برحلة عطاء ممتدة لأكثر من 6 عقود، تُوفِّي الشيخ صباح الأحمد الصباح، عن عمر ناهز 91 عامًا، بعدما قاد الكويت على مدى الـ14 عامًا الماضية، لتصبح منبعًا للأعمال الخيرية والإنسانية، ولم يدَّخر جهدًا من أجل مساعدة الشعوب العربية والإسلامية، كما لعبت الكويت في عهده دورًا مهمًّا في حل الخلافات بالمنطقة، من خلال مبدأ الوسطية في سياستها الخارجية، وهو نهج رسَّخه الشيخ صباح، عميد الدبلوماسية العربية والكويتية، الأمر الذي مهَّد الطريق أمام بلوغ البلاد مكانة عالمية في قيادة الوساطة لحل النزاعات بين الدول، بفضل حكمته المعهودة.
ومع الإعلان عن وفاة الشيخ صباح الأحمد، أصبح ولي العهد الكويتي الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح حاكمًا للبلاد في انتظار مبايعته أميرًا من قِبَل أعضاء مجلس الأمة الكويتي، وفقًا لنص المادة الرابعة من الدستور الكويتي لعام 1962 والمادة الأولى من قانون توارُث الإمارة الصادر في عام 1964.
الأمير الخامس عشر لدولة الكويت وعميد الدبلوماسية العربية
وُلِد الشيخ صباح أحمد الصباح في مدينة الجهراء عام 1929، وهو الابن الرابع للشيخ أحمد الجابر الصباح، وتلقى تعليمه في مدرسة المباركية بالكويت، حيث قام والده بإيفاده إلى الخارج للدراسة واكتساب الخبرات .
وفي عام 1954، عُيِّن صباح الأحمد الجابر، عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا وهي معنية بمهمة تنظيم مصالح ودوائر الحكومة ومتابعة خططها، وكان آنذاك لم يبلغ الـ25 عامًا، ثم تدرَّج بعد ذلك في تولِّي المناصب الحكومية وكان عضوًا في المجلس التأسيسي لوضع دستور الكويت أيضًا.
ومع صدور دستور عام 1962، تولَّى الشيخ صباح الأحمد عدة حقائب وزارية، إذ كان أول من تولى وزارة الإعلام في تاريخ الكويت، كما عُيِّن رئيسًا لوفد الكويت لدى الأمم المتحدة والجامعة العربية، وهو أول مَنْ رفع علم الكويت فوق مقر الأمم المتحدة بعد الموافقة على الانضمام إلى المنظمة في عام 1963، إذ أصبحت في حينها الكويت الدولة العضو رقم 111 في الأمم المتحدة.
وفي العام نفسه تولى حقيبة الخارجية، التي ظلَّ يشغلها طوال 4 عقود، حيث بات عميدًا للدبلوماسية العربية، إلى أنْ غادرها في يوليو 2003 بعدما تولى رئاسة مجلس الوزراء الكويتي.
وفي يناير 2006، تولَّى الشيخ صباح الأحمد، حكم الكويت بعد تنازل الشيخ سعد العبد الله الصباح، عن العرش لظروفه الصحية، حيث تم تسمية الشيخ صباح أميرًا للبلاد، ليؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة، ويصبح الأمير الخامس عشر للكويت.
ولم يـتأخر الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، في ترتيب البيت الداخلي بتسمية أخيه غير الشقيق الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح وليًّا للعهد، كما أنهى تقليدًا متوارَثًا في الأسرة الحاكمة عندما عَيَّن ابن أخيه الشيخ ناصر محمد الأحمد الصباح، رئيس الديوان الأميري، في منصب رئيس الوزراء (2006-2011)، في حين أنه جرت العادة أن يتولى وليُّ العهد منصب رئيس الوزراء، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”.
ترسيخ نهج الاستثمار من أجل الرخاء ودعم العمل الإنساني
نال الأمير الراحل، خلال مسيرته التي اتسمت بالعطاء اللا محدود، العديد من الأوسمة والتكريمات على جهوده الرائدة في دعم الاستقرار والتنمية ومساعدة مختلف الدول في أوقات الأزمات والمحن والكوارث، ففي عام 2014 كرَّمت الأمم المتحدة، الشيخ صباح الأحمد في احتفالية رعاها الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك “بان كي مون”، تقديرًا لجهوده الإنسانية، وسمَّاه “قائد العمل الإنساني”.
وكان للشيخ صباح دور كبير في دعم التنمية عبر المساعدات التي تقدمها الكويت وتستفيد منها أكثر من 100 دولة، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، ومنذ 2008 تخصص الكويت 10% من إجمالي المساعدات الإنسانية لدعم الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة، هذا فضلًا عن دور الصندوق الكويتي للتنمية في تقديم العون والمساعدات للعديد من الدول. كما أنشأت دولة الكويت صندوق الحياة الكريمة وساهمت بمبلغ 100 مليون دولار في هذا الصندوق لمواجهة الانعكاسات السلبية لأزمة الغذاء العالمية على الدول.
وفي عام 2009، استضافت الكويت مؤتمر القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية، ليطلق الأمير مبادرة دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتشجيعها، برأس مال قدره مليار دولار، وأمر بتقديم 500 مليون دولار لتفعيل انطلاقة هذه المبادرة، فضلًا عن تبرُّعِه بمبلغ 34 مليون دولار لتغطية احتياجات وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.
وحظيت القارة الإفريقية باهتمام الكويت فأعلن الأمير الراحل في عام 2012 خلال مؤتمر قمة الاتحاد الإفريقي عن تبرُّع الكويت بتكاليف تجهيز المقر الجديد للمفوضية العامة للاتحاد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بكل مستلزماته.
وفي العام نفسه، دعا الشيخ صباح الأحمد الدول الأعضاء في حوار التعاون الآسيوي إلى حشد موارد مالية بمقدار ملياري دولار في برنامج لتمويل مشاريع إنمائية في الدول الآسيوية غير العربية، معلنًا تبرُّع الكويت بمبلغ 300 مليون دولار لذلك البرنامج.
وبعد اندلاع الحرب في سوريا، استضافت الكويت المؤتمر الدولي للمانحين لدعم الوضع الإنساني في سوريا لثلاث دورات متتالية، وأعلنت عن التبرُّع بمئات الملایین لإغاثة اللاجئين السوریین في دول الجوار السوري. ولعل ذلك مجرد غيض من فيض إسهاماتٍ قام بها الشيخ صباح الأحمد لدعم العمل الإنساني والتنموي.
وقبل أسابيع قليلة، قام الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بمنح وسام الاستحقاق العسكري للأمير صباح الأحمد لدوره المهم في حل النزاعات وتجاوز الانقسامات في الشرق الأوسط. وتسلَّم النجل الأكبر للأمير، الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح، الجائزة نيابة عنه خلال حفل خاص.
وأشار بيان للبيت الأبيض إلى أن أمير الكويت كزعيم في الشرق الأوسط لعقود، كان صديقًا وشريكًا وقدَّم دعمًا لا غنى عنه للولايات المتحدة خلال عملياتها العسكرية في المنطقة، فضلًا عن أنه دبلوماسي لا مثيل له، ونجحت وساطتُه الدؤوبُ في حل النزاعات في الشرق الأوسط وتجاوز الانقسامات في ظل أصعب الظروف.
الدبلوماسية الهادئة والسعي نحو التوافق وتسوية الخلافات
وقد اتسمت مسيرة الشيخ صباح الأحمد بالسعي الدائم إلى تثبيت دعائم الاستقرار وتسوية النزاعات ولمِّ الشمل وحل الخلافات بين الدول العربية، ففي عام 1972 أسهم في إبرام اتفاقية السلام بين شطري اليمن، اليمن الجنوبي واليمن الشمالي، لوقف الحرب الأهلية. كما قام بوساطة ناجحة بين سلطنة عمان واليمن لتخفيف حدة التوتر بينهما، حيث وقعت الدولتان على إعلان مبادئ، لإنهاء حرب إعلامية وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين في عام 1980، واختارته جامعة الدول العربية في عام 1988 ليترأس اللجنة السداسية لتحقيق التوافق للأطراف المتنازعة في الحرب اللبنانية الأهلية.
كما كان للشيخ صباح مبادرات رائدة تجاه دول الجوار، من أبرزها زيارته للعراق في یونیو 2019، والتي كانت الزيارة الأولى من نوعها إلى بغداد منذ الغزو العراقي للكويت، إذ دشنت تلك الزيارة صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
وسعى أمير الكويت الراحل إلى إعادة ترتيب البيت الخليجي والقيام بجهود وساطة بين دول الرباعي العربي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) من جهة وقطر من جهة أخرى، من أجل تسوية الأزمة القطرية والحفاظ على منظومة مجلس التعاون الخليجي، لكن المراوغة القطرية ونكوص الدوحة الدائم عن التعهدات واستمرار قطر في السياسات التخريبية الداعمة للإرهاب والمتطفِّلة في شؤون الدول العربية وعدم استجابتها لمطالب دول الرباعي العربي كان كفيلًا بإعاقة كل جهد تبذله الكويت سعيًا لتحقيق التقارب وانفراج الأزمة القطرية.
العالم العربي ينعي زعيمًا نادرًا.. ويشيد بمناقب الأمير الراحل
ونعى القادة والزعماء العرب أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد بعد مسيرة حافلة بالإنجازات قضاها في خدمة بلاده والأمتين العربية والإسلامية، حيث نعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
وقدَّما خالص التعازي وصادق المواساة لعائلة آل صباح الكريمة في دولة الكويت، وللشعب الكويتي الشقيق، وللأمتين العربية والإسلامية في وفاة صاحب السمو الشيخ صباح -رحمه الله– الذي رحل بعد مسيرة حافلة بالإنجاز والعطاء، وخدمة جليلة لبلده وللأمتين العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء.
وأكد خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد، حفظهما الله، أن المملكة وشعبها يشاركون الأشقاء في دولة الكويت أحزانهم، ويبتهلون إلى الله جل وعلا أن يلهم الأسرة الكريمة والشعب الكويتي الشقيق الصبر والسلوان في هذا المصاب الجَلَل، وأن يديم على دولة الكويت وشعبها الشقيق الأمن والاستقرار والرخاء والازدهار.
ونعى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، ببالغ الحزن والأسى الشيخ صباح الأحمد، كما أمر بإعلان الحداد لمدة 3 أيام وتنكيس الأعلام خلالها على جميع الدوائر الرسمية داخل الدولة والسفارات والبعثات الدبلوماسية لدولة الإمارات في الخارج.
واعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن الأمة العربية والإسلامية فقدت قائدًا من أغلى رجالها، معلنًا الحداد العام لمدة 3 أيام على الفقيد.
ونعت الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي الشيخ صباح الأحمد، مؤكدة أنه كان صوتًا للحكمة والاعتدال ويتمتع بمكانة عالية بين قادة العالم، بينما وصف أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، الشيخ صباح الأحمد بأنه زعيم عربي نادر، مشيدًا بالحس العروبي الصادق الذي تمتَّع به الراحل العظيم، ومواقفه المُشرفة في خدمة القضايا العربية ودعمه للجامعة العربية الذي لم ينقطع، ومساعيه الحميدة للحفاظ على وحدة الصف العربي بحكمته المعهودة، وتمسكه المستمر بالحوار كنهجٍ لحل المُشكلات المستعصية.