في ظل تحولات متسارعة تشهدها الساحتان الإقليمية والدولية، جاءت المقابلة التي أجرتها قناة “ فوكس نيوز” الأمريكية مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظه الله – في مدينة “نيوم” على ساحل البحر الأحمر، والتي تعد أول مقابلة من نوعها لسمو ولي العهد مع قناة أمريكية منذ عام 2019.
- ما قبل اللقاء
نظرًا للأهمية البالغة التي يحظى بها اللقاء، نوهت القناة في بيان إعلامي لها بأن هذه المقابلة ستتناول مجموعة من الموضوعات تتصل بمستقبل المملكة والعلاقات السعودية الأمريكية.
من جانبه، قال “بريت باير” كبير المذيعين السياسيين في القناة, الذي أجرى المقابلة مع سمو ولي العهد إن التغيير في المملكة العربية السعودية لا يتوقف، وإن الدولة تتقدم إلى الأمام بشكل سريع، مؤكدًا أن المملكة تشهد عملية بناء ضخمة ليس لها مثيل في العالم، مضيفًا أن من أكبر التحولات التي أثارت انتباهه حصول المرأة السعودية على مزيد من الحقوق في شتى المجالات، ودخولها إلى سوق العمل وريادة الأعمال، مشيرًا إلى أن النساء يشكلن 40% من أصحاب الأعمال الجدد في المملكة.
أما سعوديًّا، فقد جاء اختيار مكان المقابلة في مدينة نيوم التي تُوصف بـ “موطن الحالمين”؛ كونها تُعد أكبر مشاريع العالم طموحًا، ليحمل الكثير من الدلالات والرسائل المهمة منها على سبيل المثال لا الحصر، تقديم برهان واقعي وبشكل استباقي (قبل اللقاء) على ما تشهده السعودية الجديدة من حركة عمرانية حديثة، وإبراز جهود المملكة السبّاقة في التحول إلى نمط مدن المستقبل، وتقديم نموذج رائد للحياة المستدامة والعمل والازدهار.
- طموح لا ينتهي
في البداية، تطرق اللقاء لرؤية المملكة 2030 ومستهدفاتها، وقد أوضح سمو ولي العهد أن سياسته تقوم على الاستغلال الأمثل لما تمتلكه المملكة من إمكانيات وفرص. وقد عكس تناول سموه لهذا الملف جانبًا مهمًّا من شخصيته – حفظه الله – يتعلق بالشغف والتطلع الدائم للأفضل، وأن طموح سموه لا يتوقف؛ فعلى الرغم من إشارة الأمير محمد بن سلمان إلى السرعة التي تتحقق بها أهداف الرؤية، فإنه من الواضح أن ذلك لا يكفيه، بل يقوم – أيده الله – بتحديث تلك الأهداف ورفع سقف الطموحات؛ مما يُؤكد أن مسيرة التنمية والتطوير التي يسعى لها سمو ولي العهد لن تتوقف عند حد.
ومثلما بدأ سمو الأمير اللقاء بالحديث عما تحقق من منجزات على أرض الواقع، والتي جاءت نتاج تنفيذ رؤية المملكة الملهمة 2030، أكد سموه في الختام أيضًا على أن المملكة هي “أكبر قصة نجاح في القرن الحادي والعشرين”، فهي قصة هذا القرن.
وفي هذا الصدد، أظهر سمو ولي الأمير محمد بن سلمان، جانبًا آخر من شخصيته، تمثّل في الثقة واهتمامه فقط بمصلحة الوطن والمواطنين؛ فحينما تطرق سموه إلى عمل المملكة الدؤوب على تنويع مصادر الدخل، ورفع نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية ومنها الرياضة في الناتج المحلي السعودي، أكد سموه بشكل واضح أنه لا يشغله ما يقوله الآخرون عن إنفاق المملكة على الرياضة، ما دام تُحقق عوائد ومنافع للسعودية.
- التأكيد على الثوابت
جدد سمو ولي العهد موقف المملكة الراسخ والمبدئي بالنسبة للعلاقة مع إسرائيل، فالتطبيع مشروط بحل القضية الفلسطينية، وحصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم، وبالتالي فالرسالة واضحة، وهي أن المملكة لن تقدم تطبيعًا مجانيًا.
ومن اللافت أن تطرق سمو ولي العهد لهذا الملف كان شديد الذكاء والحنكة السياسية، إذ قال الأمير محمد بن سلمان إن التطبيع مع إسرائيل أصبح أقرب، ولكنه في الوقت ذاته رمى الكرة في الملعب الإسرائيلي، إذ جعل هذا التطبيع مشروطًا بحصول الفلسطينيين على حقوقهم وحل قضيتهم.
وعلى الرغم من محاولات “بريت باير” الساعية لاقتناص إجابات معينة، فإنه واجه مشكلة كبيرة تتمثل في حنكة وذكاء سمو ولي العهد الذي استطاع أن يدير اللقاء وفق رؤيته وليس أهداف المذيع، ومن أمثلة ذلك عندما سأل المذيع سمو الأمير عما إذا كان مستعدًا للتعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ فجاءت إجابة سمو ولي العهد أن سياسة المملكة قائمة على عدم التدخل بشأن من يقود أي دولة، مؤكدًا على أنه لا توجد علاقة مع إسرائيل الآن، ولكن إذا نجحت الإدارة الأمريكية في حل القضية الفلسطينية فحينها ستبدأ العلاقة، وسوف تستمر بغض النظر عمن يدير إسرائيل. وقد بعث الأمير محمد بن سلمان بإجابته هذه رسالة واضحة، مفادها أنه لا مجال لشخصنة القضية الفلسطينية التي لا ترتبط بأشخاص بل بحقوق ومبادئ.
أما على صعيد علاقة السعودية بإيران، فقد سعى المذيع إلى محاولة المقارنة بين علاقة المملكة مع إيران والمسار الراهن بشأن إقامة علاقة إسرائيل، حيث أشار المذيع إلى أن المملكة استجابت لتطبيع العلاقات مع طهران التي وصفها بـ “العدو”، بينما لم تفعل ذلك مع إسرائيل التي لم يُطلق عليها نفس التوصيف.
وفي هذا الصدد، أكد رد سمو الأمير محمد بن سلمان أن السياسة السعودية واضحة، فالمملكة تسعى إلى أن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من الصراعات والنزاعات، وأن يسودها السلام والأمن والتعاون من أجل التنمية. وأضاف سموه أن هناك اتجاهًا من جانب المملكة وإيران للتعاون وفتح صفحة جديدة، وأن السعودية تلمست الجدية الإيرانية في ذلك.
وعندما سأل المذيع، سمو ولي العهد عما إذا كان هناك قلق من حصول إيران على السلاح النووي، أكد سموه أن هناك قلقًا من حصول أي دولة على السلاح النووي – في إشارة ضمنية إلى عدم الارتياح لامتلاك إسرائيل للسلاح النووي -.
وعلى الرغم من وصف سمو ولي العهد مساعي الحصول على سلاح نووي بأنه جهد غير مفيد لأنه لا يمكن استخدامه، فإنه أكد بشكل قاطع على أنه إذا حصلت إيران على قنبلة نووية، فعلينا الحصول عليها أيضًا لتحقيق توازن القوى في الشرق الأوسط.
- العلاقات السعودية الأمريكية
عندما تطرق اللقاء إلى علاقات المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية، حرص سمو ولي العهد على إبراز الاستفادة الأمريكية من تلك العلاقة وليس العكس، وذلك للتأكيد على مكتسبات واشنطن من استمرارها وتعزيزها، وبالتالي فعليها العمل على الحفاظ على مستوى علاقتها مع الرياض، خاصة مع ظهور بدائل أخرى على الساحة الدولية. وهو ما قاله سمو الأمير محمد بن سلمان بشكل قد يحمل تحذيرًا ضمنيًا بأن المملكة لديها خيارات أخرى، منها احتمالية التوجه إلى هذه البدائل.
- مقابلة فوكس نيوز وفرض الرؤية السعودية
يمكن القول إن هذه المقابلة اتسمت بطابع مغاير على مستوى الأداء الإعلامي للقنوات والمحطات الإخبارية الأمريكية التي سبق لها إجراء لقاءات مع سمو الأمير محمد بن سلمان، وتمثّل ذلك في عدة أوجه، منها:
- الاعتراف بما تشهده المملكة من تحولات جذرية “حقيقية”.
- إبراز مدى التقدم الذي تشهده الدولة السعودية والمجتمع أيضًا.
- التحول من الأسلوب المتحفز إلى أسلوب آخر منفتح على تقبل الواقع الجديد، ونقل الصورة الحقيقية عن المملكة، المعززة بالأدلة الواقعية التي لا يمكن إغفالها.
- بناء أغلب الأسئلة على الحقائق، وليس الادعاءات والمزاعم. وعندما كان يتعلق بعضها بمزاعم مثل دعم روسيا عبر خفض إنتاج النفط، كانت إجابات سمو ولي العهد تفكيكية تُفند هذه المزاعم بشكل منطقي قائم على مخاطبة العقل، مما يُجبر المذيع على الاقتناع ومن ثمّ الانصياع.
وربما يعود السبب وراء هذا الأداء الإعلامي المغاير إلى أن بعض هذه المحطات الإخبارية لم تعد لديها القدرة على إنكار الحقائق الواضحة للعيان، وكذلك لأن المملكة استطاعت باقتدار أن تفرض وجهة نظرها وسياستها من خلال الشواهد الواقعية الداعمة لها.
أما فيما يتعلق بسمو ولي العهد، فقد أظهر سموه كالعادة ذكاء وحنكة سياسية في إدارة اللقاء الذي تضمن الكثير من الرسائل الصريحة والضمنية للعالم بأسره، منها على سبيل المثال لا الحصر التأكيد على ما يلي:
- المملكة ماضية في سياساتها التنموية الشاملة والمستدامة.
- التجربة السعودية فريدة ومتميزة وملهمة للعالم أجمع.
- المعيار الأساسي والحاكم لسياسات المملكة هو تحقيق مصالح الشعب السعودي.
- العمل على تثبيت السلام والاستقرار في المنطقة، وتعزيز التعاون من أجل تحقيق التنمية.
- رسوخ المواقف السعودية.
- لا تطبيع مع إسرائيل دون حصول الفلسطينيين على حقوقهم.
- استقلالية القرار السعودي.
- الانفتاح السعودي على التعامل مع الجميع بالشكل الذي يُحقق مصالحها.
وبشكل عام، استطاع سمو ولي العهد فرض سيطرته على اللقاء وإدارته بالطريقة التي يرغبها هو – حفظه الله –. وعلى الرغم من قوة الرسائل التي تضمنتها إجابات سموه، فإن سمو الأمير ظهر هادئًا مبتسمًا مما يعكس الثقة والتمكن وقوة الطرح والحُجة وأيضًا قوة الموقف. وقد عزز ذلك، اعتماد سموه – أيده الله – على الاستمالات العقلية والأدلة والبراهين المنطقية والأرقام والإحصاءات التي تُخاطب العقل، وهو ما لاحظه المذيع الذي قال للأمير محمد بن سلمان إنه يرى أن سموه يهتم بالبيانات.