تَكبّدت تركيا تَحت حُكم رجب طيب أردوغان، خسائرَ جسيمةً على مختلف الأصعدة، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو مجتمعياً، وهي حقائق ترصدها وتوثّقها التقارير والمؤشرات القياسية الدولية، فقد استغلّ الآليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة، وبمجرّد تحقيق الهدف انقلب على تلك القواعد، إلى درجة أنه غَيّر فيها من طبيعة النظام السياسي عبر التحوّل من النظام البرلماني إلى الرئاسي، ليكشف عن وجهه الحقيقي المستبدّ، ورغبته في الاستئثار بالسلطة، ومارس سياسةً خارجية محكومةً بانتمائه لجماعة الإخوان الإرهابية، وليس لتحقيق المصلحة الوطنية للدولة التركية، ما أَوجد حالةً من الاضطراب في العلاقة بين تركيا والدول الكبرى في الإقليم، بلغت درجة العداء، نظراً لأجندته الداعمة للإرهاب والمزعزعة للاستقرار.
ديكتاتورية تركيا.. شهادات من واقع التقارير الدولية
وفقاً لمؤشر مُدركات الفساد لعام 2019 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 23 يناير الماضي، تراجعت تركيا إلى المرتبة الـ91، بحصولها على 39 نقطة في المؤشّر الذي يُقيّم 180 دولة، ويَرجع ذلك إلى تركيز السلطة في الإدارة التنفيذية بكثافةٍ مماثلة للأنظمة الاستبدادية، وانتهاكاتِ استقلاليةِ القضاء ومبادئ سيادة القانون، وفقدان المؤسسات الرقابية والتنظيمية لتأثيرها ووظيفتها، وفقدان البرلمان التركي لسلطته في الرقابة على أعمال الحكومة.
هذا فضلاً عن القمع الذي تُمارسه حكومة أردوغان ضد المنظمات غير الحكومية، حيث أغلقت ما لا يَقلّ عن 1500 مؤسسة وجمعية واستولت على ممتلكاتها، واستمرّت في مضايقة المجتمع المدني واعتقال قياداته ومقاضاتهم.
كما احتلّت تركيا المرتبة 154 من بين 180 دولة في مؤشّر حرية الصحافة لعام 2020، الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، التي تَصِفُ تركيا بأنها “أكبر سجن للصحفيين في العالم”، فضلاً عن إغلاق السلطات التركية 5 وكالات أنباء، و62 صحيفة، و19 مجلة، و34 محطة إذاعية، و29 قناة تلفزيونية، و29 دار نشر، بجانب انتقال أكبر مجموعة إعلامية تركية إلى مِلكية شركةٍ مُقرّبة من الحكومة، وهو ما يُعدّ بمثابة تأميم للإعلام وتكميم للأفواه.
إنّ سيادة القانون ليست سوى ذِكرى من الماضي في تركيا أردوغان، التي أصبحت أشبه ما تكون بـ “مَلكية مطلقة”، حيث بلغت الرقابة على الإنترنت ومِنصّات التواصل الاجتماعي مستوياتٍ غيرَ مسبوقة، وتَمثّلت آخر المحاولات الرامية لتقييد المجال العام بتركيا، في مشروع قانون قَدّمه حزب الحركة القومية المتحالف مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، يَنصّ على وجوب تقديم الشخص لرقم هُويّته، قبل فتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأدّى تَخبّط تركيا العسكري في إدلب السورية وفي ليبيا، وأيضاً في قضية المهاجرين، إلى توسيع نطاق الرقابة على الصحفيين والرقابة الذاتية فيما بينهم، ناهيك عن زيادة استخدام القضاء لأغراض سياسية، فعلى سبيل المثال، اعتقلت قواتُ الأمن التركية مؤخراً العديد من الصحفيين لتغطيتهم جنازة ضابط مخابرات تركي قُتل في ليبيا خلال شهر مارس الماضي، حيث سُجِن مديرُ أخبار موقع “أودا تي في” الإخباري باريش ترك أوغلو، والمراسلة هوليا كيلينش، لنشرهما هوية الضابط.
وصَنّف المؤشر الخاصّ بالتحوّل الديمقراطي الصادر عن مؤسسة “برتلسمان” الألمانية، تركيا ضمن الدول “المتوسطة الاستبداد”، حيث جاءت في المركز 77 بين 137 دولة حول العالم، مُعدّداً القيودَ المفروضة على الصحافة، وانتهاك حقوق الإنسان، وتعليق الفصل بين السلطات، كما أن حكومة أردوغان تَضرب عرضَ الحائط بكلّ القيم الديمقراطية، حيث تعتقل مسؤولين منتخبين سواءً أكانوا نواباً في البرلمان مثل الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرتاش، المحتجز منذ عام 2016، والنائبة بالبرلمان عن الحزب ذاته، ليلى غوفين، المحتجزة منذ عامين، أو رؤساءَ بلديات، حيث طَردت الحكومةُ العشراتِ من رؤساء البلديات في جنوب شرقي البلاد، الذي تقطنه أغلبيةٌ كردية، بسبب الاشتباه في ارتباطهم بحزب العُمّال الكردستاني المحظور في تركيا، واستبدلتهم بمسؤولين حكوميين.
انشقاق الرّفاق.. والأحزاب الجديدة تُهدّد مستقبل أردوغان
كان من الأسباب الرئيسية لبقاء أردوغان في السلطة لمدة عقدين تقريباً، هو منع ظهور حزب محافظ اجتماعياً، ليبراليّ اقتصادياً، يكون بديلاً للعدالة والتنمية، فقبل 10 أعوام، غادر عبد اللطيف سينر، الذي كان حليفاً مقرباً لأردوغان، حزبَ العدالة والتنمية، وأسس حزباً جديداً، مشيراً إلى خيبة الأمل من الفساد الحكومي الواسع الانتشار، لكن الحزب لم يَدُم طويلاً، بعدما استهدف أردوغان مموّلي الحزب من باب الضرائب، وفقد أعضاءُ الحزب وظائفهم، فانهار سريعاً.
لكنّ ما يجري على الساحة التركية على مدي العام الماضي، وحجم الانشقاقات في العدالة والتنمية، يؤكد أن التحدي أمام أردوغان بات صعباً للغاية، ويُعزّز من ذلك تزايد السخط العام على الاقتصاد المتداعي وتدهور حقوق الإنسان.
ولم يَتوقّف الأمر عند حد تأسيس رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو “حزب المستقبل – Future Party”، وإطلاق وزير الاقتصاد السابق، علي باباجان لـ “حزب الديمقراطية والتقدّم – Democracy and Progress Party (DEVA)”، بل إنهما شرعا في توجيه العديد من اللكمات لأردوغان ونظامه المتداعي، إذ أكد باباجان أن نظام أردوغان، لن يستطيع التماسُكَ حتى الانتخابات البرلمانية المقرّرة في 2023، مهاجماً الخطوات السياسية والاقتصادية لحليفه السابق، ومؤكداً أنها سَتُعجّل بنهايته، كما وجه أحمد داود أوغلو انتقاداتٍ لأردوغان، واتهمه بإشاعة مناخ الخوف في تركيا، فضلاً عن مطالبته بالتحقيق في أملاك أردوغان وعائلته، ضمن مجموعة من المسؤولين السابقين والحاليين، طالب بالكشف عن أصولهم المالية والتحقيق فيها.
فساد عائلي.. وبلدية إسطنبول تفتح الملفات المغلقة
خلق أردوغان شبكةً من الفاسدين والمنتفعين من حوله، ولا سيما من المسؤولين في حكومة العدالة والتنمية، واستخدم الأجهزة الضاربة للدولة للتنكيل بمَن يكشفون فساد عائلته، وكانت التهمُ الجاهزة تدور حول الاتهام بالإرهاب، أو الانتماء لحزب العمّال الكردستاني المحظور في تركيا، أو أن المعتقلين على صِلات بحركة الخدمة التي يتزعّمها الداعية فتح الله غولن الذي تتّهمه أنقرة بتدبير محاولة انقلاب يوليو 2016، أو بتهمة إهانة الرئيس.
وعقب الضربة الموجعة التي تلقاها أردوغان في الانتخابات البلدية العام الماضي، كشف رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو، عن عدد من مظاهر الفساد التي تورّط فيه أردوغان وصهره بيرات البيرق، ومقرّبين منه في قيادة حزب العدالة والتنمية، ومن تلك الملفات استئجار البلدية 2741 سيارة، على الرغم من وجود 815 مدير فقط يَستخدمون السيارات، في حين أن بقية السيارات ذهبت إلى المحسوبين على الحزب الحاكم، وأغلب السيارات كانت مستأجرة من شركة واحدة تابعة لعائلة البيرق.
كما مَنح أردوغان 14 مليار ليرة كدعم للشركات المُقرّبة منه ومن حزبه الحاكم، وتَضَمّن الدعمُ الإعفاءَ من جميع الضرائب لمدة عشر سنوات، ودفع رواتب معظم الموظفين الجدد، وقسم من فواتير الطاقة ومقتطعات التأمين الاجتماعي.
واتهم كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، مؤخراً، أردوغان بتحويل الدولة إلى شركة عائلية، وحَمّل وزير الخزانة بيرات البيرق، صهر أردوغان، المسؤوليةَ عن تردّي الأوضاع الاقتصادية في البلاد منذ توليه منصبه، وعدم قدرته على تنفيذ أيّ خطط لإنعاش الاقتصاد، مطالباً باستقالته، لافتاً إلى أن “الدولة التركية باتت كشركة عائلية، الرئيس يَحكم، وصِهرُه يُحكِم قبضته على الخزائن”.
أطماع توسّعية ودعم للإرهاب في المنطقة
كشفت سياسة أردوغان الخارجية، عن أطماعه التوسّعية ورغبته في إحياء العثمانية البائدة، ونهب ثروات الدول العربية، وهو ما جَسّده في سرقة نفط العراق وسوريا عقب سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على مدن عراقية وسورية، حيث عَقد صهرُه بيرات البيرق صفقاتٍ مع التنظيم حول تجارة النفط المنهوب.
ولم تكن مصادفة أن تَنشر وسائل إعلام موالية لأردوغان، صاحبِ الفكر الاستعماري التوسّعي، خرائطَ لتركيا خارج حدودها بموجب معاهدة لوزان لعام 1923، حيث توسّعت لتضم مدينة حلب السورية والموصل العراقية، بل وجزءاً من أراضي اليونان وبلغاريا.
واتّبعت تركيا في ظل أردوغان سياسةَ تتريكٍ وتغيير ديموغرافي في سوريا، منذ العدوان التركي على شمال شرقي سوريا في أكتوبر الماضي، وامتدت أطماع تركيا إلى ثروات الغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط، عبر ممارسات استفزازية، بإرسال سفن تنقيب إلى المنطقة، وتوقيع مذكرةٍ مثيرة للجدل مع رئيس ما يُسمّى بحكومة الوفاق الليبية، لترسيم حدود بحرية بين البلدين ليس لها وجود من الأصل، فضلاً عن تقديم دعم عسكري لميليشيات إرهابية تقاتل ضد الجيش الوطني الليبي.
كما دأب أردوغان على استخدام القضية الفلسطينية، لمحاولة رسم صورةٍ زائفة عن مناصرته لحقوق الشعب الفلسطيني، بخطابات رنانة لا تعدو أن تكون مجرّد أقوال، لكن الأفعال مناقضة تماماً، فالعلاقة بين أنقرة وتل أبيب متنامية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكان أحدث مظاهر تلك العلاقة، إرسال مساعدات طبية تركية إلى إسرائيل لمواجهة فيروس كورونا المستجدّ.
أخيراً.. لقد سقط أردوغان في اختبار الديمقراطية، ومارس القمع والاضطهاد والتخوين بحقّ المعارضين، ولم يَتحلّ بالنزاهة، وغرق وعائلته في وحل الفساد، وانتهج سياسةً خارجية مدمرة، قادت تركيا من وضع “صفر مشكلات” إلى حالة من العداء والمشاكل مع جوارها المباشر، وجعلها مصدراً للتوترات في محيطها الإقليمي، وتَلاشى حلم انضمامها للاتحاد الأوروبي، في اللحظة التي شرع فيها أردوغان بإحياء حلم الإمبراطورية العثمانية البائدة، التي تُتَوِّجُه سلطاناً وتنصّبه خليفة، ليغدو سلطان القمع وخليفة الإرهاب.