على مدار تاريخ البشرية كان التقدم التكنولوجي يُترجم إلى براعة عسكرية، ففي معظم الحالات اكتسبت الدول التي تدمج التقنيات الجديدة بسرعة أكبر وفاعلية في جيوشها ميزة كبيرة في مواجهة خصومها. ومن المرجح أن ينطبق الأمر نفسه على الذكاء الاصطناعي، حيث تخوض الولايات المتحدة والصين حاليًا منافسة على التفوق العالمي في هذا المجال الذي من الممكن أن يحدد المشهد العالمي المستقبلي.
ورغم أن الصين قد لا توافق على وجود مثل هذه المنافسة التكنولوجية، فإن الولايات المتحدة تؤمن بها إيمانًا راسخًا، فكان هذا واضحًا في خطاب مهم ألقته نائبة وزير الدفاع الأمريكي كاثلين هيكس في 28 أغسطس الماضي، إذ أعطى هذا الخطاب نظرة ثاقبة قيّمة للتفكير الاستراتيجي للجيش الأمريكي بشأن الصين والذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة المسيرة، والابتكار التكنولوجي، بحسب تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، لشايان حسن جامي الباحث في معهد الرؤية الاستراتيجية بإسلام آباد، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
- جيش أمريكي يعتمد على الذكاء الاصطناعي
كان جوهر خطاب هيكس أن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” تهدف إلى الحصول على جيش يعتمد على البيانات ويدعم الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي اكتسب شعبية كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، فإن القوى العظمى كانت تبحث في التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي منذ عقود.
وبداية من عام 2014 عندما أعلنت الولايات المتحدة عن استراتيجية “الأوفست” الثالثة (الجيل الثالث من استراتيجيات الجيش الأمريكي)، كانت تعمل على بناء الأساس لدمج الذكاء الاصطناعي في جيشها. وربما كان تقرير عام 2021 الصادر عن لجنة الأمن القومي الأمريكية بشأن الذكاء الاصطناعي هو الأكثر دلالة، إذ ذكر أن وزارة الدفاع كانت بعيدة كل البعد عن “الجاهزية للذكاء الاصطناعي”، وحثها على زيادة الاستثمار بشكل كبير بحلول عام 2025، ودمج التقنيات التي تدعم الذكاء الاصطناعي في كل جانب من جوانب القتال الحربي.
وكان هذا هو الخط الفكري نفسه لخطاب هيكس الذي تضمن الإعلان عن “مبادرة النسخ المتماثل- The Replicator Initiative “، والتي وصفتها بأنها مبادرة جديدة لوزارة الدفاع للتطوير السريع ونشر “أسراب من الطائرات دون طيار منخفضة التكلفة في الجو أو البر أو البحر، معتبرة أنها “الرهان الكبير” الذي يمكن أن يتعارض مع الميزة الأكثر أهمية التي تتمتع بها الصين، وهي القدرة على جلب عدد كبير من المنصات والأشخاص إلى ساحة المعركة.
وستركز المبادرة على المنصات “الصغيرة، الذكية، الرخيصة، والكثيرة”. وقالت هيكس إن الهدف المباشر لمبادرة “النسخ المتماثل” هو أن يقوم الجيش الأمريكي بإطلاق أنظمة مستقلة في مجالات متعددة خلال الـ 18 إلى 24 شهرًا المقبلة.
- إشكاليات متعلقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي
وتجدر الإشارة هنا إلى ملاحظتين أساسيتين، أولها أن حجم الأنظمة المستقلة المسيرة هائل وينطبق على مجالات مختلفة، فنظرًا لأن الولايات المتحدة تعد حاليًا المركز التكنولوجي للعالم، فإن الاستخدام واسع النطاق لتلك الأنظمة من قبل الجيش الأمريكي من المرجح أن يدفع الدول الأخرى لتبني مثل هذه الأنظمة للحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي، ومن المتوقع أن تنتشر الأنظمة المستقلة لدى حلفاء واشنطن وشركائها الاستراتيجيين أيضًا.
أما الملاحظة الثانية وهي الأهم، فتتعلق بالجدول الزمني المحدد للأشهر الـ 18 إلى الـ 24 المقبلة، وهذا أمر مثير للقلق إلى حد ما، خاصة وأن القضايا المحيطة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتنظيمه اكتسبت زخمًا في الآونة الأخيرة. ورغم أن الولايات المتحدة تقول إنها تتبع نهجًا “مسؤولًا وأخلاقيًا” في التعامل مع الذكاء الاصطناعي في مبادرة النسخ المتماثل، فإن الجدول الزمني المحدد يجعل من الصعب تصديق هذا الأمر. وعلى الأرجح أن الجيش الأمريكي كان يعمل على هذه المبادرة لبعض الوقت، لذلك سيكون لديه قواعد محددة لتقليل مخاطر دمج الذكاء الاصطناعي في الجيش.
بالإضافة إلى ذلك، تشعر واشنطن الآن بالثقة الكافية للإعلان عن المبادرة وتنفيذها، حيث كانت أوكرانيا بمثابة ساحة اختبار لاستخدام الطائرات دون طيار “الدرونز” والأنظمة المستقلة المسيرة في ساحة المعركة، وأظهرت قوتها بوضوح.
جدير بالذكر أن روسيا وأوكرانيا تنشران بانتظام طائرات دون طيار في العمليات العسكرية. وتشير تقديرات المعهد الملكي للخدمات المتحدة (مركز بحثي مقره لندن) إلى أن أوكرانيا خسرت عددًا ضخمًا من المركبات الجوية دون طيار يبلغ 10 آلاف طائرة شهريًا، تستخدم في أغراض الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع وكذلك في الاستهداف المباشر للبنية التحتية العسكرية والمدنية للعدو.
- الصين كهدف لمبادرة النسخ المتماثل
كان من اللافت في خطاب نائبة وزير الدفاع الأمريكي كاثلين هيكس أنها ذكرت بشكل مباشر أن الصين هي الهدف الوحيد لمبادرة النسخ المتماثل، حيث أشارت إلى أن “الأنظمة الذاتية (ADA2) ستساعد في التغلب على التحدي المتمثل في أنظمة منع الوصول وحجب المنطقة (A2AD) التي تتبناها بكين في بحر الصين الجنوبي. ويشير إعلان الولايات المتحدة إلى أنها ستستخدم الطائرات دون طيار لمواجهة استراتيجية الصين لمنع الوصول، وأن واشنطن مستعدة بشكل مباشر أو غير مباشر للتدخل عسكريًا في منطقة بحر الصين الجنوبي.
من ناحية أخرى، فإن الصين لديها فهم مختلف تمامًا للذكاء الاصطناعي مقارنة بالولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن بكين تهدف إلى أن تصبح الرائدة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، فإنها ظلت حتى الآن متكتمة بشأن دمجها لتلك التقنية في القطاعات العسكرية. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع الولايات المتحدة من النظر إلى التقدم الذي أحرزته بكين بخصوص الذكاء الاصطناعي باعتباره تحديًا كبيرًا لقيادتها العالمية.
وختامًا، ستكون الحروب الستقبلية في العالم قائمة على البيانات ومُمكنة بالذكاء الاصطناعي، حيث سيعمل المقاتلون البشريون جنبًا إلى جنب مع الكثير من الأنظمة المستقلة المسيرة، وهو أمر يحتم علينا أن نفهم بشكل أفضل المخاطر المحتملة لدمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة العسكرية المستقلة.