تقارير

المحتوى الإعلامي والإعلاني في رمضان بين القيمة والتسطيح

ارتبط شهر رمضان المبارك على مدى العقود الماضية في أذهان الجماهير بموسم سنوي للأعمال الدرامية والبرامج الإعلامية والإعلانات التجارية، حيث تُقبل وسائل الإعلام وجهات الإنتاج والشركات على إنتاج محتوى مُخصّص للعرض خلال هذا الشهر الذي يتّسم بارتفاع نسبة المشاهدة، مما يُشعل وتيرة المنافسة على جذب انتباه الجمهور.

واللافت بشكل واضح من خلال مطالعة بسيطة لعدد من تلك الأعمال المعروضة خلال العام الحالي، ضعف المضمون، وركاكة الطرح، وتناول مواضيع تافهة أو مكرّرة من حيث زاوية التناول، بجانب شيوع التنمُّر بدافع إضفاء روح الفكاهة، فضلًا عن تصدر مشاهير السوشيال ميديا أو ما يُعرَفون مجازًا باسم المؤثرين للمشهد الإعلاني. وبات الاتجاه العام السائد هو تقديم محتوى فارغ من القيم يخاطب الغرائز، ويستهدف إثارة الضحك من خلال الابتذال.

نظريات إعلامية تُؤطر للعلاقة بين المحتوى والجمهور

يُثير هذا الوضع تساؤلات حول دور الإعلام والإعلان والدراما أو بمعنى أوسع أي محتوى اتصالي في تشكيل الوعي والتثقيف، وكذلك إشباع احتياجات الجمهور، وآلية عمل وسائل الإعلام وتحديدًا ما يتعلق بـ”وضع الأجندة- Agenda Setting“، وما إذا كان الجمهور هو الذي يتحكم في تلك الأجندة، أم أنّ وسائل الإعلام هي التي تُحدّد أجندة الجمهور واهتماماته.

وكانت هذه القضايا محورًا لنظريات إعلامية شهيرة؛ من أبرزها “نظرية ترتيب الأولويات”، والتي تفترض وجود علاقة بين القضايا التي توليها وسائل الإعلام مزيدًا من الاهتمام، وبين تزايد اهتمام الجماهير بتلك القضايا، فترتيب الأولويات يُعنى بنقل البروز والاهتمام وتحريك القضايا من أجندة وسائل الإعلام إلى أجندة الجمهور.

وكذلك “نظرية الغرس الثقافي”، التي تقوم على العلاقات طويلة الأمد بين اتجاهات الأفراد وآرائهم من ناحية، وعادات مشاهداتهم من ناحية أخرى، وهي تفترض أن التلفزيون يُعد وسيلة فريدة للغرس بالمقارنة مع وسائل الاتصال الأخرى. وأيضا “نظرية الاستخدامات والإشباعات”، حيث يرى منظّروها أن أفراد الجمهور ليسوا مستهلكين سلبيين لوسائل الإعلام، بل يمتلكون السُّلطة على استهلاك وسائل الإعلام ودمجها في حياتهم، وهي ترى أن الجمهور يُعدّ المسؤول الوحيد عن اختيار الوسيلة الإعلامية لإشباع رغباته وحاجاته، ويعني ذلك أن الأفراد يختارون بوعي وسائل الإعلام التي يرغبون في التعرُّض لها، كما ينتقون المضمون الذي يلبي حاجاتهم النفسية والاجتماعية عبر قنوات المعلومات والترفيه المتاحة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإعلام عنصر مؤثر في حياة المجتمعات، فهو المروِّج الأساسي للفكر والثقافة، ويُسهم بفاعلية في عملية تشكيل الوعي الاجتماعي للأفراد إلى جانب مؤسسات التنشئة الأخرى كالأسرة والمؤسسات التعليمية.

معالم المشهد الإعلامي والإعلاني والدرامي

يُمكن رصد معالم رئيسية شكّلت المشهد الخاص بالمحتوى الاتصالي (الإعلامي والدرامي والإعلاني) في الموسم الرمضاني الحالي، وهي كالتالي:  

الاتجاه نحو الاستعانة بمشاهير مواقع التواصل في الإعلانات، أو استضافتهم في برامج سطحية مبتذلة تُصنَّف على أنها برامج تجمع بين عنصري المغامرة والفكاهة من أجل تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة.
رداءة المحتوى في بعض الإعلانات، التي جاءت بمضمون جريء لا يراعي الأجواء الروحانية في شهر رمضان المبارك، ويتصادم مع قيم المجتمع، أو بمضمون يحطُّ من قدر الإنسان وكرامته من منظور طبقي بحت بما يُمثّل إهانة لشريحة مجتمعية “غير القادرين ماديًّا”. ومن المثير للدهشة فيما يخص مسألة الإعلانات تحديدًا أن الشركات المعلنة فور اتخاذ الجهات المختصة بتنظيم الإعلان قرارًا بوقف إعلان لها نظرًا لانتهاكه المواثيق والقواعد الخاصة بالإعلان تبث في اليوم التالي إعلانًا آخر عن ذات المنتج، ولكن بمضمون متوافق مع الضوابط الإعلانية، وهو ما يكشف بما لا يدع مجالًا للشك عن التعمد في إعداد إعلانات مثيرة للجدل من أجل إحداث حالة من الزخم والاستحواذ على انتباه الجمهور في ظل السيل الهادر من الإعلانات التجارية.
الترويج لسلوكيات مرفوضة مثل التنمُّر على الآخر، وعرض مشاهد بها تدخين، فضلًا عن مشاهد تتضمن عنفًا ورعبًا.

وإن كان ما سبق هو السمة الغالبة على المحتوى، إلا أن هذا لا ينفي وجود نماذج – وإن كانت محدودة- لبرامج تُقدّم رسالة هادفة وتُكرّس لقيم الوفاء والتقدير لكل جهد يخدم المجتمع، وأعمال درامية تلعب دورًا في بناء وعي الشعوب، وفضح المخططات التي تُحاك ضد الأوطان، وتُوثّق لمراحل تاريخية مهمة ومفصلية، وقد حظيت بجماهيرية واسعة، وأضحت في بؤرة اهتمام المشاهدين ومحور تفاعلات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يُبرهن على أنها استطاعت تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في محتوى هادف راق، جاذب للجمهور، ويُحقق ربحًا ماديًّا للجهات المنتجة.

وبالتالي فإن الهرولة نحو تقديم محتوى سطحي تافه بذريعة أن هذا ما يُقبل عليه الجمهور، هو في حقيقة الأمر يعكس قصورًا في فهم القائمين على صناعة وتنفيذ ذلك المحتوى، وافتقادهم للثقافة والمهارات والقدرات الإبداعية اللازمة للعمل الإعلامي، والاستسهال في تكوين أجندة وخريطة إنتاجهم من خلال محاكاة المحتوى الرائج بصرف النظر عن ملاءمته أو جودته.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الإعلام صناعة جوهرية تتعلق ببناء الإنسان والمجتمع وتُشكّل ثقافته واهتمامته وإشباع رغباته واحتياجاته، مع العلم بأن المحتوى الترفيهي ليس مبررًا للابتذال والإسفاف والتنمُّر والسطحية المفرطة لدرجة التفاهة. فالمعادلة التي يجب أن تحكم عمل القائمين على التخطيط وصناعة المحتوى في المنصات الإعلامية المختلفة أنه لا تعارض بين تقديم محتوي راق ذي قيمة، وفي الوقت ذاته يحظى بالجماهيرية، ويحقق الربح من خلال جذب الرعاة من المعلنين.

زر الذهاب إلى الأعلى