فجَّرت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الدين الإسلامي خلال الأسابيع الأخيرة، موجة من الغضب والتساؤلات حول الدوافع التي تكمن وراء ذلك الخطاب الفرنسي، الذي بدأ في الثاني من أكتوبر الجاري، حينما اعتبر ماكرون أن “الإسلام دين يعيش أزمة اليوم في جميع أنحاء العالم”، ثم إعلانه أن فرنسا “لن تتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات”، وذلك عقب مقتل المعلم الفرنسي صامويل باتي على خلفية عرضه رسومًا كاريكاتورية مسيئة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، خلال حصة دراسية.
وتتبنَّى فرنسا تفسيرًا متطرفًا لحرية التعبير التي لا تتقيد بضوابط وتستبيح النقد والتطاول والإساءة، في مخالفة للضوابط الأوروبية التي حددتها أحكام قضائية، إذ قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 2018 بأن الإساءة إلى الرسول لا يمكن إدراجها ضمن حرية التعبير عن الرأي.
كما يعكس تعامل باريس مع تيارات الإسلام السياسي حالة من التشوش والتخبط ما بين إدراك خطورتها على أمن فرنسا، في حين أنها لا تتبنَّى الرؤية ذاتها تجاه تلك الجماعات في العالم العربي، حيث كانت، ولا تزال، ممارساتها أشد خطورة.
ماكرون يغازل التيار اليميني بتصريحات معادية للإسلام
يُقدر عدد المسلمين في فرنسا بـ6 ملايين – 8% من السكان، في بلد يتمسك بعلمانية الدولة، وهو المبدأ القانوني لعام 1905 الذي يفصل بين الكنيسة والدولة ويفرض الحياد الديني، وفقًا لمجلة ذا أتلانتك الأمريكية.
ولم يكن ملف المسلمين في فرنسا وليد فترة حكم ماكرون، فقد حاولت الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ الثمانينيات فتح ملف الإسلام والمسلمين في فرنسا، بهدف دمج الأقلية المسلمة في البلاد ومحاربة التطرف وتحقيق توافق مع القيم الوطنية، ولا سيما العلمانية.
وسبق للرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك أن شكَّل “لجنة ستازي” عام 2003. وكان من بين أهم توصياتها ضرورة حظر الرموز الدينية في الفضاء العام، بدعوى أن ذلك يحقق التسامح والاندماج وقيم المواطنة والجمهورية.
وفي الآونة الأخيرة، تم تطعيم هذا الجدل بمكافحة التطرف المنسوب للمسلمين، فمنذ أن أصبح رئيسًا تعرض ماكرون للضغط من قِبَل النقاد -معظمهم من اليمين (حزب الجمهوريين) واليمين المتطرف (حزب التجمع الوطني)- لمواجهة التحديات الأمنية والثقافية والاجتماعية التي يفرضها ما يسمى بـ”الإسلام الراديكالي”، وهو موضوع مطروح بقوة على الساحة الفرنسية وللنقاش العام حتى الانتخابات الرئاسية في عام 2022، والتي من المرجح أن يواجه ماكرون فيها مرة أخرى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، في وقت تكافح فيه فرنسا لمعالجة القضية دون إحياء جروح الاستعمار أو الانزلاق إلى مستنقع الإسلاموفوبيا والعنصرية، وفقًا لمجلة “بوليتكو” الأمريكية.
لكن اللافت أن “ماكرون” منذ وصوله للسلطة اعتاد استخدام عبارات مستفزة ضد الإسلام والمسلمين، من قبيل تكراره دومًا لعبارة “الإرهاب الإسلامي”، حيث يرى مراقبون أن مهاجمة الإسلام باتت ملجأً للرئيس الفرنسي، لتحقيق مكاسب سياسية والهروب من الضغوط الداخلية والأزمات، في ظل تدنِّي شعبيته ومواجهته للعديد من المشكلات الاقتصادية.
أي أن الرئيس الفرنسي لم يكن أمامه، سوى مغازلة تيارات بعينها في السياسة الفرنسية، يتركز جلها في جانب اليمين المتطرف، في محاولة منه لرفع شعبيته المتدهورة وهو ما يعرف بسياسة “الهروب للأمام”.
ازدواجية السياسة الفرنسية في التعامل مع تيارات الإسلام السياسي داخليًّا وخارجيًّا
وتتسم سياسة ماكرون في مواجهة تيارات الإسلام السياسي بقدر كبير من الازدواجية داخل فرنسا وخارجها، ففي حين يعتبر أن هذا التيار مصدر كل شر لفرنسا، إلا أن السياسة الفرنسية الرسمية لا تعكس تلك الرؤية في تعاطيها مع جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، فعلى سبيل المثال لم تتخذ فرنسا حتى الآن أي خطوة لحظر جماعة الإخوان المسلمين المصنَّفة جماعة إرهابية في السعودية ومصر والإمارات، كما تميز باريس بين الجناح السياسي والعسكري لجماعة حزب الله اللبنانية علمًا بأن الحزب مدرج على قوائم الإرهاب في ألمانيا وبريطانيا وليتوانيا.
وقد أبرزت التحقيقات في مقتل المعلم الفرنسي صمويل باتي، تفاصيل عن خطورة نشاط جماعة الإخوان فى فرنسا، وتحديدًا القيادي الإخواني عبد الحكيم الصفريوي، مؤسس جماعة الشيخ ياسين، والمصنف من قبل الأمن الفرنسي في “القائمة إس”، التي وضعتها السلطات الفرنسية لتصنيف أصحاب الميل إلى التطرف، وفقًا لصحيفة “لوباريزيان” الفرنسية.
كما تشير صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية إلى أن العناصر المنتمية لجماعة “الشيخ ياسين”، كانوا ينشطون على موقع “أنصار الحق” الإلكتروني، الذي كان معروفًا باستقطاب المتطرفين للقتال في سوريا والعراق.
وربما كان قرار ماكرون بحل جماعة الشيخ ياسين يمثل صحوة متأخرة، وإدراكًا لخطورة تلك الجماعات على الداخل الفرنسي، علمًا بأن تقريرًا صادرًا عن مجلس الشيوخ الفرنسي في يوليو الماضي، كان قد كشف عن أن “مؤيدي الإسلام السياسي يسعون إلى السيطرة على المسلمين في فرنسا” من أجل إنشاء الخلافة، ويغذون في بعض المدن “نزعة انفصالية” خطيرة.
واقترح التقرير نحو 40 إجراءً للحد ممَّا سماه “التطرف الإسلامي”، من بينها منع التحريض والخطابات الانفصالية ومراقبة بعض المدارس والجمعيات، وتوعية المسؤولين المنتخبين ووسائل الإعلام، مبدية قلقها إزاء الحركات الإسلامية المتشددة التي تدَّعي أنها غير عنيفة، لا سيما السلفية والإخوان.
ويرى ألكسندر ديل فالي، أستاذ العلوم الجيوسياسية والعلاقات الدولية في كلية الأعمال التابعة لـ”معهد إعداد الإدارة العامة” في فرنسا، أن الإسلام السياسي يشكل تهديدًا خاصًّا، مشيرًا إلى محاولة جماعة الإخوان المسلمين للتسلل وغزو الغرب في ظل خطة ومشروع يريد إعادة الخلافة الإسلامية إلى العالم، وفقًا لموقع إذاعة “صوت أمريكا”.
السعودية تدعو إلى حرية فكرية تحفظ التسامح وتنبذ الكراهية
إن وجوب مواجهة تيار الإسلام السياسي أمر لا يُختلَف عليه، سواء في العالم العربي والإسلامي أو العالم الغربي، نظرًا لخطورة الأفكار التي يتبنَّاها أنصار هذا التيار على استقرار الدول والتعايش داخل المجتمعات، لكن المعالجة الغربية وتحديدًا الفرنسية لتلك المسألة انطوت على قدر كبير من الخلْط بين الدين الإسلامي بمبادئه السمحة والحركات السياسية التي تتخذ من الدين قناعًا في سبيل تحقيق مصالحها، فضلًا عن أن المفهوم الفرنسي لحرية التعبير التي تبيح “حرية التجديف” أي ازدراء الأديان والإساءة للأنبياء، تغذِّي التطرف، بل إنها فتحت المجال أيضًا لأنظمة مثل نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولجماعات الإسلام السياسي للمتاجرة بالموقف الراهن من أجل دغدغة المشاعر وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، فضلًا عن محاولة إعادة الزخم لجماعات الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان المسلمون.
وقُوبلت الرسوم المسيئة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بإدانة شديدة في العالمين العربي والإسلامي على كل المستويات الرسمية والشعبية، حيث استنكرت المملكة العربية السعودية تلك الرسوم، مؤكدة رفضها أي محاولة للربط بين الإسلام والإرهاب، وإدانتها لكل عمل إرهابي، أيًّا كان مرتكبه.
كما دعت المملكة إلى أن تكون الحرية الفكرية والثقافية “منارة تشع بالاحترام والتسامح والسلام وتنبذ كل الممارسات والأعمال التي تولد الكراهية والعنف والتطرف وتمس قِيَمَ التعايش المشترك والاحترام المتبادل بين شعوب العالم”، بحسب مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السعودية.
ودعت هيئة كبار العلماء في السعودية أيضًا إلى إدانة الإساءة إلى الأنبياء والرسل، مؤكدة أن الإساءة إلى مقامات الأنبياء لن تضر أنبياء الله ورسله شيئًا، وإنما تخدم أصحاب الدعوات المتطرفة.
وأشار الأزهر الشريف في بيان إلى حملة مُمنهجة للزج بالإسلام فى المعارك السياسية، وصناعة فوضى بدأت بهجمة مغرضة على النبي، مؤكدًا “لا نقبل بأن تكون رموزُنا ومقدساتُنا ضحية مضاربة رخيصة فى سوق السياسات والصراعات الانتخابية”.
وانطلقت أيضًا حملات شعبية في الدول العربية والإسلامية لمقاطعة المنتجات الفرنسية لتكون ردًّا عمليًّا على تلك الإساءة، وقد اعتبرت إذاعة “يوروب 1” الفرنسية أن عواقب تلك الدعوات ستكون وخيمة على الاقتصاد الفرنسي على المدى الطويل.
كما اعتبر المحلل السياسي الفرنسي فريدريك أنسل، أن المقاطعة بدأت بشكل رمزي، لكن تضاعف تأثيرها وانعكس سلبيًّا على الاقتصاد الفرنسي نتيجة للزخم على شبكات التواصل الاجتماعي.
وقد اتضح تأثير تلك المقاطعة من خلال الخطاب الفرنسي الذي جاء كرد فعل عليها، إذ اتسم بقدر كبير من الصلف والتعجرف، حيث دعت وزارة الخارجية الفرنسية إلى وقفٍ فوريٍّ لدعوات المقاطعة، زاعمة أنه لا مبرر لها، متحدثة عن احتجاجات بألفاظ حاقدة ضد فرنسا على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما نشر ماكرون تغريدة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية على حساباته بموقع التواصل الاجتماعي عبَّر فيها عن تمسكه برفض ما سماه “خطاب الحقد” ودفاعه عن “النقاش العقلاني”، على حد تعبيره.
ولا شك أن الموقف الفرنسي يعكس مفارقة غريبة، ففي الوقت الذي تبيح فيه فرنسا الإساءة إلى الأديان والرسل بدعوى حرية التعبير، فإنها تعتبر رفض الشعوب العربية والإسلامية لتلك الإساءة وإعمال حقها في حرية التعبير والدفاع عن المقدسات بأنه تعبير عن الحقد ضد فرنسا!
وختامًا.. يتضح ممَّا سبق أهمية وضع حدود فاصلة بين حرية التعبير والإساءة إلى المقدسات والأديان والرسل، بالنظر إلى كَوْنِ تلك الممارسات تُوفر بيئة خصبة لتعزيز وانتشار الفكر المتطرف، كما تُمثل فرصة لحركات الإسلام السياسي التي تقفز على كل أزمة مدعية أنها صاحبة الحق الحصري في الدفاع عن الدين، في حين أن ممارسات تلك التيارات قد أساءت إلى الدين الحنيف ووسطيته واعتداله وأضرَّت بصورة المسلمين.
كما أن الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا يقع على عاتقها معالجة تلك الإشكالية الفكرية والمفاهيمية المتصلة بحرية التعبير التي تشرعن التجاوز والإساءة ولا تراعي مشاعر ملياري مسلم حول العالم، فضلًا عن تصدِّي باريس للازدواجية التي تتعامل بها مع تيارات الإسلام السياسي، ففي حين تقوم حاليًّا بحملة لمكافحة تلك التيارات على أراضيها استشعارًا لخطورتها على أمن واستقرار المجتمع، فإنها لا تتبنَّى سياسات حاسمة تجاه تلك الجماعات والتيارات في العالم العربي، رغم ما ارتكبته من جرائم بحق الشعوب العربية، بل وفَّرت بيئة حاضنة لتلك التنظيمات.