تُعد المثالية سيفًا ذا حدين، فمن ناحية يمكن أن تحفز الفرد على أداء مهامه بمستوى متميز، وتقديم أعمال عالية الجودة، ومن ناحية أخرى يمكن أن تسبب حالة من القلق غير الضروري، وتُعرقل مسيرة حياة الفرد وتؤثر في حياته الاجتماعية وعلاقاته بالآخرين. وفي حين يدرك معظم الأفراد المصابين بالوسواس القهري أن وساوسهم تأتي من عقولهم ووليدة أفكارهم، وأنها ليست حالة قلق زائد بشأن مشاكل حقيقية في الحياة، فإن بعض المصابين لا يدركون أن مفاهيمهم وأعمالهم التي يطمحون لتحقيقها غير عقلانية، وهذا ما يسمى بالوسواس القهري المصحوب بضعف البصيرة.
وانطلاقًا من أهمية هذه المسألة، يسلط التقرير التالي الضوء على مخاطر النزعة المثالية على صحة الأفراد، مع توضيح كيفية الاستفادة من إيجابيات السعي إلى المثالية، وتخفيف سلبياتها أي ضبط تلك المثالية وجعلها تحت السيطرة.
- كيف تؤثر النزعة المثالية على الصحة؟
يقصد بـ”المثالية-Perfectionism” أنها سمة شخصية تتضمن وضع معايير غير واقعية، وانتقادًا قاسيًا للذات. وقد أولى العديد من الخبراء على مدى عقود اهتمامًا بدراسة تلك المسألة، ومن أبرزهم جوردون فليت الأستاذ في كلية الصحة بجامعة يورك الكندية، وبول هيويت أستاذ علم النفس في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا، اللذان حددا أنماطًا مختلفة للدوافع الكامنة وراء السلوك المثالي، وتوصلا إلى 3 أشكال من المثالية تتمثل في “المثالية الذاتية (المعتقدات المثالية النابعة من الذات) والمثالية الاجتماعية (المعتقدات المثالية المفروضة من قبل المجتمع والوسط البيئي المحيط بالشخص) والمثالية الموجهة نحو الآخرين (أي فرض المعتقدات المثالية على الآخرين).
ووفقًا لدراسة حديثة أجراها توماس كوران، المحاضر في قسم الصحة بجامعة باث في المملكة المتحدة، وأندرو هيل من جامعة يورك سانت جون، فإن المثالية الاجتماعية الأقل حدة بين الأشكال الثلاثة، موضحة أنه في ظل المثالية الاجتماعية، يعتقد الأفراد أن سياقهم الاجتماعي يضغط عليهم بشكل مفرط وأن الآخرين يحكمون عليهم بقسوة، وبالتالي عليهم إظهار المثالية للحصول على تأييد المجتمع”.
وقد نوهت العديد من الدراسات إلى إمكانية أن يؤثر سعي الفرد للمثالية بشدة على صحته النفسية والجسدية. ويعد القلق والاكتئاب والتفكير في الانتحار بعض مشاكل الصحة النفسية التي ربطها المتخصصون مرارًا وتكرارًا بالمثالية الذاتية، إذ وجدت إحدى الدراسات الغربية على سبيل المثال، أن أكثر من نصف الأشخاص الذين ماتوا منتحرين وصفهم أحباؤهم بأنهم “مثاليون”. ووجدت دراسة أخرى أن أكثر من 70 % من الشباب الذين ماتوا منتحرين اعتادوا على خلق توقعات “عالية للغاية” لأنفسهم. ويبدو أن السعي وراء المثالية يصيب الشباب بشكل خاص. ووفقًا للتقديرات الحديثة، يعاني ما يقرب من 30% من الطلاب الجامعيين من أعراض الاكتئاب، وقد ارتبط السعي إلى المثالية على نطاق واسع بهذه الأعراض.
وسجلت هذه الاتجاهات تصاعدًا على مدى العقود القليلة الماضية، لا سيما في الثقافات الناطقة باللغة الإنجليزية؛ إذ درس كوران وهيل أكثر من 40 ألف طالب جامعي أمريكي وكندي وبريطاني، ووجدوا أنه في الفترة من 1989 إلى 2016، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين أظهروا سمات المثالية بنسبة تصل إلى 33 %.
ويشير كوران وهيل إلى أن المثالية الذاتية – التي تحدث عندما يولي الأفراد أهمية غير عقلانية لكونهم مثاليين، ولديهم توقعات غير واقعية عن أنفسهم ويكونون عقابيين في تقييماتهم الذاتية- ترتبط بالاكتئاب السريري، واضطرابات الأكل والموت المبكر بين طلاب الجامعات والشباب.
وتنوه بعض الدراسات أيضًا أن المثالية الذاتية تزيد من خطر الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب (اضطراب المزاج)، ولا تتوقف أضرار المثالية عند الصحة النفسية، إذ وجدت بعض الدراسات أن ارتفاع ضغط الدم أكثر انتشارًا بين الأشخاص المثاليين، وقد ربط باحثون آخرون هذه السمة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
ويعود ذلك جزئيًا إلى أن الأشخاص المثاليين يعانون من حوار داخلي قاسٍ، حيث يخبرهم “ناقدهم الداخلي” باستمرار أنهم ليسوا جيدين بما يكفي بغض النظر عما يفعلونه أو مدى صعوبة محاولتهم، مما يجعل السعي إلى المثالية مقترنًا على الأغلب بالإساءة إلى الذات.
- طرق التصدي لأضرار السعي إلى المثالية
قد يكون التعامل مع ناقدك الداخلي صعبًا، ولكن يوجد عدد من الأشياء التي يمكن القيام بها لإسكات هذا الصوت، إذ تشير دراسة حديثة لـ “مادلين فيراري”، من الجامعة الكاثوليكية الأسترالية في سيدني، إلى أن التعاطف مع الذات يمكن أن يساعد في الحماية من الاكتئاب لدى الأشخاص الساعين إلى المثالية.
وتوضح الدراسة أن التعاطف مع الذات يقلل باستمرار من قوة العلاقة بين المثالية غير القادرة على التكيف والاكتئاب لدى كل من المراهقين والبالغين. ويصر علماء النفس الآخرون أيضًا على أنه يمكن تعليم التعاطف مع الذات من خلال دورات تدريبية وممارسة اليوغا، الأمر الذي يساعد في إخماد الصوت الداخلي الذي ينتقد الذات، هذا وقد أسفرت تجارب سريرية شملت دورات تدريبية لمدة 8 أسابيع عن تعزيز مستويات التعاطف مع الذات لدى المشاركين بنسبة 43%.
كما استعرضت مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو” عددًا من التوصيات من أجل الحد من أضرار النزعة المثالية، وعلى رأسها “التعرف على تكلفة الفرصة البديلة والوقت” لسلوكك الساعي نحو المثالية في أمور تفصيلية لا تشكل أي فارق في النتيجة العامة للعمل، وكذلك تحديد دقيق للمستهدفات؛ لأن السعي للمثالية يشبه خوض رحلة بلا هدف متبلور، ومن المهم أيضا البحث عن منظور آخر من خلال التحدث إلى شخص ما عن ميولك، وأخذ رأيه حول الهدف الذي تسعى إليه.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن السعي نحو المثالية ليس خطأ في حد ذاته، لكن الإشكالية تتمثل في تحول ذلك الهدف المحمود إلى عنصر يعيق حركة العمل، ويؤثر على حياة الفرد وسلوكه ورضائه عن ذاته، ويصبح أداة لجلد الذات بشكل مبالغ فيه.