تقارير

تطور الماكينة الإعلامية لحركة طالبان

يتناقض النهج الذي تتبعه حركة طالبان الأفغانية حاليًا مع وسائل الإعلام والتكنولوجيا بشكل صارخ عما كان عليه عندما كانت في السلطة في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين، حيث فرضت آنذاك حظرًا على التلفاز والإنترنت الذي كان لا يزال ناشئًا. فيما تزامن احتضان الحركة الراهن للتكنولوجيا والانخراط بقوة في منصات التواصل الاجتماعي مع زيادة استخدام الإنترنت في جميع أنحاء أفغانستان، إذ تشير تقديرات وزارة الاتصالات الأفغانية إلى أنه اعتبارًا من عام 2019، كان هناك ما يقرب من 10 ملايين مستخدم للإنترنت وحوالي 23 مليون مستخدم للهواتف المحمولة في البلاد، مع قدرة 89% من الأفغان على الوصول إلى خدمات الاتصالات.
وتسعى طالبان إلى توظيف ذلك الوجود على مختلف المنصات الرقمية في تصدير صورة جديدة للعالم عن الحركة مفادها أنها أصبحت أكثر انفتاحًا واعتدالًا، في وقت تدرس فيه الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مدى إمكانية الاعتراف بسلطة طالبان بعد أن سيطرت الحركة على الحكم.
وفي هذا الإطار، أبدى العديد من المراقبين الغربيين دهشتهم من تطور الماكينة الإعلامية لحركة طالبان، لكنهم رأوا أن التكتيكات الإعلامية الجديدة التي تتبعها الحركة مجرد مواكبة للبيئة المتغيرة والمستجدات دون أن يكون لذلك انعكاس لتحول في الفكر المتشدد الذي تتبناه.
حسابات التواصل الاجتماعي كسلاح بيد طالبان
ووفقًا للمعهد الأطلسي (مركز بحثي مقره واشنطن)، فإن حركة طالبان اعتبرت وسائل التواصل الاجتماعي من بين أسلحتها الأساسية خلال زحفها نحو كابول، حيث نشرت المئات من إعلانات النصر المبكرة عبر فيسبوك وتويتر لتضخيم رسائلها وخلق شعور بحتمية الانتصار، وقد أثبت عناصر الحركة أن هواتفهم الذكية مفيدة مثل بنادقهم عندما دخلوا إلى العاصمة الأفغانية في 15 أغسطس الماضي، مما مكنهم من تصوير أول لقطات دعائية لسيطرتهم على كابول.
وأدرك قادة طالبان أهمية التكنولوجيا وضرورة مواكبتها في نشر الدعاية الخاصة بالحركة، بجانب التأثير النفسي على الخصوم، فضلًا عن تلميع صورة طالبان في إطار تأهيلها لمرحلة جديدة تنخرط خلالها في تعاملات مع الغرب والعالم كسلطة تمثل الدولة الأفغانية، وهو ما يمكن استعراضه عبر ثلاث محطات على النحو التالي:
الانخراط في العصر الرقمي (2002-2009)
حاولت حركة طالبان منذ سيطرتها على السلطة في أفغانستان عام 1996 الحصول على اعتراف دولي وتمثيل أفغانستان في الأمم المتحدة، فعلى الرغم من حظرها للتصوير الفوتوغرافي والتلفاز والإنترنت أطلقت موقعها الإلكتروني الأول (www.taliban.com) في عام 1998، سعيًا نحو إظهار وجه متمدن عصري، ومع ذلك لم تستطع الحركة إخفاء فظائعها الواضحة، فكان قرار طالبان توفير ملاذ لأسامة بن لادن الزعيم الراحل لتنظيم القاعدة الإرهابي، واتخاذ مسار مناهض للولايات المتحدة اعترافًا بفشل استراتيجيتها في الانخراط على الساحة الدولية.
وبرز دور الماكينة الإعلامية للحركة عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 والإطاحة بحكم طالبان، إذ أعادت الحركة بناء قواتها في مناطق قبلية آمنة نسبية في غرب باكستان، واعتبرت أن نجاحها يتوقف إلى حد كبير على قدرتها على تشكيل بيئة المعلومات ونشر الروايات التي تروج لصورة إيجابية عنها وتسليط الضوء على سلبيات الولايات المتحدة والقوات الأفغانية المدعومة من واشنطن.
وفي عام 2002، أسست طالبان ذراعًا إعلامية تم تنشيطها تركز على كسب الشرعية بين السكان المحليين وتقويض الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة، وفي سبيل ذلك تراجعت الحركة عن حظرها نشر الصور بعدما وجدت أن القيمة الدعائية للصور ومقاطع الفيديو للقتلى من المدنيين الأفغان على أيدي القوات الأمريكية كانت أكبر من تجاهلها.
وفي البداية، لم تستثمر الحركة بكثافة في وجود رسمي على شبكة الإنترنت، حيث ركزت على المواد الدعائية المكتوبة والشرائط الصوتية التي يمكن أن تنتشر في المناطق الريفية، حيث ينشط مقاتلو طالبان.
وأبدت طالبان اهتمامًا بدراسة ومحاكاة الدعاية الخاصة بالجماعات الإرهابية الأخرى، فعندما تصدر تنظيم القاعدة في العراق عناوين الصحف العالمية بقطع رؤوس الرهائن، حاولت طالبان فعل الشيء نفسه، ولكن مع تنامي رد الفعل المناهض، قررت طالبان العودة إلى إطلاق النار على سجنائها بدلاً من ذلك.
واهتمت طالبان بتوسيع نطاق وصول واستيعاب رسائلها، حيث تم نشر الموقع الرسمي للحركة في عام 2005 بخمس لغات وهي الإنجليزية والعربية والباشتو والداري والأوردو، وجاء جزء كبير من محتوى الموقع في شكل بيانات صحفية قصيرة ثم توسعت الحركة نحو الدعاية الصوتية والمرئية القابلة للتحميل، واللافت أن “طالبان” لم تسع إلى الدخول في ثقافة المنتديات وغرف الدردشة التي ميزت الحركات الإرهابية العالمية في تلك الفترة، ربما بسبب الطابع المحلي لنشاط الحركة، فهي لم تتبن رؤية لإعادة تشكيل العالم مثل التي يتبناها تنظيم القاعدة.
الوجود على منصات التواصل الاجتماعي (2009 – 2017)
نشرت حركة طالبان في عام 2009 رسالة باللغة الإنجليزية على موقعها على الإنترنت تتعلق بمخاطر وأهداف حرب المعلومات، متهمة الغرب بحملة تضليل منسقة ضدها ووسائل الإعلام بالتحيز من خلال نشر الرواية الرسمية، مشيرة إلى أن اكتفاء الحركة بإصدار بيانات صحفية للرد لم يعد كافيًا، فهي تحتاج إلى شبكة على الإنترنت من المؤيدين لذا وجدت ضالتها في وسائل التواصل الاجتماعي. وفي إطار سعيها لتوسيع مدى انتشار مقاطع الفيديو الدعائية، انضمت طالبان إلى موقع يوتيوب عام 2009، كما أضافت زر “مشاركة” على موقع “فيسبوك” إلى موقعها على الإنترنت.
وبحلول عام 2011، كانت طالبان تنشر تحديثات منتظمة على فيسبوك وتويتر، ويبدو أن وجود الحركة على تويتر كان مصممًا خصيصًا لمشاركة التفاصيل حول المعارك المختلفة وتقديم التعليقات للصحفيين الغربيين قبل ساعات من قيام القوات الدولية أو الحكومة الأفغانية بإصدار إعلانات رسمية.
وفي عام 2015، أعلنت حركة طالبان إطلاق قناتين على تليجرام وواتساب ولم تعمل هذه الخطوة على تحسين دعاية الحركة فحسب، بل قامت أيضًا بنقل الاتصالات إلى منصات مشفرة بعيدًا عن متناول الاستخبارات العسكرية الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين ازدهرت عمليات طالبان الرقمية وسط تقاعس نسبي من جانب شركات وسائل التواصل الاجتماعي، إذ قام فيسبوك وتويتر ويوتيوب بحذف محتوى طالبان بشكل متقطع، فكان يحدث ذلك فقط عندما يصبح المحتوى شديد الخطورة أو يتسبب في غضب صانعي السياسة الأمريكيين.
كسب حرب المعلومات (2017- حتى الآن)
بحلول عام 2017 أصبحت الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة أقل استعدادًا للعمليات القتالية مقابل الانخراط في ممارسة الرقابة، فبينما استمر الجيش الأمريكي في الكشف بشكل دوري عن أرقام تتعلق بقدرة وأداء واستنزاف القوات الأفغانية وتقديرات الخسائر العسكرية والمدنية الأمريكية والأفغانية، طلبت الحكومة الأفغانية حجب هذه الأرقام وأمرت بإغلاق تطبيقي واتساب وتليجرام داخل البلاد لمدة 20 يوما بدعوى “أسباب أمنية”، ما أثار غضب الصحفيين الأفغان وأجبرها على التراجع، وكان ذلك في صالح طالبان التي روجت لكونها أكثر سهولة وشفافية من المتحدثين باسم الحكومة الأفغانية.
وبذلت طالبان كل ما في وسعها لإعاقة المسؤولين أكثر كجزء من استعدادها للمعركة، عبر تخريب أبراج الهواتف المحمولة للحد من قدرة الحكومة الأفغانية على التواصل مع المواطنين، وبحسب ما صرح المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عام 2016، كان الهدف هو خلق فراغ في المعلومات يمكن لطالبان أن تملؤه بنفسها.
وبحلول عام 2019، نضجت دعاية طالبان الرقمية، وأصدرت تنبيهات إخبارية سريعة باللغة الإنجليزية حول المعارك الجارية، مصحوبة غالبًا بمقاطع فيديو قصيرة.
كما تعددت حسابات المتحدثين باسم طالبان على منصات التواصل الاجتماعي، ومن بينهم ذبيح الله مجاهد (لديه 367 ألف متابع) وسهيل شاهين (453 ألف متابع) وبلال كريمي (60 ألف متابع)، وصارت تلك الحسابات بعد سيطرة طالبان على السلطة في كابول نافذة أساسية تتناقل عنها وكالات الأنباء والمحطات الإخبارية العالمية مستجدات الشأن الأفغاني سياسيًا وميدانيًا.
وفي حين استمرت تلك الحسابات نشطة، اتخذت بعض شركات التكنولوجيا موقفًا أكثر حسمًا من طالبان مثل شركة فيسبوك التي حظرت حركة طالبان عبر جميع منصاتها، بما في ذلك إنستجرام وواتساب، مستندة إلى القانون الأمريكي الذي يصنف الحركة كجماعة إرهابية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن معتقدات وأهداف مقاتلي طالبان الذين تدفقوا إلى كابول في منتصف أغسطس الماضي لم تتغير كثيرًا عن تلك التي كانت لدى أعضاء الحركة الذين فروا من العاصمة الأفغانية قبل عشرين عامًا، فغاية ما تغير هو استعدادهم لاستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة لتحقيق أهدافهم، إذ تدرك طالبان اليوم كيفية نشر دعايتها على نطاق واسع وبسرعة، وأصبحت تقدر كيف يمكن استخدام الدعاية باللغة الإنجليزية في إبراز وجه “معتدل” يساعد في إخفاء الصورة السلبية المرتبطة بالمذابح والانتقام العنيف.
وتغير “طالبان الجديدة” خطابها من خلال نشر رسائل تتحدث عن السلام، وبث مشاهد توحي بمواكبة الحركة وعناصرها للعصر الراهن والحياة المتمدنة والتحولات التي طرأت على المجتمع الأفغاني خلال عقدين انفتح خلالهما على الغرب وثقافته، لكن محو الصورة السلبية الراسخة في الأذهان عن الحركة ليس مسألة سهلة أو سريعة على الإطلاق لا سيما في ظل وجود مشاهد تناقض حديث طالبان عن السلام والانفتاح، ومنها وجود عناصر مدججة بالسلاح داخل مسجد في كابول أثناء خطبة الجمعة، وعناصر مسلحة أيضًا داخل استوديو أخبار لإجبار مذيع النشرة على الثناء على الحركة.
وأخيرًا، يبقى التأكيد على أن الاختبار الحقيقي لنهج طالبان فيما يتعلق بوسائل الإعلام سواء التقليدية أو منصات الإعلام الجديد لن يتمثل في ما تقوله الحركة، ولكن ما يُسمح للشعب الأفغاني بقوله، فالحركة ترغب بالتأكيد في استخدام التكنولوجيا لأغراض العلاقات العامة والدعاية الخاصة بها، ولكنها حاليًا بعد السيطرة على أفغانستان، ستتجه على الأرجح إلى تقييد وصول الأفغان إلى وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة للحد من الوصول إلى المعلومات.

زر الذهاب إلى الأعلى