تشهد العديد من الدول حول العالم حاليًّا موجة ثانية من وباء كورونا المستجد “كوفيد- 19″، دفعتها إلى تشديد القيود مجددًا، سعيًا إلى احتواء انتشار الفيروس، حيث عاد الإغلاق الوطني بدرجةٍ ما في كل من فرنسا وألمانيا، وسط مخاوف من مواجهة شتاء صعب، في الوقت الذي ما زالت تواصل فيه المختبرات العلمية تجاربها للتوصل إلى لقاح ضد الفيروس، لذا يبقى التمسك بإجراءات الوقاية هو السبيل لتجنب تفاقم انتشار الوباء ومحاصرته.
ويعد ارتداء الكمامات أحد أسهل الإجراءات التي يمكن للأشخاص القيام بها لمنع انتشار عدوى كورونا، وهي مسألة خضعت للتسييس منذ ظهور الوباء، وكانت محورًا للاحتجاجات والتظاهرات المعارضة لفرضها بشكل إلزامي.
حراك متنامٍ ضد ارتداء الكمامات في أوروبا
وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، شهدت عواصم أوروبية حراكًا ضد القيود المفروضة لمكافحة وباء كورونا، وفي مقدمتها ارتداء الكمامات، حيث خرج المتظاهرون في باريس، رافعين لافتات عليها شعارات مثل “لا لديكتاتورية الصحة”، كما تظاهر الآلاف في العاصمة الإسبانية، مدريد، رفضًا لقيود ارتداء الكمامات الإلزامي، معتبرين أن ذلك القرار “ينتهك حقوق الإنسان” وأنه تعذيب للأصحاء.
وتكرر المشهد ذاته في روما، حيث تم تنظيم تظاهرات واسعة لرفض وضع الكمامة، والمطالبة بجعلها اختيارية وليست إلزامية.
وربما كانت مقاومة ارتداء الكمامات أقل حدة في الولايات المتحدة، حيث هناك 34 ولاية بجانب مقاطعة كولومبيا التي تضم واشنطن العاصمة، تلزم السكان بارتداء الكمامات في الأماكن العامة. ووفقًا لمسحٍ أجراه مركز بيو الأمريكي للأبحاث خلال شهر أغسطس الماضي، فإن أكثر من 85% من البالغين في الولايات المتحدة، يرتدون الكمامات في معظم الأوقات في المتاجر والشركات.
ويرتدي عدد أكبر من الأمريكيين الكمامات حاليًّا مقارنة بأوائل الربيع الماضي، لكن الشباب هم الأقل التزامًا بالخطوات الاحترازية لوقف انتشار الفيروس.
وتشير نتائج استطلاع صادر عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة إلى ارتفاع نسبة البالغين الأمريكيين الذين يرتدون الكمامات من 78% في أبريل إلى 89% في يونيو، ولم يجد الاستطلاع أي تراجع في السلوكيات الأخرى التي تهدف إلى منع انتشار فيروس كورونا، مثل غسل اليدين والتباعد الاجتماعي وتجنب الأماكن العامة أو المزدحمة.
اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع وظاهرة رفض ارتداء الكمامات
وعلى الصعيد الأكاديمي، اهتمت العديد من الدراسات خلال الآونة الأخيرة بتحليل ظاهرة رفض ارتداء الكمامات واستكشاف الدوافع التي تكمن وراء ذلك الموقف، رغم خطورة انتشار الوباء الذي أودى بحياة 1,1 مليون شخص حول العالم، فضلًا عن إصابة أكثر من 46 مليون آخرين.
فألقت دراسة حديثة لجامعة لوندرينا البرازيلية بعض الضوء على سبب تلك الظاهرة، حيث وجد الباحثون أن الأشخاص الذين عبَّروا عن “سمات معادية للمجتمع”، تشمل مستويات منخفضة من التعاطف ومستويات عالية من القسوة والمخاطرة، كانوا أقل امتثالًا لتدابير الوقاية من فيروس كورونا، مثل ارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي.
وهدفت الدراسة إلى التحقق من العلاقة بين السمات المعادية للمجتمع والامتثال لتدابير الاحتواء، لذلك قامت بتقييم سلوك عينة تتألف من 1578 شخصًا بالغًا تتراوح أعمارهم بين 18 و73 عامًا على مدى 15 أسبوعًا وتحديدًا خلال الفترة من 21 مارس إلى 29 يونيو.
وأجاب المشاركون أيضًا عن أسئلة حول مدى امتثالهم لتدابير احتواء كورونا مثل نظافة اليدين والتباعد الاجتماعي. وتضمن هذا الجزء من الاستطلاع سؤالًا محددًا حول الكمامات نَصُّه كالتالي: “هل تعتقد أنه من الضروري استخدام الكمامات في البرازيل؟”.
ووفقًا للدراسة فقد كشف التحليل عن وجود مجموعتين من الأشخاص، الأولى تضم أولئك الذين لديهم ميل أعلى للسمات المعادية للمجتمع وتسمَّى بـ”مجموعة الأنماط المعادية للمجتمع”، أمَّا الثانية فتضم الأشخاص الذين لديهم ميل أعلى للتعاطف وتعرف بـ”مجموعة نمط التعاطف”.
وقدمت مجموعة الأنماط المعادية للمجتمع درجات أعلى في جميع السمات النموذجية لاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مثل القسوة والخداع والعداء والاندفاع وعدم المسؤولية والتلاعب والمخاطرة، ودرجات أقل في التعاطف، بينما جاءت نتائج مجموعة نمط التعاطف على العكس من ذلك.
ويشير مصطلح “مُعادٍ للمجتمع” إلى السمات التي توجد عادةً في الأشخاص الذين تم تشخيصهم باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وتتميز تلك الشخصية بسلوكيات شائعة مثل الانتهاك المتكرر للقانون واستغلال الآخرين والتجاهل المتهور لسلامة الذات والآخرين، وغالبًا ما يفتقر هؤلاء الأشخاص إلى الشعور بالذنب والندم والتعاطف، وفقًا للجمعية الأمريكية لعلم النفس، ويسمى هذا الاضطراب أيضًا بـ”الشخصية السيكوباتية” أو “الاعتلال الاجتماعي”، وهو أكثر شيوعًا عند الرجال.
واعتبر فريق دراسة جامعة لوندرينا أن هذه السمات تشرح جزئيًّا على الأقل، سبب استمرار بعض الناس في عدم الالتزام بتدابير الاحتواء حتى مع تزايد أعداد حالات الإصابة والوفيات بكورونا، لافتًا إلى أن نتائجها يمكن أن تكون مفيدة لسياسات الصحة العامة، فعلى سبيل المثال من خلال الفحوصات التي تظهر ارتفاعًا في هذه السمات المعادية، يمكن إجراء تدخلات بهدف زيادة الوعي والامتثال لتدابير احتواء انتشار الوباء.
وعلى غرار دراسة جامعة لوندرينا البرازيلية، أشارت نتائج دراسة أمريكية نشرتها مجلة “Social Psychological and Personality Science” أجريت على 502 مشارك عبر الإنترنت في الولايات المتحدة إلى أن أولئك الذين يظهرون مستويات عالية من السمات المعادية للمجتمع كانوا أكثر عرضة لتأييد السلوكيات التي من شأنها أن تعرِّض الآخرين عن قصد للمخاطر.
أمَّا على الجانب الآخر، فيعتقد الأشخاص المتعاطفون أن من مسؤوليتهم الاجتماعية عَزْلَ أنفسهم والحفاظ على نظافة اليدين وارتداء الكمامات.
كما ركزت دراسات أخرى أيضًا على الجوانب النفسية المتحكمة في رفض الشخص لارتداء الكمامة، ومن بينها دراسة بولندية نشرتها مجلة”Personality and Individual Differences” التي خلصت إلى أن الأشخاص الذين يظهرون “الثالوث المظلم” (يستكشف ثلاث سمات شخصية مكروهة اجتماعيًّا: النرجسية، والميكيافيلية، والاعتلال النفسي) كانوا أقل عرضة لاتباع الإجراءات الوقائية أو الامتثال للقيود، بل إنه من المثير للاهتمام أنهم يعتقدون أيضًا أنهم معرَّضون بشدة للفيروس، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على فعل أي شيء حيال ذلك الخطر.
وترى غابرييل وونغ بارودي، الأستاذة بجامعة ستانفورد أنه حتى الأشخاص الذين يفهمون ما يجب عليهم فعله (ارتداء الكمامة) لا يفعلون، مشيرة إلى وجوب أن تكون الرسالة الموجهة إليهم من قِبَل الجهات الصحية قائمة على الأدلة، وهنا تبرز الحاجة إلى تزويد الناس بخيارات سلوكية واقعية يمكنهم فعلُها وتحمُّلُها.
ويشير موقع “news-medical” المتخصص في المجال الطبي إلى أن الباحثين لاحظوا أهمية دمج التأثيرات الاجتماعية والنفسية لسلوك استخدام الكمامة، لافتًا إلى أن إحدى طرق تغيير السلوك تتمثل في مقارنة تصرفات الأشخاص مع الآخرين، وتقديم ملاحظات إيجابية، وبث الرسائل التوعوية في المكان الأكثر ملاءمة.
كما يلعب التأثير الاجتماعي دورًا هنا، فإدراك الشخص لسلوك الأصدقاء المقربين منه والعائلة قد يكون تأثيره عليه إيجابيًّا ومباشرًا.
الانطوائية والقلق الاجتماعي كمحفِّز لارتداء الكمامات
ورغم الأبعاد النفسية السالف ذكرها، التي تقف خلف رفض ارتداء الكمامات، فإن البعض يُقبل على ارتدائها مدفوعًا بأسباب نفسية أيضًا، إذ أصبحت أقنعة الوجه شبه مريحة بالنسبة للانطوائيين، الذين يعانون من القلق الاجتماعي، إذ أفاد الكثيرون أنهم يشعرون بقلق أقل وثقة أكبر من خلال قدرتهم على تغطية وجوههم في موقف اجتماعي أو عام.
ويقصد باضطراب القلق الاجتماعي “الخوف الشديد والمستمر من أن يراقبك الآخرون، والخوف من مقابلة أشخاص جدد، وهو يمكن أن يؤثر على الناس من أي عمر أو عرق أو جنس، وفقًا للمعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية.
وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 15 مليونَ بالغٍ في الولايات المتحدة يواجهون اضطراب القلق الاجتماعي.
ويرى الدكتور فايل رايت، عضو الجمعية الأمريكية لعلم النفس أن الكمامة تُمكِّن البعض من الشعور بحرية أكبر، للتعبير عن أنفسهم دون الخوف من الحكم عليهم أو انتقادهم.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الدوافع النفسية تلعب دورًا كبيرًا في مقاومة البعض للإجراءات المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا، إلا أن الجزم بأن تلك المقاومة والرفض منبعهما سلوك ناجم عن سمات عدائية مرتبطة بطبيعة نفسية متأصلة في شخصية هؤلاء الرافضين.
وتلك نقطة شائكة تحتاج إلى جهود بحثية أكبر ودراسات تتناول شرائح اجتماعية متنوعة وعينات كبيرة تمثل مناطق جغرافية مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار أن استمرار الجائحة لفترة زمنية طويلة تجاوزت العشرة أشهر كفيل بإحداث حالة ضجر من القيود التي أثرت على حياة وتفاعل الملايين حول العالم.
في المقابل، قد تكون السمات الاجتماعية للشخصية كمعاناة الفرد من القلق والرهاب الاجتماعي دافعًا يحفِّزه على ارتداء الكمامة.