تقدير موقف

شبح الحرب الأهلية في لبنان.. قراءة في السيناريوهات المستقبلية

شهدت بيروت في الرابع عشر من شهر أكتوبر الجاري أحداثًا دامية أعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية التي مر بها لبنان منذ عام 1975 وحتى عام 1990، وأسفرت عن مقتل ما يقدر بـ120 ألف شخص.

ففي قلب العاصمة وتحديدًا منطقة الطيونة وقعت اشتباكات غير مسبوقة بالرصاص والأسلحة الثقيلة “آر.بي.جي” خلال مظاهرة دعت إليها ميليشيا حزب الله وحليفتها حركة أمل ضد القاضي طارق البيطار، قاضي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت بدعوى “تسييسه” التحقيقات. وقد جاء ذلك تزامنًا مع إصدار محكمة التمييز المدنية قرارها برفض تنحية البيطار عن مباشرة التحقيقات.

واندلعت تلك الاشتباكات التي أدت إلى سقوط 7 قتلى وعشرات المصابين على وقع حالة من الشحن الطائفي الذي يغذيه حزب الله وقيادته الممثلة في الأمين العام للحزب حسن نصر الله الذي صعّد من وتيرة الهجوم على البيطار، حيث اتهمه على نحو مباشر- في خطاب قبل تلك الأحداث بثلاثة أيام- بالعمل “لخدمة أهداف سياسية”، مطالبًا بإسناد مهمة استكمال التحقيق إلى ما سماه بـ”قاض صادق وشفاف”.

مساعي ميليشيا حزب الله لعرقلة التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت

على مدى الأشهر القليلة الماضية، أخذ مسار التحقيقات في كارثة انفجار مرفأ بيروت منحى أكثر عمقًا مع تولي قاضي التحقيق طارق البيطار ملف القضية في فبراير الماضي بعد تنحية زميله فادي صوان إثر ضغوط سياسية، لكن البيطار سرعان ما أصبح في مرمى انتقادات وضغوط وترهيب حزب الله إثر توجيهه طلبات استدعاء لشخصيات سياسية وأمنية مقربة من الحزب الذي لا يروق له ممارسات القضاء المستقل باعتباره يمثل خطرًا داهمًا على حزب الله لا سيما إن تمكنت التحقيقات من التوصل لأدلة تدين الحزب في تلك الفاجعة التي تسببت في مقتل 214 شخصًا على الأقل، وإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، بجانب دمار واسع في العاصمة. لذلك لجأت ميليشيا حزب الله إلى استخدام وسائل ترهيب متدرجة بحق القاضي طارق البيطار، ففي البداية عهد إلى مسؤول رفيع المستوى في الحزب تمرير رسالة إلى البيطار لإبلاغه بالامتعاض من مسار التحقيق مع تهديد بإزاحته من منصبه، إلا أن تلك الرسالة لم تُجد نفعًا، حيث واصل القاضي مسار التحقيقات دون الالتفات للتهديدات، وهو ما ظهر جليًا في قراره في 12 أكتوبر الجاري بإصدار مذكرة توقيف غيابية في حق وزير المالية السابق حسن خليل، المنتمي لحركة أمل، حليفة حزب الله، بعد تخلف خليل عن المثول للتحقيق، علمًا بأن هذه كانت ثاني مرة يصدر فيها البيطار مذكرة توقيف بحق مسؤول سياسي، بعدما أصدر في 16 سبتمبر الماضي مذكرة توقيف بحق وزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس بعد امتناعه عن المثول أمامه للاستجواب.

وتجلّت أوضح المؤشرات على احتدام الصدام بين حزب الله وقاضي مرفأ بيروت، بخطاب للأمين العام للحزب حسن نصر الله اتهم خلاله البيطار علانية بأنه “مُسيس”، زاعمًا أنه “يوظف الدماء في خدمة استهدافات سياسية”.

وفي مقابل ادعاءات نصر الله، فإن مسار التحقيق يعتبر أبلغ رد على تلك الاتهامات الزائفة التي يطلقها حزب الله من أجل ترهيب القضاء اللبناني ورجاله، فقد استدعى القاضي البيطار رئيس الحكومة السابق حسان دياب للاستجواب، كما طلب ملاحقة شخصيات أمنية ونواب ووزراء سابقين من مختلف التيارات السياسية، فمنهم وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق المنتمي لتيار المستقبل، ووزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس المنتمي لتيار المردة، ووزير المالية السابق علي حسن خليل ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، المنتميان لحركة أمل.

ومن الواضح أن سعي حزب الله وراء عملية التشويش على التحقيقات، يؤكد ضمنًا صحة تقارير أجهزة استخبارات غربية التي تحدثت عن شبهات تورطه في تخزين مادة “نترات الأمونيوم” التي أدت للانفجار الكارثي، مشيرة إلى أن وصول تلك الشحنة إلى الحزب تم من خلال إشراف ميليشيا الحرس الثوري الإيراني.

ولذلك حاول حزب الله الضغط بكل الأوراق من أجل إزاحة البيطار، سواء برسائل التهديد أو الضغط السياسي على حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي عبر تعطيل أعمالها، حيث قررت الحكومة تأجيل اجتماع كان مقررًا في القصر الجمهوري، وسط تحذير وزراء حزب الله وحركة أمل وتيار المردة من تعليق مشاركتهم في الحكومة في حال لم يتم اتخاذ قرار بشأن البيطار.

وآخرها كان الضغط من خلال تحريك المظاهرات في الشارع  ضد البيطار، عبر مسيرة القصر العدلي، والتي تحولت إلى مأساة دموية.

متظاهرو حزب الله يحملون السلاح وقذائف “الآر.بي.جي”

وتعد مظاهرات أنصار حزب الله وحركة أمل أمام قصر العدل في بيروت، أحدث مظاهر اعتداءات ميليشيا الحزب على سيادة القانون ومؤسسات الدولة اللبنانية، فعلى الرغم من تعدد الروايات حول بداية الأحداث الدامية سواء رواية السلطات الرسمية أو رواية حزب الله أو غير ذلك من الأطراف السياسية أو وسائل الإعلام، فإن الشيء اللافت للنظر أن مظاهرة أنصار حزب الله الذي رفع شعار أنها “سلمية” كانت تضم في صفوفها مسلحين بأسلحة رشاشة ومدافع محمولة على الكتف لإطلاق قذائف “آر.بي.جي” !، وهو ما يثير علامات استفهام حول وجود سيناريو مسبق لدى الحزب بشأن حتمية الاشتباكات أو احتمالية وقوعها وبالتبعية توظيف الأحداث لأغراض سياسية.

ويبدو أن مسارعة حزب الله إلى اتهام حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع مستبقًا التحقيقات التي تجريها السلطات اللبنانية، وفي مقدمتها الجيش الذي كان موجودًا في قلب الاشتباكات بعد فترة وجيزة من اندلاعها، دليل آخر على مساع محمومة إلى طمس الحقائق واختلاق أزمات والهروب إلى الأمام من أزمة تحقيقات انفجار المرفأ، عبر إدخال البلاد في متاهة جديدة تتعلق بتحقيقات في “أحداث الطيونة”، ما يشير إلى انتهاج حزب الله المدعوم من إيران أسلوب الإدارة بالأزمات عبر اختلاق أزمة جديدة من أجل الخروج من مأزقه الراهن.

وتجدر الإشارة هنا إلى وقوف حزب القوات اللبنانية وحزب الله على طرفي نقيض في قضية التحقيق في مرفأ بيروت، إذ يدعم جعجع استمرار البيطار في مهامه ويرفض الضغوط السياسية التي يمارسها حزب الله لتنحيته، كما يطالب زعيم حزب القوات سمير جعجع بتحقيق دولي في الانفجار وهو ما يعارضه حزب الله، متذرعًا بحجج مثل رفض التدخل الخارجي، وأن هذا التحقيق سيمثل انتهاكًا للسيادة اللبنانية، وتبرز هنا ازدواجية وتناقض حزب الله في تعامله مع مفهوم السيادة، الذي يفسره بشكل مطاط وفقًا لمصالحه الآنية، فالتحقيق الدولي انتهاك للسيادة اللبنانية، بينما التدخلات الإيرانية وانسياق الحزب التام وراء طهران لا يشكل انتهاكًا لتلك السيادة!

لبنان وسيناريوهات ما بعد “أحداث الطيونة”

تبرز ثمة أربعة سيناريوهات حاليًا حول تطورات الأوضاع في لبنان ما بعد الأحداث الدامية التي وقعت في منطقة الطيونة ببيروت، يمكن استعراضها على النحو التالي:

سيناريو الحرب الأهلية:

يستند هذا السيناريو إلى تصريحات لمسؤولين في حزب الله توعدوا فيها بالثأر من حزب القوات اللبنانية الذي يتهمونه باستهداف متظاهري حزب الله، ومن أبرزهم رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، هاشم صفي الدين الذي قال إن “حزب القوات اللبنانية كان يسعى لإحداث حرب أهلية جديدة”، كما أكد محمد رعد، رئيس الكتلة النيابية لحزب الله أن “الحزب لن يقبل بأن تذهب تلك الدماء هدرًا”، وتوحي تلك التصريحات بأن الأيام المقبلة قد تشهد صدامًا مسلحًا بين حزب الله وحزب القوات اللبنانية الذي يعد بحسب مراقبين للشأن اللبناني أبرز القوى المعارضة لحزب الله.

ويبقى التأكيد على أن لجوء حزب الله لهذا السيناريو لن يكون قطعًا رهنًا لتقديرات الحزب، فخطوة كهذه لن تتم إلا بضوء أخضر من قِبل نظام الملالي الذي يستخدم لبنان كورقة ضغط في مساوماته مع القوى الغربية في عدد من الملفات على رأسها المفاوضات النووية في فيينا والتي من المقرر استئنافها قريبًا.

سيناريو الاغتيالات:

يعتبر هذا السيناريو أقل حدة من حيث شدة العنف ونطاق استخدام القوة عن سيناريو الحرب الأهلية، وهو الأقرب إلى تكتيكات ميليشيا حزب الله بالمعطيات السياسية الحالية، وعلى مدى تاريخه الإجرامي لجأ حزب الله إلى تنفيذ اغتيالات للتخلص من الخصوم السياسيين ومن أبرزها اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، إذ أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ديسمبر الماضي 5 أحكام بالسجن المؤبد بحق عضو حزب الله سليم عياش بتهمة اغتيال الحريري، وكان الناشط الحقوقي لقمان سليم وهو من أشرس معارضي حزب الله أحدث ضحايا الاغتيالات السياسية في لبنان، ولذلك من الممكن أن يلجأ حزب الله خلال الفترة المقبلة حال فشل محاولات الاغتيال السياسي الراهنة للقاضي طارق البيطار إلى تصفيته.

سيناريو التهدئة المؤقتة:

يقوم هذا السيناريو على اتجاه الأوضاع نحو تهدئة مؤقتة من أجل إفساح الطريق أمام حكومة ميقاتي لبدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لوضع برنامج تعاون متوسط وطويل الأمد للتعافي الاقتصادي، فضلًا عن أن تلك التهدئة لازمة وضرورية لتلقي الأموال والمساعدات من المانحين الدوليين، إذ سبق وأكدت القوى الغربية والولايات المتحدة أن مساعدة لبنان مرهونة بالتزام الحكومة بمسار واضح وشفاف للإصلاحات، وقطعًا لن تتمكن الحكومة من اتخاذ خطوات كهذه في ظل حالة الاستقطاب والمشاحنات السياسية الحالية.

كما أن مسار التهدئة هذا تفرضه ضغوط الشارع اللبناني الذي بات يضيق ذرعًا بالطبقة الحاكمة والأحزاب والقوى السياسية المتناحرة، في وقت يئن فيه الشعب تحت وطأة الغلاء ووباء كورونا وانهيار الخدمات الأساسية كالكهرباء.

سيناريو انهيار الحكومة:

تنذر الضغوط  التي يمارسها حزب الله وحليفه حركة أمل وكذلك تيار المردة على حكومة ميقاتي من أجل التدخل في قضية انفجار المرفأ وتنحية القاضي البيطار، باحتمال انفراط عقد الحكومة بعد مرور شهر على تشكيلها ليدخل لبنان إلى دوامة الفراغ الحكومي التي ما فتئ أن خرج منها بعد عام كامل من الفراغ الذي أسهم في انزلاق لبنان نحو مزيد من الانهيار الاقتصادي والتردي الحاد في الأوضاع المعيشية، وسيكون لذلك السيناريو تداعيات خطيرة بالنظر إلى حجم المهام الملقاة على عاتق حكومة ميقاتي الواجب إنجازها في فترة زمنية قصيرة للغاية، إذ يقع على عاتق تلك الحكومة مهام صعبة؛ أبرزها استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتحضير للانتخابات النيابية المزمع عقدها في مايو المقبل.

وتأسيسًا على ما سبق، لقد أظهرت الأزمات المتصاعدة التي يمر بها لبنان منذ احتجاجات أكتوبر 2019 ضد الطبقة السياسية مرورًا بانفجار بيروت في أغسطس 2020، وأخيرًا أحداث الطيونة في أكتوبر الجاري، انتهاك حزب الله المستمر للقانون والدستور اللبناني باحتكامه إلى قوة السلاح، التي يسعى من خلال التهديد باستخدامها أو استخدامها بالفعل إلى ترهيب الخصوم السياسيين وممثلي السلطات القضائية الذين يؤدون مهامهم لتحقيق العدالة.

وأخيرًا، تبقى الإشكالية الجوهرية في لبنان والعائق الرئيسي أمام استقراره هو نظام المحاصصة الطائفية الذي حول الدولة إلى كعكة تتقاسمها القوى السياسية المتناحرة، لذلك فإن المخرج الوحيد للبنان من تلك الأزمات هو الالتفاف حول مشروع وطني مدني عابر للطوائف يؤمن بسيادة الدولة ومؤسساتها قولًا وفعلًا، لا يكون فيه مجال لكيانات تؤسس دولة داخل الدولة كما يفعل حزب الله.

زر الذهاب إلى الأعلى