ذلك انتشار خطاب الكراهية ضد المسلمين في ولاية آسام شمال شرق الهند عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بالتزامن مع تجريد الحكومة الهندية ما يقرب من مليوني شخص من الجنسية في أكتوبر الماضي.
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة أفاز العالمية شوهدت المنشورات التي تستهدف الأقليات الدينية والعرقية في ولاية آسام أكثر من 5.4 مليون مرة، مما يدعو إلى التشكيك في نجاح النهج الذي اتبعه فيسبوك منذ استغلال البعض له في نشر خطاب الكراهية خلال الإبادة الجماعية لمسلمي الروهينجا في ميانمار عام 2017.
وقد دفع استخدام الصور والتعليقات اللاذعة بشأن الروهينجا آلاف الأشخاص إلى ارتكاب أعمال فظيعة بحق تلك الأقلية.
- تشكِّل تهديدًا حقيقيًّا لخصوصية الأفراد، وقد تؤدي إلى تآكل الديمقراطية، ما جسدته فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا لتحليل البيانات في عام 2018، حين تم الكشف عن حصولها بطريقة غير مشروعة على معلومات شخصية لما يقدر بنحو 87 مليونا من مستخدمي فيسبوك، حيث تم توظيف المعلومات للتنبُّوء بسلوك الناخبين من جانب فريق الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”.
- دعم وتعزيز الإرهاب والأفكار المتطرفة، فقد استغل تنظيم “داعش” وجماعات إرهابية أخرى وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لتجنيد أعضاء جدد والتحريض على العنف.
وتشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 200 ألف رسالة يتم إرسالها يوميًّا على وسائل التواصل الاجتماعي تحتوي على دعاية لداعش. ووفقًا لمركز ستيرن للأعمال وحقوق الإنسان التابع لجامعة نيويورك، أدى ذلك إلى تكوين جيش من المقاتلين الأجانب قُدِّر عددهم يومًا ما بنحو 40 ألفًا، كما أثار استغلال التنظيم لمواقع التواصل مجموعة من الهجمات الإرهابية من قِبَل عناصره حول العالم في ظاهرة عُرفت باسم “الذئاب المنفردة”، الأمر الذي شكَّل تهديدًا للسلامة الوطنية.
وليس من المستغرَب أن يصبح كبار مزوِّدي منصات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام وواتس آب شبكات القيادة والسيطرة المفضلة للجماعات الإرهابية لأنها توفِّر خطوط اتصال فورية بين المجموعات المتفرقة وبدون تكلفة مالية، بحسب مجلة “أتلانتيك” الأمريكية.
كما تستخدم الجماعات الإرهابية أيضًا منصات وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة الرعب والفزع لدى المدنيين في جميع أنحاء العالم، فعلى سبيل المثال تعمد تنظيم داعش الإرهابي نشر فيديو إعدام الصحفي الأمريكي جيمس فولي على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ويوتيوب.
دور الأمم المتحدة في تنظيم عمل وسائل التواصل الاجتماعي
وتشير دراسة لمركز كلية ديوك للقانون الدولي المقارن في الولايات المتحدة إلى أن الارتباط بين الإرهاب العالمي وشركات وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى تحريك سلسلة طويلة من الإجراءات القانونية ضد هذه الشركات، حيث تفترض النظريات القانونية الحديثة أن شركات وسائل التواصل الاجتماعي ليست مسؤولة فقط عن السماح للإرهابيين باستخدام منصاتها، ولكن أيضًا من تحقيق مكاسب مالية من زيادة استخدام الإرهابيين لتلك المنصات، إذ تجني أرباحًا من الإعلانات المعروضة على الملفات الشخصية للإرهابيين.
وتوضح الدراسة أنه على الرغم من أن هذه الأنواع من الدعاوى القضائية لم تكن ناجحة للغاية حتى الآن، فإنها شكَّلت ضغوطًا على شركات وسائل التواصل الاجتماعي، تواكبت مع ردود فعل قاسية من المعلنين ممَّا أجبر مواقع التواصل على اتخاذ خطوات استباقية في المراقبة الذاتية لمنصاتها، فعلى سبيل المثال أزال موقع تويتر أكثر من 10 آلاف حساب مرتبط بتنظيم داعش الإرهابي، واتخذ كل من “فيسبوك” و”قوقل” إجراءات لتطوير طرق الفحص الخاصة بهما للتعرف على الملفات الشخصية المرتبطة بالجماعات الإرهابية وإزالتها.
كما لفتت الدراسة إلى أن التقاضي قد يكون بمثابة منفذ قابل للتطبيق للضغط العام والمالي على شركات وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ثمة مخاوف تبرز تتعلق بحرية التعبير وهو ما وفَّر حماية إلى حد كبير لهذه الشركات من التنظيم والرقابة القانونية حتى الآن في النظام القضائي الأمريكي.
واعتبرت الدراسة أن المكان الأكثر فعالية لكبح الإرهاب العالمي هو محاكمة شركات وسائل التواصل الاجتماعي من خلال التنظيم الدولي، إذ يرى بعض الخبراء أنه نظرًا لأن استخدام الإرهابيين ومخاوف الخصوصية في منصات وسائل التواصل الاجتماعي تشكل تهديدًا عالميًّا، فقد تكون الأمم المتحدة، بدلًا من الحكومات، هي الهيئة الدولية المناسبة للتحكم في إساءة استخدام هذه المنصات الاجتماعية.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أدركت الأمم المتحدة خطر استخدام الإرهابيين للإنترنت، كما اعتبرت في مناسبات متعددة أن عدم تقييد استخدام الإرهابيين لوسائل التواصل الاجتماعي يمثل مشكلة متنامية.
وفي عام 2012، استضافت الأمم المتحدة المؤتمر العالمي للاتصالات الدولية واقترحت سلسلة من اللوائح التي تتقاسم تكاليف ومسؤوليات مراقبة منصات وسائل التواصل الاجتماعي بين دول متعددة والأمم المتحدة نفسها، لكن في ختام المؤتمر رفضت العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة، التوقيع على الوثائق الختامية، مشيرة إلى الاختلافات فيما يتعلق بكيفية توزيع التكاليف بشكل عادل وكيفية تطبيق العقوبات، كما أثارت دول أخرى مخاوف بشأن حرية التعبير وقضايا العمل الجماعي.
وعلى الرغم من فشل المؤتمر في وضع تشريع دولي ينظم عمل شركات وسائل التواصل الاجتماعي، أصدرت الأمم المتحدة اتفاقية دولية محدودة بشأن الإرهاب السيبراني، التي تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح لإدارة وسائل التواصل الاجتماعي من خلال القانون الدولي.
ونظرًا لأن الأمم المتحدة هي المشرف الرئيسي على إنفاذ القانون الدولي، فسيتم تحفيز شركات وسائل التواصل الاجتماعي على التعاون مع المنظمة، بدلًا من الحكومات أو الهيئات التنظيمية المحلية، ويوفر هذا النموذج أفضل طريقة لتنظيم شركات وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الأمم المتحدة، بصفتها هيئة دولية، تحترم سيادة الدول وتحافظ على الحق في حرية التعبير، وفي نهاية المطاف تمتلك القدرة أيضًا على فرض العقوبات وتعزيز القانون الدولي.
وتأسيسًا على ما سبق.. تظهر الحاجة الملحَّة إلى وضع استراتيجيات عالمية لإيجاد الهياكل التنظيمية لصياغة اتفاق دولي ينظم عمل مواقع التواصل الاجتماعي واستخدامها، ويتوافق مع السياسات العامة على الصعيد الوطني، فضلًا عن إيجاد إطار عالمي للرصد والإنذار والاستجابة لأي مخالفات أو انتهاكات لبنود الاتفاق، مع ضمان التنسيق عبر الحدود لمكافحة الجرائم السيبرانية التي تتضمن نشر خطابات الكراهية ودعم الإرهاب وانتهاك الخصوصية.