تقارير

زيارة الكاظمي إلى السعودية وعودة العراق للحاضنة العربية

شكلت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى الرياض قبل أيام مؤشرًا من أحدث المؤشرات الدالة على رغبة الحكومة العراقية في العودة إلى الحاضنة العربية من أجل التخلص من النفوذ الإيراني داخل البلاد، فظهر جليًّا الحرص العراقي على توطيد العلاقات مع المملكة العربية السعودية لدورها القيادي في العالمين العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط ومكانتها الدولية البارزة.
وقد شهدت العلاقات السعودية العراقية تطورًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة عبر محطات تمثلت في استئناف العلاقات الدبلوماسية، وتبادل الزيارات بين الجانبين، وكذلك توقيع عدد من اتفاقيات التعاون وتأسيس مجلس التعاون التنسيقي المشترك.
وفي نوفمبر الماضي، تم فتح منفذ عرعر البري بين العراق والسعودية للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، في خطوة تهدف إلى السماح بمرور البضائع والمسافرين، مما أوجد بوابة أخرى للواردات التي تدخل العراق الذي يستورد حاليًا القسم الأكبر من حاجاته من إيران، ثاني أكبر بلد من حيث التبادل التجاري مع بغداد، وقد أحدثت تلك المؤشرات مجتمعة إرباكًا لمخططات إيران وإضعافًا لنفوذها في العراق.
سياق ودلالات زيارة رئيس الوزراء العراقي للمملكة
جاءت زيارة الكاظمي إلى الرياض تلبية لدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، خلال محادثات أجراها مع رئيس الوزراء العراقي عبر الاتصال المرئي قبل نحو أسبوع، واستهدفت الزيارة تحقيق هدفين أساسيين هما تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار، واستكشاف طرق تعزيز الاستقرار الإقليمي.
وقد حظي رئيس الوزراء العراقي – في زيارته الأولى للمملكة منذ توليه منصبه – باستقبال حافل، حيث رافقت طائرات سعودية حربية طائرة الكاظمي القادمة من بغداد لدى دخولها الأجواء السعودية، كما كان صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، في استقباله لدى وصوله بالمطار، وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة ترحيبًا بقدوم ضيف المملكة، فيما رسمت الطائرات السعودية العلم العراقي في الجو. وتعكس تلك المراسم البروتوكولية في العرف الدبلوماسي أهمية الزيارة وتقدير الدولة المضيفة للضيف الزائر.
كما شملت الزيارة مباحثات موسعة مع سمو ولي العهد امتدت لساعات، تخللتها جولة بحي الطريف التراثي في منطقة الدرعية، حيث استقلا عربة صغيرة قادها ولي العهد وإلى جانبه رئيس الوزراء العراقي، في مشاهد تبعث برسائل مهمة تعكس مدى التوافق والتقارب بين قادة البلدين.
وعلى صعيد مخرجات المباحثات، أظهرت البيانات والتصريحات الرسمية الصادرة عن الجانبين السعودي والعراقي التوافق في الرؤى إزاء الأوضاع الإقليمية، وحَرَصَ الطرفان على تثبيت دعائم الأمن والاستقرار، ورفض التدخلات الخارجية، وكذلك أي محاولات للمساس بأمن البلدين، وهو ما تجلى في مؤشرين أساسيين:
الأول هو إصدار المملكة بيانًا بشأن الزيارة أكدت فيه حرصها على وحدة شعب العراق والتعاون مع حكومته؛ لتحقيق المصالح المشتركة، وتعزيز العلاقات الثنائية بما يحقق الأمن والاستقرار للمنطقة، فضلًا عن التشديد على ضرورة احترام سيادة العراق ووحدة أراضيه، ووقف التدخلات الخارجية في شؤونه، والحرص على دعم جهود العراق في التصدي للتطرف ومكافحة الإرهاب.
وهنا يجب التأكيد على أن العراق يمثل عمقًا استراتيجيًا للمملكة، فأمن العراق كان دومًا مرتبطًا بأمن السعودية، وأمن المملكة يتأثر طبعًا بأمن العراق.
أما عن المؤشر الثاني فتمثل في تأكيد رئيس الوزراء العراقي بأن بلاده لا تقبل ولا تسمح بأي عدوان أو هجوم على المملكة العربية السعودية من الأراضي العراقية، نافيًا صحة تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس الأمريكية يزعم أن ميليشيا عراقية تسمى “رَبع الله” مدعومة من إيران، شنت هجومًا بطائرة دون طيار مؤخرًا على الرياض، معتبرًا أن تلك المزاعم محاولات من قبل البعض لإلقاء اتهامات للإضرار بالتقدم في العلاقات بين العراق والمملكة.
استراتيجية الكاظمي للانفتاح على المحيط العربي وتقويض أذرع إيران
وقد أظهر الكاظمي منذ توليه مهام منصبه في7 مايو الماضي، رغبته الأكيدة في الانفتاح على المحيط العربي، وسعيه لعودة العلاقات القوية بين بغداد والرياض، من خلال تبنيه رؤية تغلب المصلحة الوطنية على الولاء الطائفي ذي المد الإيراني، وتحفظ كذلك سيادة واستقلال العراق، وتكفل له انخراطًا فاعلًا وقرارًا مستقلًا في الساحتين العربية والدولية.
وفي سبيل بلوغ هذا الهدف فإن بغداد بحاجة إلى المملكة كقوة إقليمية لها ثقلها السياسي والأمني والاقتصادي الذي يساعد العراق في تجاوز الأزمات التي يمر بها حاليًا، وكذلك التخلص من النفوذ الإيراني الذي تعمل طهران على تكريسه عبر المليشيات والقوى السياسية الموالية لها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رئيس الوزراء العراقي عمل خلال الأشهر الماضية على تشديد الضغوط على الميليشيات المسلحة مستفيدًا من مشاعر الغضب في الشارع العراقي تجاه إيران، والذي تم التعبير عنه بوضوح في الحركة الاحتجاجية الشعبية التي بدأت في أكتوبر 2019 والتي رفع خلالها المتظاهرون شعارات مناهضة لإيران ومنددة بتدخلاتها في الشأن العراقي، كما انتهج استراتيجية للدفع بعناصر تلك التنظيمات وداعميها خارج المؤسسات الحكومية بهدف إضعاف نفوذهم، وتجفيف مصادر تمويل تلك الميليشيات من خلال تعزيز سيطرة الحكومة على المعابر الحدودية لمكافحة الفساد والتهريب، بجانب القيام بسلسلة من التعيينات تهدف إلى إرساء توازن في المؤسسات الأمنية بعيدًا عن القوى المتحالفة مع إيران.
مكاسب اقتصادية عراقية واسعة من تعزيز التعاون مع المملكة
وفي ظل مساعي حكومة الكاظمي لتعميق العلاقات الاقتصادية مع الرياض، كان من الطبيعي أن يشغل ملف التعاون الاقتصادي وجذب الاستثمار حيزًا كبيرًا من جدول أعمال زيارته للمملكة، وقد توج ذلك الشق من الزيارة بالتوصل إلى اتفاق على خمس نقاط أساسية كالتالي:
– تأسيس صندوق سعودي- عراقي مشترك، برأسمال يقدر بثلاثة مليارات دولار، لتعزيز الاستثمار الاقتصادي السعودي في العراق، بمشاركة القطاع الخاص من الجانبين.
– التعاون في مجالات الطاقة والطاقة المتجددة وتفعيل وتسريع خطة العمل المشتركة تحت مظلة مجلس التنسيق السعودي العراقي، والتعاون في نطاق منظمة أوبك النفطية بما يضمن استقرار أسواق النفط العالمية.
– إنجاز مشروع الربط الكهربائي بين البلدين.
– تعزيز التنسيق في مجال الدعم والتأييد المتبادل في إطار الدبلوماسية متعددة الأطراف.
– تعزيز فرص الاستثمار للشركات السعودية، ودعوتها إلى توسيع نشاطاتها في العراق في مختلف المجالات وفي جهود إعادة الإعمار.
كما وقّع الطرفان على اتفاقيات ثنائية شملت تجنب الازدواج الضريبي، والتعاون في مجال التخطيط التنموي للتنوع الاقتصادي وتنمية القطاع الخاص، وأخرى متعلقة بتمويل الصادرات السعودية.
وتولي المملكة أهمية خاصة للمحور الاقتصادي في العلاقات مع العراق، إذ ترى القصور في قطاعات الأمن والاقتصاد وصناعة الطاقة بالعراق أحد الأسباب الرئيسية لضعف بغداد أمام نفوذ طهران، لذلك التزمت الرياض باستثمارات جديدة في الاقتصاد العراقي، مع فتح قنوات تجارية، مع تعزيز المصالح المؤسسية لدول مجلس التعاون الخليجي في العراق، فعلى سبيل المثال، كانت المملكة العربية السعودية هي رأس الحربة في اتفاقية الربط الكهربائي بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2019، وفقًا للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية.
وبشكل أعم، فإن التعاون في مجال الطاقة بين المملكة العربية السعودية والعراق يسهله حقيقة أن الحكومة العراقية تنظر إلى تنويع مصادر الطاقة في العراق على أنه أمر حاسم لتعزيز سيادة البلاد، فقد ظلت أجزاء كبيرة من العراق لسنوات عديدة تعتمد على إمدادات الكهرباء من إيران ، مما منح طهران نفوذًا كبيرًا على بغداد.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى الرياض كانت أحدث مؤشر على انفتاح بغداد على محيطها العربي، والذي اتخذ مسارات عدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي خلال السنوات الأخيرة، من أبرزها مجلس التنسيق السعودي العراقي الذي تم تدشينه عام 2017، وآلية التعاون الثلاثية بين مصر والعراق والأردن وهو ما يعكس رغبة عراقية أكيدة في إقامة علاقات إقليمية متوازنة تخدم مصالح العراق السياسية والاقتصادية والتنموية، وبما سيؤدي إلى تطويق وانحسار النفوذ الإيراني في البلاد.
ويعتبر التعاون الاقتصادي مجالًا حيويًّا لتخليص العراق من التدخلات الإيرانية، فضخ الاستثمارات العربية وفي مقدمتها السعودية في المرافق الاقتصادية بالعراق ستمكنه من الفكاك من الكماشة الإيرانية، لا سيما وأن طهران في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة التي تمر بها بسبب العقوبات الأمريكية لن تكون قادرة على مجاراة أي خطوات في هذا المسار.

زر الذهاب إلى الأعلى